لزوم العودة إلى مبادرة أساتذة جامعة الخرطوم

 


 

 

 

اقتحام أماكن التعذيب لتحرير المعتقلين والمعتقلات

 
(1)
التحية، من بعيد ومن قريب، للمقاومين، من الجامعات المختلفة، من أصحب مبادرة أساتذة جامعة الخرطوم، موضوع هذا المقال. الذين اعتقلتهم قوات جهاز الأمن، بسبب مشاركتهم في كتابة ودعم الأفكار في وثيقة المبادرة من صفحة ونصف الصفحة، المرفقة في نهاية هذا المقال، وموضوعُ مبادرتهم كيفيةُ الانتقال "السلمي" للسلطة، مما كان كافيا لتسبيب الذعر في أدمغة الإسلاميين أصحاب الإنقاذ، وفي أدمغة مثقفي النظام، كتاب السلطان.


(2)
فليتذكر شبابُ المقاومة، أن أول ما يفكر فيه الإسلامي المذعور، إن أنت تجرَّأتَ فتحديتَه، هو أن يُلقي القبض عليك، ذكرا أكنت أم أنثى، ويحبسَك، في أحد الأماكن المخصصة للتعذيب، وأنت تعرف جيدا، من تجارب معارضين آخرين، ما سيفعله هذا الإسلامي، عضو جهاز الأمن، بك، وأنت في قبضته، معزولا من ذويك الأقربين، ومن مجموعتك، ومجتمعك المحلي، ومن السودانيين الآخرين لا يعرفونك.


(3)
ولتتذكر، أيها الشاب المقاوِم، ولمَّا يأت زمن اعتقالك بعد، لكنه قريب، وقد يكون وشيكا، أن هذا المعذب الإسلامي، وأنت في قبضته، وقد سيطر على جسدك، سيشكل مجموعة من ستة بلطجية، إسلاميين، للاعتداء عليك، بالضرب بالأيدي، وبالعصي، والسيطان، وخراطيش المياه البلاستيكية، وكعوب البنادق، وبكل ما قد لا يخطر لك على بال، ستة أوغاد من الإسلاميين المتوحشين، وهم مدربون، ضدك، وحيدا، وقد أحاطوا بك.
وهم، في هذي مجموعة الذئاب الناطقة، يسُبُّونك، ويسبون أمك وجدتك وأباك، دون ترتيب، بأقذع الألفاظ، من قاموس التعهر الإسلامي، يلصقون بك أسوأ أنواع الإسناد، ويمنعون عنك الماء والغذاء، ويهينون كرامتك، بشتى وسائل حذقوها بالدربة، ومن كثير الممارسة، ومن تراث الحركة الإسلامية السودانية، منذ العام 1989.


(4)
لا يريدون لك أن تفارق الحياة، وإلا موتُك ضيَّع عليهم روعة المشهد وأنت تتلوى من الألم غير المطاق، وهم، لضمان استمرارية تعذيبك، وصراخك، لن يتركوك، إلا بعد اهتزاز أجسادهم بلذة إفراغ أشواقهم الجنسية، في سياق أدائيات درامية، يستعرضون فيها ذكورتهم وذكوريتهم، وسيطرتهم الكاملة عليك، لن يتركوك تموت قبل أن تمكِّنهم، إسلاميا، من جسدك، حيث متعتهم المستحقة مقررة بعقد انقلاب عسكري إسلامي.
يتضاحكون وهم يضربونك، ويتآنسون فيما بينهم، عنك، وعن زوجك، أو عن أختك، على مسمع منك ومرأى، وكأنك غير موجود، وفي أسماع المعتقلين الآخرين، إمعانا في الحط من كرامتك، وأحيانا يأخذون قسطا من الراحة، ثم يعودون، ربما بوجبة طعام، يقسرونك قسرا على تناولها، إن أنت تمنعت، ثم يواصلون، من حيث كانوا توقفوا، في أدائية تعذيبك بغير نهاية.
(5)


وأنت لا تدرك أن هذه الأدائية الإسلامية الشيطانية، لم تكن من إبداعهم، في لحظتها، بل كان أصلا تم تدريبهم عليها، بواسطة ضباط عارفين، من خيرة نخبة الحركة الإسلامية السودانية، مهندسين، وأطباء، وأساتذة جامعات، وخريجي دراسات عليا، مهمتهم الاجتهاد لتطوير أساليب في التعذيب ذات جماليات إسلامية، يجدون لها تأصيلا في المصادر الحاكمة، في القرآن والحديث والفقه، وفي تاريخية الدولة الإسلامية، ويؤصلون نوع التعذيب الذي يعرضونك له، في تجربتهم الإسلامية الناجحة، في بيوت الأشباح 1989، تجربة يحتفون بها فيما بينهم، أن بيوت الأشباح هي التي مكنت نظامهم ثلاثين عاما، وسهلت لهم مقصدهم في تطوير صناعة الفساد، مقصدهم الأساس، وأثبتت لهم أن فسادهم لا يمكن حمايته، إلا بإجرام الدولة الإسلامية.


(6)
وقد حدثك الشهيدُ أحمد الخير عوض الكريم، وجثمانه مسجى على طاولة المشرحة، والجثمانُ يتحدثُ، بلغة مكتوبة في الجسد الحي وقد تصير جثةً، حدثك أحمد عن روع مشهد رهيب، في استعراضية هذا الجبروت الإسلامي، حدَّثك عن مشهد اغتصابك جنسيا، أنت، شخصيا، وأنت مثله يراك من قبره مقاوما تخضع للتعذيب.
فأنت الآن على علم، بما ينتظرك، أن هذا الإسلامي، بين إخوانه، سيغتصبك جنسيا، بأداة بشرية، أو بجمادِ آلة حديدية، أو خشبية، مدببة أو حادة، لا فرق، يحملها مُقدَّم منهم، متخصص في الاغتصاب الجنسي، لا يهم ذكرا كنتَ أم أنثى.
أنت تعلم الآن، من أحمد الخير، ومن المعتقلين الشهود، ضحايا الاغتصاب الجنسي، أن هذا الإسلامي، سيعتدي عليك جنسيا، لن تفيدك مقاومةُ المناضل الجسور أمجد، له التحية، ستة إسلاميين أوغاد أشداء، ضدك وأنت في عزلتك واحد، سيخترقونك مباشرة، في دُبُرٍ، أو في قُبُلٍ، أو في أي مكان في جسدك، بملابسك، أو أنت "مالص"، أنثى أكنت أم ذكرا، وهم يجدون في هذا اغترابهم عن الذات الإنسانية، وعن أهل السودان، وعن العالم من حولهم، يجدون، في غربتهم وغرابتهم، كإسلاميين، إرواء رغبات نفسانية دفينة ومرعبة.


(7)
ولأن هذا القطيع من ذئاب ناطقة، من ستة أو خمسة إسلاميين وحوش، اعتمدوك جسدا نافقا، وأنت تنبض بالحياة، فأنت عندهم لا تستحق الحياة، أصلا، ما دمت عدوا للنظام الإسلامي، ولن يكترثوا إلى أن تعيش، أو أن تموت، تحت التعذيب.
وإن قررت بمحض إرادتك مفارقة الحياة وأنت تتألم تحت التعذيب، وفارقت حياةً يتحكم فيها إسلامي، فوكلاء النيابة الإسلاميون، وأطباءُ التشريح الإسلاميون، وكبارُ ضباط الشرطة الإسلاميون، والإعلاميون الإسلاميون، وكل مؤسسات النظام الإسلامي، مستعدةٌ، وهي مدرَّبة، لتزوير حقيقة تجربتك في التعذيب، ولتزوير موتك ذاته، يعلمون أنك لن تكون حاضرا، لتُفاصِل، باللغة.
وهنالك دائما المثقف الإسلامي، هو الآخر سيزوِّر حياتك التي ركبتها تركيبا في مقاومتك ضد الإسلاميين، ليقول هذا المثقف، بالكذب، إنك كنت إسلاميا، منهم، وإنك بموتك فديتهم، جميعهم، الإسلاميين الذين اغتصبوك جنسيا وقتلوك تقتيلا، وغسلت كل ذنوبهم، وأعدت للإسلامية مجدها. (عبد الله علي ابراهيم، أحمد الخير مسيح الإسلاميين)


(8)
فلتبدأ، أيها الشاب المقاوم، وأيتها الشابة المقاومة، في التفكير، الآن، والتخطيط، بالعزيمة الماضية، ليوم قد يأتي، حين تلاقي قدرَك، لاتخاذ القرار الجماعي، قرار اقتحام أماكن تعذيب المعتقلين، في جميع أرجاء السودان، في توقيت موحد أو غير موحد، لتحرير المعتقلين، وتحرير المعتقلات، واحتلال مقار التعذيب، وحرقها إلى الأرض، نعم حرقها إلى الأرض، دون تردد.


(9)
لكن، دائما، وكما أنت تعرف، لا يكون حرق هذي مقار التعذيب إلا بعد إخلائها، من جميع الأشخاص، كما كتبتُ لك سابقا.
وحتى أصحابها الإسلاميين المعتدين، لا يجوز لك، أخلاقيا، الاعتداء عليهم، بل واجبك تَعرفُهُ، من تجربتك في مقابر الصحافة، مع الأمنجي وقد ألقيتَ القبض عليه واستوليتَ على مسدسه بطلقاته، "مسكين والله يا جماعة، زيكم"، هكذا توسل إليك، فتركته، وتعلمت درسا، في كيف تكون المقاومة، واكتسبتَ قوة أخلاقية إضافية، والأخلاق يتم اكتسابها في لحظة الفعل الثوري، لا بصورة سبقية.
وعندك تجربة شباب العباسية، ومداولاتهم بشأن ما يتعين فعله مع "الأسرى"، أثناء معركة مع قوات النظام الإسلامي، التي انتهت إلى تخليصهم ضابط الشرطة من موت محقق، تركوه طليقا يساعدونه في المشي وقد ساخت ركبتاه، يترنح من هول المفاجأة، لا يصدق أنه نجا، بحياته.


(10)
ذلك اليوم، يوم اقتحام أماكن اعتقال المقاومين، آت، لا محالة، وأنت على موعد مع لحظة تاريخية، خارج القانون الإسلامي الساري، وجها لوجه مع الشر، بالأجساد المتراصة، المسلَّحة بشرعية مقدسة، وبالأخلاقية (وولتر بنجامين، من وحي لزوم استخدام العنف الثوري ضد الشر، وهنا الشر إسلاميٌ).
كل ما تحتاجه للجاهزية، لهذا اليوم، هو ملاقاتك التفكير، المتعمِّق، المتدارَس حوله بين الشباب، والمستعين بتقديرات ونصائح البالغين، كمستشارين، لا كأصحاب القرار النهائي.
وهو معنى المقاومة الأخلاقية في ثورة الشباب، تتشكل من ملاقاة كل حدث، على حدة، وتتعامل مع الحدث وفق ظروفه، في لحظية زمانيته، لا على أساس نظرية سبقية. لكن النظرية مهمة، تنتظر ظروف تطبيقها، والظروف هي التي تستدعي النظرية، ومن ثم تعين النظرية في تشكيل الممارسة.


(11)
وتذكَّر أن كل مقاوٍمة معتقلة هي أختُك، أو هي الحبيبة، أو الصديقة، أو هي الزوجة، وإن لم تكن كذلك هي، هذه المعتقلة.
والمقصود هو التفكر العميق في معنى العلاقة، "ذوو القربى"، في سياق الثورة، لفهم لزوم اقتحام مقار التعذيب لتحرير المعتقلين، باعتماديهم من ذوي القربى.
فأنت قد لا تنفعل مع مصير أشخاص ليسوا من "ذويه"، في عبارة سعد الخير، أي، ليسوا من ذوي القربى، أو أنت لا تعرفهم، خاصة والتفاصيل غير معروفة، أو غير واضحة، وكله يبدو بعيدا عن دائرة القرابة الضيقة.


(12)
حين قال الإسلاميون أصحاب الإنقاذ، وهم يكذبون بوقاح، والكذب عندهم إسلامي له تأصيل، إن "ذوي المرحوم"، أهل الشهيد أحمد الخير، قالوا إن وفاته كانت "طبيعية"، رد عليهم شقيقه سعد الخير بقوة:
"أنحن ذويه، ما في زول تاني ذويه، أنا ذويه، أنا أخوه، ما في زول تاني ذويه، أنا دا، أنا المسؤول من الحاجة دي [توصيف آثار التعذيب في جسد أحمد]".
وقدم سعد الخير الإثبات، من مشاهدته المباشرة آثار تعذيب شقيقه أحمد، وآثار اغتصابه جنسيا، والكيفية التي قتَّله بها الإسلاميون تقتيلا.
وهكذا انفعل شباب المقاومة، وجميع السودانيين، باستثناء إسلاميي الإنقاذ، مع تعذيب أحمد الخير، المعتقل في وحدة جهاز الأمن بخشم القربة، ووفاته في عربة جهاز الأمن في الطريق إلى كسلا، حين أخذوه من حيث ذويه، في خشم القربة، خوفا من أن يقتحم ذووه، في المجتمع المحلي، حراسات الأمن، لإنقاذه.


(13)
هنا يظهر دور "القرابة"، في الانفعال مع مصير معتقلات ومعتقلين قد لا تعرفهم، أيها المقاوم، ومن ثم أنت لا تنفعل مع وضعيتهم، لأنهم ليسوا من ذويك.
وهو ما تحدث عنه أهل دارفور، والنوبة، أن شباب الوسط، أو المركز، لم ينفعلوا مع آلاف حالات التعذيب بواسطة الإسلاميين ضد النساء والأطفال والبالغين والمسنين في مناطقهم، واستغربوا الغضب العارم الذي استحوذ على الشباب، بسبب استشهاد أحمد الخير، تحت التعذيب بواسطة ذات الإسلاميين، وقد كان التعذيب بواسطة الإسلاميين ويظل أمرا يوميا في دارفور ومنطقة النوبة.


(14)
إن المقاومة الشبابية الثورية، بأخلاقيتها، تعتمد قُدسية حياة جميع المقاومين والمقاومات، في جميع أرجاء السودان، على أنهم من ذوي القربى، حتى وإن كنت لا تعرفهم ولا صلة قرابة لك معهم، أيها المقاوم.
وهو مناط التفكير في اقتحام أماكن الاعتقال، لتحرير هؤلاء المعتقلين، تحديدا لأنهم من "ذوي القربى"، بالفهم الأعمق لهذه القرابة، في سياق الثورة.
وهي ذاتها قصة المعارِضة أنتيجوني، في الأسطورة الإغريقية، التي تحدت قانون الدولة، بقانون الشعب، وقررت أن تدفن أخاها، بسبب أنه أخوها، غير آبهة بالملك.
والتحدي أمام الشباب هو الارتقاء إلى هذا الإدراك، وتحدي الإسلاميين، في عقر دارهم في أماكن التعذيب، تحديهم من منطلق قدسية حياة المعتقلين والمعتقلات، بسبب قرابتهم مع جميع المقاومين خارج المعتقلات.
وتتشكل هذي قدسية حياة ذوي القربى، وهم جميع المعتقلين والمعتقلات، في ملاقاة الحدث والاشتباك معه، وهو حدث التفكير العميق في المسؤولية المتحدرة من "العلاقة" معهم وهم في قبضة إسلاميين معذبين أنذال.


(15)
وفي أرقى مراحلها، تتمدد حرمة الحياة، المرتبطة بلزوم حماية جسد القريب، حمايته من العنف، تتمدد لتشمل حتى جسد هذا الإسلامي، ذاته المعتدي، في اغترابه وغربته وغرابته، ولتشمل أجساد أفراد أسرته. وقد كتبت أن العنف الثوري لا يطال بيوت الإسلاميين، لأن فيها أطفالهم.
وهي نظرية المقاومة الأخلاقية، في سياق ثورة الشباب، حيث تتشكل صلة "القرابة" كعلاقة إنسانية، لمجرد كون الآخر إنسانا، وبها يصبح الإسلامي النذل من "ذوي القربى"، ومن ثم يستحق أن ندافع عن حرمة جسده وأن نحميه (وهي نظرية جوديث بتلر عن العنف، والأجساد النافقة، وعن التوزيع غير المتكافئ للبكاء والتحزن على موت الآخر).
وذلك مستوى في الأخلاقية لا وجود له في منظومة القيم التي يعتقد فيها الإسلامي، وفي ذلك كذلك سبب إضافي، ليس فقط لاقتحام مقار التعذيب لتحرير المعتقلين، بل كذلك لوضع حد نهائي للدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، قصد تركيب العلاقات بين السودانيين على أساس "إنسانية" كل سوداني.
فلنبحث عن مداخل واقعية مركوزة في الفهم، لا في العواطفية، لأنسنة هذا الإسلامي الشرير المتوحش.
....
والتحية لجميع المعتقلات والمعتقلين في مراكز التعذيب
...

البداية الجديدة


مقدمة


(1)
فهذا المقال (من عشر ألف كلمة) موضوعه نقدُ مبادرة أساتذة جامعة الخرطوم، المبادرة المخيفة في تكييف الإسلاميين الذين اعتقلوا قيادة الأساتذة أصحابها.
والنقد هنا بمعنى تبيين ماهية المبادرة، وتحديد ماديتها، واستحضار ما غيبته من نصها، والتفكر في كيفية تطويرها إلى هيئة أكثر إفضاء إلى تحقق طموح "الهبة الشبابية غير المسبوقة"، الحدث الثوري الذي هيأ لهذه المبادرة أن تكون، ابتداء.
هذه المبادرة أفضلُ تدخلٍ لتأطير التفكير في كيفية "الانتقال السلمي"، من طغيان "سلطة الإنقاذ"، وعنفها المريع، ومما خلَقته الإنقاذ، من وضعيات الاستضعاف والهشاشة والعوز (الاقتصاد)، ووضعية "التمكين الإسلامي"، وهو "الفساد"، إلى "نظام سوداني جديد"، عبر "سلطة انتقالية" تُحظى بقبول "جميع السودانيين"، قصد "تحقيق" السودانِ "استقلالَه الحقيقي".
وهي لغة المبادرة، وسأتحدث أحيانا بها، ومن داخلها، في النص الذي كتبه أساتذة الجامعة، وأنطلق من هذي منصة المبادرة، وهي مكانية النص، للتفكر في كيفية ملاقاة "البداية الجديدة" للسودان، وهذه "البداية الجديدة" هي موضوع ثورة الشباب، بدونها لا توجد ثورة شباب.


(2)
سأعرض في مقال لاحق، بالتفصيل، لفكرة "البداية الجديدة"، وهي الفكرة المنتزعة انتزاعا، من الحدث التاريخي المتمثل في هذي "سانحة" الهبة الشعبية، في لغة المبادرة، والمتمثلة في إنشاء السودان مُتخَيَّلا بصورة مختلفة عن حاضره البئيس، إنشاؤه بتركيبِه "مِن أوَّل وجديد"، على أرضيات أساس، وهي لغة الشباب.
وقوام هذه "الأرضيات الأساس" هو ضمان استحقاقات المواطنين السودانيين في الوصول إلى قدرات الصحة، والتعَلُّم (لا التعليم)، والغذاء والسكن، والضمان الاجتماعي، والأمان، دائما في معية ضمان استحقاقاتهم في الحريات الكاملة، دون استثناء، بما فيها الحريات الجنسية، بغير المعنى المبتذل المعتمد لدى الإسلاميين.
وكله، من استحقاقاتِ حرياتٍ، ومن استحقاقاتٍ اقتصادية، موجود في الشِّرْعة الدولية لحقوق الإنسان، لكن هذه الشرعة ليست إلا بعض إطار لأفكار وأشواق، لا أكثر. وهي لا تضمن حقا، لمجرد أن الحق مكتوبٌ في الأوراق.
وإنما توفر الشِّرْعةُ الدولية اللغةَ، بمفرداتها ومفاهيمها، التي تشكل أرضيةً لمقاربة تحقيق مادية الاستحقاقات المرسومة.
وحيث لا يُتحصل على حقٍ إلا بالمقاومة، لضمان احترام الاستحقاق، وحمايته من أمثال الإسلاميين، وإنفاذه بقوة التخطيط العلني، رغما عن أنف الإسلاميين، وأصلا سقط نظامهم القائم على الظلم والقهر ومصادرة الحريات.


(3)
هذه الفكرة، "البداية الجديدة، لا تعتمدها مبادرةُ الأساتذة، من حيث إن مدى فهم الأساتذة لمبادرتهم محصورٌ في "الإصلاح"، الذي يبقي الدولة العميقة كما هي، في سياق حكومة انتقالية.
والمبادرة غير معنية بـ "التغيير الحقيقي"، وإن هي اقتبست بعض عباراته، هكذا، عفو الخاطر، بسبب الخمول، والخوف من ملاقاة التحديات الصعبة أمام كل تغيير حقيقي.


(4)
ويعني التغيير الحقيقي، في ماديته، تفكيكَ كامل هيكلة الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة/نظام الإنقاذ/الحركة الإسلامية السودانية، من حيث المؤسسات الإجرامية التي أنشأها الإسلاميون لصناعة الفساد ولحماية صناعة الفساد. وفي ذلك تفصيل عظيم ليس هذا مجاله.
ويشمل التفكيكُ كاملَ ما وَرِثَه هذا "النظام" الثلاثيني، من طبقات مترادمة من الفشل والإجرام والفساد والعنصرية والخرافات الدينية، قبل مجيئه، منذ الاستقلال وما قبله، بما فيه من: بشاعات الدويلات الإسلامية، مثل مملكة الفور؛ والتركية والمهدية، وهما سيان؛ والاستعمار المصري الإنجليزي؛ وكذا الاستعمار العربي الإسلامي لشعوب جنوب السودان؛ وحكومات أزهري وعبود والصادق المهدي، والنميري؛ وعجز حكومة الانتفاضة واحتيالها.


(5)
وورِثت الإنقاذُ فسادَ حكومة الصادق المهدي، الثانية، وإجرامَها، بما فيه إجرام الصادق المهدي شخصيا، كرئيس للوزراء، إجرامه وفق عقيدة مسؤولية القيادة، ووفق تدخله المباشر، في معية برمة ناصر، ومهدي بابو نمر، في تسهيل غزوات الرق، وفي تشجيع العنف العرقي، وفي دفاع الصادق المهدي وحزبه، في معية الحزب الاتحادي الديمقراطي، عن الجناة الذين قتلوا أكثر من ثلاثة ألف من المدنيين الدينكا بمدينة الضعين؛ ومن بعد، تستر الصادق المهدي رئيس الوزراء على هؤلاء الجناة، وعلى رأسهم، بشأن مذبحة الضعين والرق في دار الرزيقات، أسرة مادبو الحاكمة، التي شاركت بفعالية في تجارة الرق، وخططت لتنفيذ مذبحة الضعين، ثم أنتجت أسرةُ مادبو الكذبَ لخدع الشعب السوداني بشأن هاتين المفظعتين.
...
ولا يعني التفكيكُ لكامل هذا الإرث إلا إنشاءَ نظام جديد، على أنقاض النظام القديم، هذا القديم بخرافاته الدينية المستحضَرة في الفعل السياسي، وبذلك إجرامِه ذي التأصيل في النصوص الحاكمة، وبفساده الذي يقتل ويسبب المرض والشقاء، وبعنصريته برقِّها ومذابحها، وتثبيتِه الاحتيالَ صرحا إسلاميا قائما بذاته، لتدبير التحكم بالقوة العنيفة في حياة المواطنين السودانيين، وإهانة كرامتهم.


(6)
فأفضل ما في مبادرة الأساتذة، من هذا المنطلق، هو أن هيكلة "الانتقالية"، التي صممها أساتذة الجامعة، وإنْ هي هذه "الانتقالية" قُدِّر لها أن تجد القبول وأن تنجح، حتى وهي "إصلاحية" النزعة، هذه الهيكلة للانتقالية ستُمثل شرطا موضوعيا ضروريا، ودائما غير كاف لوحده، لملاقاة الشبابِ إمكانيةَ وعدِ "البداية الجديدة"، لذلك إنشاءِ السودان وتركيبِه "من أول وجديد".
أي، إن البداية الجديدة، التي يريدها الشباب، تستدعي "انتقاليةً سلمية". ومن ثم، لزوم إدراك الشباب أن كل "انتقالية"، بطبيعتها، ستحمل بعض مكونات القديم، وستأتي مسكونة بالاحتمالات الخطيرة، منها احتمالية نجاة الدولة العميقة الشريرة من التفكيك الكامل، في سياق "الحكومة الانتقالية"، ومنها احتماليةُ بقاءِ بعض ما وَرِثته الإنقاذ نفسها.


(7)
فيمكن للشباب، والذين لا تذكرهم مبادرةُ الأساتذة باسمهم أصلا، ولا هي تتذكرهم، يمكن لهم الاستفادة من مساحات الحرية النسبية، والنجاحات الاستراتيجية الصغيرة، المتوقع تحققها، نتيجة أي نجاح لهذه المبادرة، والتي لا يوجد للإسلاميين أفضل منها، إلا تدخل الجيش لصالحهم، حتى وإن قطع هذا الجيش المتدخل رأسَ ملكهم عمر البشير.
ومن ثم يمكن للشباب، في حال نجحت المبادرة في انتقالية سلمية، يمكن لهم المضي قدما في المقاومة الدائمة لا تتوقف، قصد السعي إلى إنشاء أشكالٍ للحياة جديدةٍ، لا تخطر أصلا ببال الأساتذة أصحاب المبادرة الإصلاحية، بما في ذلك باستخدام هؤلاء الشباب تقنية "الانتخابات"، على مساوئها، للوصول "الديمقراطي" إلى محل اتخاذ القرار، وحيث تُتخذ القرارات بشأن هموم الشباب، وبشأن مستقبل السودان.


(8)
وليس مستقبل السودان إلا وهو بالدرجة الأولى مستقبل هؤلاء الشباب، لا مستقبل أولئك السياسيين المعارضين المحترفين، في الستينات والسبعينات والثمانينات من العمر، لا يعرفون الحياء، ولا يتذكرون حاكمية بيولوجيا الجسد، ولا يرون الموت الذي يفرون في وجهه، ولا يُقِرون بأن العالم تغير وهم نيام، مشغولين بالسياسة كلعبة قذرة بدون مبادئ وبدون أخلاق.
والذي أعنيه هو لزوم القطيعة الفكرية مع القديم، وليس في هذا القديم غير خرافات مخترعة عن ماض حالم وسعيد يُدعى له بالكذب أنه كان خاليا من مثل هؤلاء الإسلاميين الأشرار، فهم كانوا دائما هناك.


(9)
فلعل هذه المبادرة أفضل تدخل سياسي في الوقت الراهن، وهي تُنهي كافة المبادرات الضعيفة أو المتهافتة الأخرى، بما فيها "إعلان الحرية والتغيير" لتجمع المهنيين السودانيين، وإعلان الأحزاب المتحالفة الهاربة من المؤتمر الوطني، والإعلانات المضطربة من الصادق المهدي، وغيرها من تدخلات غير ذات أهمية، آخرها إعلان الوحدة بين مني وعقار، وهو إعلان لا قيمة له، بسبب أنه خارج التاريخ، في تمسكه بالعمل المسلح، ولأنه يخادع بالزعم بدون دليل أو منطق أن السلاح يدعم السلمية المدنية.
ولا تستحق مبادرة الجزولي دفع الله أن تذكر، هذا المخادع الذي تسلل إلى رئاسة الوزراء في الحكومة الانتقالية للانتفاضة 1985 بإخفاء عمالته للجبهة الإسلامية. وقد قصد ومعه آخرون قطع الطريق على مبادرة الأساتذة.


(10)
وكذا تقضي مبادرة الأساتذة على أيةِ مشروعيةٍ لـ "تدخل الجيش"، وهو التدخل الذي ظل يدعو إليه صراحة، أو يتمناه في السر، بعض السياسيين المعارضين، وياسر عرمان الذي تم تجريده من كل سلاح ويظل يدعو للنضال المسلح، والمثقفون كتاب السلطان، والحركات المسلحة، وذو النون عثمان.
ولتدخل الجيش كذلك دعاة في كيانات احتيالية في الأنترنيت، مَرَسَّلة، مصعب الضي بشارة، والشاب اللَّغْوَنجي من دارفور وكردفان والحاج يوسف ومن عدة مناطق، وهو لا يكتب اسمه، ربما أكثر المَرَسَّلين ذكاء وقدرة على النَّضمي الخدَّاع، لكن اللغةَ وهي سلاحُه، كانت له بالمرصاد، وفضحت حقيقته، حين غير الموجة، بالتوجيه، وكشف قناعه، ودعا إلى تسيير مظاهرة إلى مقر قيادة القوات المسلحة، ليطلب منها الشبابُ المتظاهرون أن تنحاز للجماهير، ولكي تسبب المظاهرة إحراجا لجهاز الأمن! ومن بعد استمر في التأجيج لتدخل الجيش.
...
فقوة مبادرة الأساتذة تكمن أيضا في أنها ترسم طريقا إلى انتقال "سلمي" للسلطة لا يمر عبر "انحياز الجيش"، بل هي مبادرة تتجاوز الجيش، وإن كانت تقدم له رشوة، مقعدا في المجلس السيادي، وهو مقترح من قبل الأساتذة سأبين خطله.


الموضوعان الرئيسيان في المرحلة الراهنة
عليه، تتلخص الوضعية السياسية الراهنة في موضوعين أساسين، (1) نوعية التغيير المنشود، و(2) كيفية الوصول السلمي إلى ظروف التغيير، أيا كان نوعه؛ ويتعين الفصل بينهما، حتى وإن كانا متداخلين:


أولا،
نوعية التغيير المنشود مجال الصراع الراهن
فالموضوع الأول هو طبيعة التغيير المنشود، الحقيقي، المشدود إلى ملاقاة الشباب "البداية الجديدة"، لتركيب السودان، "من أول وجديد"، ولا علاقة لهذه لفكرة بفكرة جون قرنق، الفاشلة، عن "السودان الجديد".
وهذي طبيعة التغيير المنشود هي أيضا مجال الصراع الوجودي الدائر اليوم، ولمَّا يتسابق الإسلاميون بعد إلى مطار الخرطوم، مما سيحدث، إن لم يتم حسم الصراع لصالحهم.
فهو صراع بين دعاة هذا التغيير الحقيقي، وهم الشباب، في معية البالغين أعوانهم، من جهة، وبين دعاة الإصلاح، والهبوط الناعم، وترك الثنائيات، وكلنا أخوان، وهم ناس النظام القديم، وفيهم السياسيون المعارضون، في معية الإسلاميين بأشكالهم المتعددة، من جهة أخرى.


ثانيا،
كيفية الانتقال "السلمي" من الوضع الراهن إلى "وضعية الحكومة الانتقالية"
(1)
هنا تتفق جميع الأطراف على "السِّلمية"، خاصة الإسلاميين، يريدونها سلميةً، بعد أن ألحق الشبابُ الهزيمةَ الماحقةَ ببلطجية كتائب الظل، وبأوغاد جهاز الأمن، وبعد أن تمت التعرية الكاملة، لمؤسسة التعذيب الإسلامي، في مذبحة المعلم أحمد خير، الذي قتله الإسلاميون، بعد أن عذبوه واغتصبوه جنسيا بآلة صلبة حادة.
إذ يدرك الإسلاميون، لأول مرة، أن السلمية قد توفر لهم فرصة استمتاع إضافية بكل أو بعض الممتلكات والأرصدة المنهوبة، وربما تنقذهم السلمية أيضا من وصول الشباب إليهم، في مؤسساتهم العامة، والخاصة، واحتلالها.
وكذا، قد تنقذهم السلمية من الملاحقة القضائية ومن دفع الثمن كاملا لجرائمهم المريعة، وفق تنازلات ومعلومات لابد هم يتفكرون في تقديمها، ثمنا لأحكام رحيمة، يريدونها بعدالة انتقالية.


(2)
والنقطة هنا هي أن الوصول "السلمي"، إلى وضعية الحكومة الانتقالية، بدون دماء أو خسارات في الأرواح، وبالرغم من "إصلاحية" هذه الانتقالية المحافِظة النزعة، هذا الوصول السلمي سيسهِّل للشباب، أهل "البداية الجديدة"، تحقيق الشروط الضرورية للتغيير الحقيقي، لكنه بالطبع لن يحقق التغيير الحقيقي ذاته.
وهنا بُعدٌ جديد يعزز مقبولية المبادرة، أن السِّلمية في الانتقال مفيدة لجميع الأطراف، على المدى القريب والوسيط.
فهي لا تمنع الشباب من مواصلة المقاومة، لأجل التغيير الحقيقي الذي يريدونه؛
وهي لا تمنع الإسلاميين من مساحة محدودة للحركة الآمنة، وليس لهؤلاء الإسلاميين من بديل إلا ذلك تدخل الجيش لحمايتهم، والجيش، كما أسلفت، موعود بالمقاومة الشبابية وبالهزيمة، إن هو تجرأ على التدخل، إذ يدرك الشباب أن تدخل الجيش لا يكون إلا لحماية الإسلاميين، وطبقة الضباط الإسلاميين، حمايتهم من الملاحقة القضائية، ومن التجريد من المنهوبات، وإلا لتقويض ثورة الشباب.


(3)
فليركز الشباب، إذن، على مبادرة الأساتذة، مُفسَّرة على أن موضوعها الأساس، من منظور الشباب، هو مجرد "الانتقال السلمي"، من نظام الإنقاذ، إلى "وضعية" جديدة، وضعية تتهيأ فيها فرصة معقولة للشباب، ليحتلوا مكانهم في محل صنع القرار في المجالس المحلية، بنهاية العام الأول من الفترة الانتقالية، على سبيل المثال، ومن ثم استخدام الشباب مساحة الحريات المتاحة، لشحذ المقاومة المستمرة، قصد تغيير السودان، بالطريقة التي يرونها، وهي ليست طريقة مبادرة الأساتذة، والمهمومة أصلا بأجندة إصلاحية ضيقة الأفق، وبدون خيال.


(4)
إن محتوى الفترة الانتقالية، فيما بعد إنشاء الهياكل الانتقالية ذاتها، غير قابل ليتم تصميمه مسبقا، بأكثر من تقديرات وتخمينات قد تتجاوزها الأحداث اللاحقة، غير المعروفة اليوم، ولا يمكن التنبؤ بها.
إذ سيتسلل إلى الكيانات الانتقالية عدد قليل، لكن لا يستهان به، من المحتالين، والمتنطعين، وكذا من عملاء الإسلاميين، والإسلاميون يملكون مليارات الدولارات ومستعدون للبذل لقاء حماية أنفسهم من الملاحقة، وحماية ممتلكاتهم المنهوبة من التجريد، وحماية الدولة الإسلامية العميقة، خاصة في المؤسسات الجوهرية التي تضمن حمايتهم، الجيش، الأمن، القضائية، والنيابة.
علما أن الحريات في سياق الحكومة الانتقالية ستكون محدودة، وستظل محجَّمة، بسبب أن النظام القديم، في الدولة العميقة، سيظل موجودا، يتربص، ويتآمر، ويخطط، للانقضاض على ثورة الشباب.


الأفندي والتجاني عبد القادر واستقدام المرتزقة من الاتحاد الأفريقي


(1)
فلأن المبادرة تأتي من أساتذة الجامعة السودانية، أشير إلى أن أستاذين جامعيين سودانيين إسلاميين، يعملان في قطر، عدوة ثورة الشباب، وهما د. عبد الوهاب الأفندي، الذي رحب بالمبادرة، ود. التجاني عبد القادر، الذي كتب عن "المندسين الكبار"، بدآ في العمل الدؤوب، قصد استقدام الإسهام الخارجي، للقضاء على وعد ثورة الشباب، ودفنها، والعمل على ضمان بقاء الدولة الإسلامية العميقة كما هي، في جهاز الأمن، والجيش، والقضائية، والنيابة، بدون عمر البشير، وبدون القيادات الإسلامية الممقوتة.
ولهذا السبب كان ترحيب الأفندي بالمبادرة، تحديدا لأنها لا تتحدث صراحة عن تفكيك الدولة الإسلامية العميقة، وتترك الباب مواربا.


(2)
لكن، والمقاومة الشبابية مستمرة، لن ينفع جميع المثقفين الإسلاميين شيئاً كلُّ جهودهم اليائسة، ولن يجديهم حتى أمبيكي جديد يبحث عنه د. عبد الوهاب الأفندي، في الاتحاد الأفريقي، اتحاد حكام أفريقيا الطغاة المجرمين الفاسدين.
والاتحاد الأفريقي هو المكان الملائم الذي يجد فيه د. عبد الوهاب الأفندي، المكلف من الحركة الإسلامية، المرتزقةَ الإقليميين والدوليين، من كل نوع وشكل، من موظفين فاسدين، وسفراء دول مرتشين، ومستشارين رحالة يكتبون رهن الإشارة، وحتى رؤساء دول حرامية مفروشين للبيع، مثلهم مثل رئيس الإسلاميين، عمر البشير نفسه، سيجدهم الأفندي مفروشين يلتقطهم كل من يدفع، بالريال القطري، أو السعودي، أو بالدولار، أو بغيره، لا يهم.
فليستعد الشباب للتصدي لهذه المخططات من المثقفين الإسلاميين المتحللين، وللتعامل الملائم مع كل أمبيكي جديد، وطرده من السودان.


(3)
أما الفاتورة ذاتها من هؤلاء المرتزقة الأفريقيين والغربيين، فسيدفعها ذاتهم "المندسون الكبار"، "العناصر الرأسمالية المُتخمة المتنفِّذة المتغلغلة داخل نظام الإنقاذ"، الذين هكذا كان وصفهم، وقصد عدم تحديد أسمائهم، د. التيجاني عبد القادر، في مقاله بذات العنوان (المندسون الكبار).


(4)
وما عدم بوح د. التيجاني بأسماء هؤلاء ملاك "ثروات ضخمة موازية للثروة القومية"، إلا استراتيجية د. التجاني للابتزاز، ابتزاز ذات هؤلاء المندسين الكبار، لبذل القليل من كثير ما نهبوه، لإنقاذ الحركة الإسلامية من ثورة الشباب، وإلا فهو التجاني عبد القادر سيكشف أسماءهم إن لم يدفعوا.
ولم يكن مقال د. التجاني موجها إلا لهؤلاء المندسين الكبار: ادفعوا وإلا سأكشف أسماءكم! والتجاني يعرف أسماءهم، وأسماء زوجاتهم وأطفالهم وجداتهم، وكذا هو على علم بمظان إيداع أرصدتهم المنهوبة من مال الشعب السوداني، وحتى تسجيلات ممتلكاتهم في السودان يعرفها، ولابد في حوزته صور من أوراق هذه التسجيلات، وتسجيلات الأراضي والممتلكات ستكون مقتل الإسلاميين، الذين كانوا واثقين من أن الإنقاذ باقية إلى الأبد.


فيدرك التجاني أن المندسين الكبار في حالة استضعاف، فيمكن ابتزازهم.


(5)
يعمل د. التجاني بالتنسيق مع د. عبد الوهاب الأفندي، لذات الغرض، وأد وعد ثورة الشباب، باستقدام هؤلاء المرتزقة ذوي الياقات البيضاء، على وزن حرامية عالم السوسيولوجيا الأمريكي سوثرلاند، استقدامهم من منصة الاتحاد الأفريقي.
فالحذر الحذر، من المثقفين الإسلاميين المذعورين، ولنتذكر أن كامل خطابهم في نقد الإنقاذ، إنما كان بسبب خوفهم على الإنقاذ، وبسبب خوفهم على أنفسهم، خوفهم من أن الإنقاذ، برعونتها ومبالغتها في الإجرام والإفساد، ستكتب نهايتها، ومن ثم تتركهم أيتاما.
وهذا الخوف من التيتم هو الذي يحرك تدخلات جميع المثقفين الإسلاميين المتحللين. لكن لا تنطلي خدع خطابهم على أحد، يخدعون أنفسهم أنهم يخادعون شباب السودان.
فأنتقل الآن إلى نص مبادرة الأساتذة:


مكونات المبادرة الثمانية
تنطوي مبادرة الأساتذة على ثماني مكونات، منها سبع كيانات سياسية لهيكلة السلطة الانتقالية (تابع نص المبادرة في صفحتين، في الرابط):
1. الشروع في تكوين هياكل السلطة الانتقالية، على النحو الذي يلي، تحت:
2. "الجسم السيادي"، وهو كيان انتقالي، للسيادة، ولتمثيل "الأقاليم الستة القديمة" [دارفور، كردفان، الأوسط، الشمالي، الشرقي –والصحيح، بدون الجنوب، خمسة مناطق]، ومنطقتي النوبة وجنوب النيل الأزرق.
3. "الآلية التشاورية"، ووظيفتُها تشكيلُ "الحكومة الانتقالية"، قبل أن تتحول هذه الآلية التشاورية لتصبح "المنبر الدستوري"، تحت.
4. "المنبر الدستوري" بوظيفتين: التشريع؛ ومراقبة الحكومة الانتقالية. [السلطة التشريعية]
5. "الحكومة الانتقالية" (لمدة 4 سنوات)، ومن وظائفها أو مهامها: إحلال السلام، ومعالجة آثار الحرب؛ ولها مهام إضافية، ومهام ذات الوزارات والمؤسسات الراهنة؛ [السلطة التنفيذية]؛ [السلطة القضائية].
6. "المجالس المهنية التخصصية"، ووظيفتها تطوير البرامج والسياسات للحكومة الانتقالية [أيضا لدعم مفوضيتي "مكافحة الفساد" و"العدالة الانتقالية"، تحت؛ وكذا لدعم "المنبر الدستوري"، أعلاه؛ وهي قراءتي للنص مفسرا أو مؤولا].
7. "مفوضية العدالة الانتقالية"، للتحقيق في الجرائم، وتحقيق العدالة والمصالحة.
8. "مفوضية مكافحة الفساد"، لمعالجة قضايا الفساد، واسترداد الأموال [المنهوبة]، واستئصال الفساد.
...
فيما يلي بعض الملاحظات والأفكار بشأن هذه البنود الثمانية في المبادرة، وسأضيف مكونا تاسعا موضوعه "الشباب"، لضمان إدراج هموم الشباب وقضاياهم في جميع مكونات المبادرة، ومن حيث ضمان تمكينهم، كمجموعة محددة، ليكونوا ممثَّلين في جميع مواقع اتخاذ القرارات الكبرى، وكذا لتسهيل مشاركتهم وفوزهم في الانتخابات المحلية، المقترحة في المبادرة لتكون بعد عام من سقوط نظام الإنقاذ.


أولا، تكوين هياكل السلطة الانتقالية
تفويض الاساتذة
(1)
فلتكن هذه "المبادرة"، إذن، المحل الوحيد، المركزي، لتطوير هياكل السلطة الانتقالية، ومتابعة هذا التطوير. بل فلتكن المبادرة، مع الاستمرار في تعديلها، إطار المحادثات مع نظام الإنقاذ، قصد تسهيل الانتقال السلمي للسلطة.
(2)
لا يوجد ما يمنع من أن تستلم مجموعة المبادرة الأمر بين يديها، فتلتقي أولا مع عمر البشير، لا مع نوابه، أو رئيس الوزراء المتهالك، أو مع قيادات المؤتمر الوطني المذعورة أكثر من ذعر عمر البشير نفسه، فغير قادرة مثله على التفكير، لكنه يظل رئيس جميع الإسلاميين الحرامية المجرمين، والاستثناء متاح لكل إسلامي لا يعتمد نفسه من نوع هؤلاء، ويمكن أن تكون اللقاءات مع كيانات الإنقاذ بعد اللقاء مع عمر البشير.
(3)
وهنا، في مثل هذه اللقاءات مع النظام، تُعبِّر مجموعة المبادرة عن طموحات الشعب السوداني، لكنها بالطبع مجموعة لا تمثل الشعب السوداني، مما يعني لزوم إجرائها هذه المشاورات مع النظام حول القضايا المتعلقة حصرا بكيفية تسهيل الانتقال السلمي، لا المتعلقة بمحتوى النظام الجديد.
فمحتوى النظام الجديد تدور المشاورات بشأنه مع الأطراف صاحبة المصلحة في التغيير، ولا يحق للإسلاميين التعقيب على طبيعته.
وقد وصلت ثورة الشباب مرحلة متقدمة نزع فيها الشباب من نظام الإنقاذ أية قدرة على إملاء شروط ثمنا لتنازل سلمي من السلطة، أو لمنافذ للهروب.
(4)
يتعين ضمانُ اختصاص "الجامعة"، هنا جامعة الخرطوم كمكوِّن في منظومة الجامعات كلها، لتكون المقر الأساس لتطوير الهياكل المقترحة في المبادرة، قصد تجذير المقترحات في العلم والمعرفة والنظرية، لا في الحدس أو الحسابات المهنية أو السياسية.
فتعني "الجامعة"، هنا، كل الجامعات السودانية، بقيادة جامعة الخرطوم.
ولأن المبادرة موضوعها ابتدار حلول عقلانية لمشكلة كبرى، الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، فالأساتذة في المبادرة يمثلون "الجامعة"، في كليتها، كالجامعات السودانية في كل مناطق السودان.
(5)
ويتعين إشراك أساتذة الجامعات السودانيين خارج السودان، لضمان الإفادة الثانوية، ربما من آخر ما توصلت إليه المعارف العلمية في القضايا المطروحة في المبادرة.
وكله متروك تحديده للجنة الأساتذة، أو بمبادرة من الأكاديميين في المهجر. فالعالم متداخل، والمعارف موزعة، والهم السوداني مشترك في عديد الدول، ويمكن إشراك أساتذة متخصصين في علوم تهتم بكيفية التعامل مع الدولة العميقة، وهي الخطر الأساس والتحدي الأكبر أمام التغيير في السودان.


العلانية والشفافية
(1)
يجب اعتماد علانية تصميم الهياكل الانتقالية، والقرارات المتخذة في سياق تطوير المبادرة، لأن السرية ستدمر كل قدر من احترام قد تحظى به هذه المبادرة، في الوقت الراهن.
ولا تتحقق الشفافية إلا بنشر الأساتذة نواتج المشاورات والمحادثات بينهم، ومع الأطراف الأخرى، نشرها كما هي، كاملة، لتكون متاحة للشعب، مباشرة، بالمعنى الحقيقي لـ "النشر الكامل المباشر"، وبالمعنى الحقيقي لعبارة "الشعب"، في مادية هذا الشعب وفي استحقاقه أن يكون على علم كامل غير منقوص بما يُخطط باسمه من قبل الاساتذة.
فقط بمثل هذه الشفافية، تكتسب مبادرة الأساتذة مشروعية ومصداقية. أي، بنشرها النصوص المكتوبة، والصوتية، وبالفيديو أحيانا، دون إعمال أي بتر فيها أو تقطيع، مثل التقطيع المخادع والتزوير الماكر، مما فعلته قيادة تجمع المهنيين السودانيين في نص الفيديو بإعلان التحرير والتغيير.
وهنالك الماضي المعيب لأساتذة الجامعة، بشأن أكتوبر 64 وأبريل 1985، وأثناء فترة الإنقاذ، حين كان الأساتذة يدخلون ويتشاورون مع الأطراف الأخرى ومع السلطة، ويعقدون الصفقات، كمتحدثين نيابة عن شعب السودان، دائما في السر.
ومن ثم كانت فاجعة سر الختم الخليفة، وكارثة الجزولي دفع الله، وغيرها من كوارث، آخرها مبادرة الجزولي دفع الله.
وهنالك دائما مواطنون سودانيون يعرفون البيوغرافيا الحقيقية لكل من يحاول مخادعة السودانيين أو خدعهم، وسيكشفون حقيقتهم في الوقت المناسب، إذا اعتمد أصحاب المبادرة العلانية والشفافية، والتوثيق الكامل.
(2)
يُحمد لمبادرة الأساتذة أن أصحابها ظهروا عيانا، بأجسادهم وبأسمائهم.
ولا يُعترف بأي شخص يدعي قيادة الجماهير، أو تمثيل الشعب السوداني، دون أن يفصح هذا الشخص، سبقا، عن هويته، علنا، ولنتعرف على سيرته الذاتية.
وإذا كان هذا الشخص يريد أي منصب في هيكلة الحكومة الانتقالية سنطلب منه، أولا، تقديم إبراء ذمته، وكشف كامل حساباته المالية وحسابات زوجه/أو زوجها، وحسابات الأطفال، وغير ذلك من كشف كامل سيرته في العمل العام أو في المجال الخاص، ورؤاه حول كافة القضايا.
ولن يقبل الشباب أي شخص يظهر هكذا، فجأة، بأنه وزير أو مفوض، أو مسؤول كبير أو صغير.


"المبادئ الدستورية العامة"
(1)
يتعين تطوير الفقرة في 1 عن "المبادئ الدستورية المستمدة من تجربة الفقه الدستوري السوداني منذ الاستقلال".
ويمكن أن يكون هذا التطوير بالنهل من المستحدثات في الفقه الدستوري العالمي، في بعده المتعلق بـ "دسترة المجتمع العالمي" (جيرغين هيبرماس)، على سبيل المثال، وكذا بما تم استحداثه في علوم الدسترة حتى في الدول صاحبة الدساتير المستقرة والمتوافق عليها.
(2)
خذ موضوع ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية "حقوقا دستورية" يمكن المقاضاة بشأنها أمام المحاكم، مما هو معتمد في دستور جنوب أفريقيا، وليست جنوب أفريقيا مثالا يحتذى به في شيء، وإن كانت لا تُختزل في الوسيط الأفريقي المحتال ثامبو أمبيكي، عميل الإسلاميين في مفاوضات السلام، أو في المرتشي، جاكوب زوما الذي عمل على حماية عمر البشير من محكمة الجنايات الدولية. ولا تُختزلُ جنوب أفريقيا أو شعوبها في فساد الحزب الحاكم. لكن فكرتهم الدستورية المشار إليها مفيدة.
وهذي فكرة دسترة الحقوق الاقتصادية الاجتماعية والثقافية، المشار إليها أعلاه، موجودة كذلك في الفقه الدستوري الأكاديمي، وفي دساتير متعددة للدول، وتطمح دول مثل أندونيسيا لإقرارها.
(3)
علما أن الفكرة موجودة كذلك في الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، التي صادق عليها السودان، فيمكن اعتماد هذه الاتفاقية دستوريةً، بصورة مباشرة، على الطريقة الفرنسية، أو بإجراء معين، مما هو في القانون العام الإنجليزي.
ويمكن الإفادة من تجربة الأردن، حيث أقرت المحكمة العليا فيها أن الاتفاقيات الدولية تعلو على القوانين الوطنية، ولا يغير منه أن الأردن مثل جنوب أفريقيا مكلومة بطبقة حاكمة فاسدة، ولم تستفد الأردن من القرار التاريخي لمحكمتها العليا، بسبب فساد الطبقة الحاكمة، وعدم جدية المحكمة الأردنية العليا، فقصدها الاستعراض امام المجتمع الدولي.
(4)
والذي أريد تبيينه هو لزوم تفصيل المبادرة ذاتها، لتكون نصا إرشاديا للمنبر الدستوري الذي سيضطلع بمهام التشريع الانتقالي، بحيث لا يُترك الأمر لهذا المنبر، هكذا، خاصة وأن محتالين لا محالة سيتسللون إليه (انظر المذكرة التي تدعم "حكم القانون"، من مجموعة فيها محامون محتالون، مثل علي أحمد السيد، الذي وثقت فساده أمام المحاكم وللرأي العام)، بل يجب تطوير المبادرة لتكون في ذاتها نصا "دستوريا"، بمعنى سيادتها الأخلاقية كإطار عام للتفكر في كيفية تدبيرِ الهياكلِ الانتقاليةِ حلَّ المشكلات الموكلةَ إليها.
أي، أن تُعتمد المبادرة ذاتها دستوريةً، بعد تطويرها وإعادة صياغتها، خاصة وأن كل المنظومة القانونية والدستورية للإنقاذ ستنتهي فعاليتها بمجرد التخلص من نظام الإنقاذ، ولكيلا تبدأ الحكومة الانتقالية من الصفر في مجال المنظومة القانونية.
(5)
بالإضافة إلى أن إعلاء السياق السوداني لا يعني إعطاء اعتبار مبالغ فيه لفقه دستوري محلي لم ير له السودانيون من جدوى، بل كانت الدساتير السابقة من أدوات الطغيان في يد الحاكم، دون آليات كافية أو ناجعة لحماية هذه الدساتير من تغول الحكام، آليات لا تسمح بمثل تلاعب الإسلاميين بالدستور وتعديله كما يشاؤون.
(6)
ولنتذكر أن الدستور الانتقالي يظل وثيقة فظيعة وغبية فيما يتعلق بالحريات، بالرغم من اللغة المستخدمة فيه عن الحريات، وهي لغة يلغيها مباشرة تسلل الشريعة الإسلامية كمصدر من مصادر القانون، وحيث لا توجد أصلا حريات في الشريعة، لا حرية التعبير، ولا الاعتقاد، ولا التفكير، ولا حتى حرية الحياة ذاتها، وكله ثابت في النصوص الشرعية الحاكمة المكتوبة واضحة المعاني.
(7)
وفي هذا الإطار، لا يظننن أحد أن جهاز الأمن يعمل خارج القانون، حتى في اغتياله الشهيد أحمد الخير، بل كانت كل أفعال التقتيل والتعذيب، بما فيها اختطاف الأشخاص، وحبسهم في المعتقلات، والاغتصاب الجنسي، والضرب، كانت كلها "دستورية" و"قانونية"، بتفسيرات سائغة في القانون والإجراءات تمر عبر تأويل نصوص الشريعة الإسلامية كمصدر للقانون له مقامية دستورية، دائما وفق أصول الفقه المعتمدة والتي تسمح بكل شيء للحاكم الذي يفسر ويؤول وينفذ.
وفي نصوص القرآن ما يمكن انتقاؤه، بالاجتهاد الصحيح، المرتكز على أصول الفقه، لتبرير جميع الأفعال الإجرامية موضوعا، لا قانونا طبيعيا، التي يقترفها جهاز الأمن.
ولا يغير من ذلك مثل الآية ولا تقتلوا النفس التي حرم الله ...، فهي خاضعة لشرط العداء ضد الدولة الإسلامية، وجميع هؤلاء الذين قتلهم أو عذبهم جهاز الأمن كانوا معادين للدولة الإسلامية.
(8)
يكفي الشباب قراءة الفصلين الخامس والسادس من كتاب محمد محمود عن نبوة محمد التاريخ والصناعة 2013، ليعرفوا أن أفعال الدولة الإسلامية الحاضرة، نظام الإنقاذ، مستهدية بالأفعال المثيلة في الأنموذج، دولة المدينة.
وكذا يكفي قراءة الفصول عن التعذيب الإسلامي وعن مشروعية "القتل سياسةً"، ضد المعارضين، في كتاب "فقه الأمن والمخابرات"، للإسلامي د. إبراهيم علي محمد، الدار السودانية للكتب، وهو الكتاب المتداول الآن في المجموعات المختلفة، وقد نشرته أيضا جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية حيث يتم تدريب الكيانات الأمنية من الدول العربية.
(9)
ودونك أن القضاة الفاسدين كانوا تمكنوا من تمرير مادتين في الدستور الانتقالي تحديدا لحماية فساد القضاة، وكتبوهما بلغة مبهمة لكن القصد كان واضحا، وهو حماية القاضي الفاسد في قراره دون أي تدخل خارجي، بصورة تبطل مفعول كل قانون يحمي المواطن من فساد هذا القاضي، بحجة عدم دستورية مثل هذا القانون.
فقد أعطت المادة 128 (3) من الدستور الانتقالي، "لا تتأثر ولاية القاضي بالأحكام التي يصدرها"، أعطت القاضي "حصانة مطلقة" لا توجد إلا في القضاء الأمريكي، وحتى هنا في القضاء الأمريكي هي حصانة غير مكتوبة في الدستور، بل كتبها القضاة أنفسهم في القانون العام.
فالدستور الأمريكي ذاته لا يمنح حصانة مطلقة للقاضي، لكن الإسلاميين بليل فعلوها في الدستور، لمصلحة قضاتهم ضباط الأمن عملاء الحركة الإسلامية، ولابد هم قدموا الرشوة لأعضاء اللجان المختصة، ليغضوا الطرف عن هذه المفارقة الدستورية الفاضحة، وحيث نجد هذه الحصانة المطلقة للقاضي موضوع انتقاد قوي ولاذع من قبل الأكاديميين القانونيين الأمريكيين والانجليز، ضد ما يسمى "حاكمية القضاة".
وكله موضوع السلطة القضائية الفاسدة، في السودان، التي يتعين حلها وإنشاء قضائية جديدة في محلها. وإلا كانت الثورة عمليات سمكرة لإصلاح ما لا يمكن إصلاحه.


"إلغاء كل القوانين المقيدة للحريات"
(1)
فالذي أراه هو إلغاء هذه العبارة أعلاه، المتروكة في نهاية النص في المكون الأول من المبادرة، وإفراد بند منفصل لها، خاص بالحريات، بسبب محورية "الحريات"، في سياق ما بعد الإنقاذ.
(2)
يتعين ألا نترك كتابة النص عن الحريات، أو كتابة أي نص آخر، للقانونيين وحدهم، بل أن يتم إشراك أساتذة الفلسفة والاجتماع وعلم النفس، والطب أيضا، خاصة بشأن حريات الشباب المراهقين، وغيرهم، في صياغة ما يدعى أنه من اختصاص القانونيين لوحدهم، وهو كذب.
(3)
يتعين أن تكون كتابة النص عن الحريات بلغة إيجابية فيها قدر من التفصيل الأولي، لضمان جميع الحريات بأسمائها، وهي حريات التعبير، والتفكير، والاعتقاد، والتجمع، والخصوصية، والمعلومات.
بالإضافة إلى ترك الباب مفتوحا، باللغة، ليضيف المنبر الدستوري المقترح إلى هذه الحريات الدستورية، بصورة متواترة، حريات جديدة، كلما طرأت وقائع نسقية تستدعي مثل هذه الإضافة.
(4)
فجوهر "المرض" الذي أدى إلى فشل كامل جسد نظام الإنقاذ، محله تقويض الإسلاميين الحريات الأساسية المعروفة في القانون الطبيعي، وتخليقهم منظومة "حريات جديدة"، خاصة بهم، حصرا، مثل: حرية تقتيل المعارضين وتعذيبهم؛ وحرية القضاة في الإتجار في القرارات القضائية؛ وحرية الإفساد بصورة عامة؛ والحرية في إنتاج الكذب والخداع والتدليس والهراء قصد تحقيق مكاسب شخصية؛ والحرية في نهب الممتلكات العامة وسرقة المال العام.
وكله، لحماية الإسلام.
(5)
وليس ذلك أعلاه على سبيل التهكم، بل لأن الإسلاميين، بهذي ممارساتهم اليومية في مجال النذالة، استحضروا كامل قدراتهم في الإجرام والإفساد والاحتيال، وطوروا هذه أشكال حياتهم، وأصَّلوها في فقه إسلامي متكامل وصحيح، هو فقه "الحريات الإسلامية"، في مادية الممارسة، ومادية الممارسة هي التي تعرِّف منظومة القيم التي يهتدي بها الإسلامي.
(6)
ولا يزايدن أحد بعد اليوم على هذا التكييف، وقد ظهر أمام الجميع إجرام الدولة الإسلامية/نظام الإنقاذ/الحركة الإسلامية السودانية، بالصوت والصورة، وكذا ظهرت حقيقة صناعة الفساد الإسلامي عيانا، ولم يعد الفساد سريا أو مفارقة للمعايير، بل يتم في العلن، وتبين أنه الأصل الذي له في نظام الإنقاذ مشروعية وشرعية دينية.
...
لذا أسمي الإنقاذ دائما "الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة"، كتوصيف موضوعي قانوني، وكتوصيف تقييمي، على مستوى الأخلاق.
(7)
باختصار، لا يمكن فهم دلالة الحريات، أو كتابة لغتها، إلا في سياق إدراكنا ماهية "الحريات" التي استمتع بها الإسلاميون، وماهية وضعيات حجر الإسلاميين الحريات الطبيعية المفضية إلى السعادة وإلى سنن حياة متدبرة على أساس العقل.
هنا فقط، ندرك لزوم التعامل بجدية مع موضوع "الحريات"، ولزوم طرد العبارة الساذجة "إلغاء جميع القوانين المقيدة للحريات"، طردها من الخطاب السياسي الخامل.
وهي من ذات نوع عبارة "ضمان استقلال القضاء"، بينما لا يعني ضمان استقلال القضاء، من منظور القضاة الإسلاميين، إلا استقلالية القاضي الإسلامي ليفسد، حرا، غير مقيد برقابة شعبية أو بمحاسبة.


ثانيا، المجلس السيادي الانتقالي و"تمثيل القوات النظامية"
تمثيل القوات النظامية
قدمت المبادرة حجتَها لـ "تمثيل القوات النظامية" في "الجسم السيادي" المشكل من الأقاليم الستة القديمة، وقالت المبادرة إن تمثيل القوات النظامية مقصود به "ضمان إكمال الفترة الانتقالية بنجاح دون عقبات".
أولا،
هذه حجة ضعيفة لا تعتمد على فكر ولا مبادئ ولا أخلاق، ولا حتى على معايير للتوافق.
ثانيا،
الذي أراه، هو لزوم شطب تمثيل "القوات النظامية" من عضوية المجلس السيادي، أولا لسبب داخلي، مرتكز على العقلانية، ولا نريد من الأساتذة إلا هذه العقلانية المغيَّبة عن كامل هيكلة النظام القديم.
حيث لا علاقة لتمثيل العسكر في هذا الجسم السيادي الانتقالي، وهو جسم لتمثيل الكيانات السكانية من حيث أقاليمها، وإلا طلب المهنيون تمثيلا، والقضاة الفاسدون تمثيلا، وهكذا.
ثالثا،
فقط مجموعة الشباب، التي صنعت الحدث التاريخي، هي التي لها أحقية التمثيل في هذا المجلس السيادي.
ويتعين خرق القاعدة التمثيلية الجغرافية، لتمثيل مجموعة الشباب، في المجلس السيادي، لا لتمثيل "القوات النظامية"، المعرَّفة أصلا بأنها "الجيش"، وماضيه وحاضره مسجلان في أرشيف الجرائم العالمية، في السودان، وعبر الحدود الدولية.
رابعا،
لا يستحق الجيش أن يجلس في مجلس سيادي للشعب السوداني، خاصة وأن الشعب السوداني استرد كرامته التي مرغها في التراب ذات هذا الجيش، وهو جيش استحق بجدارة أن نكيفه عدوا للشعب.
وقد بينتُ في مقالي السابق (المقاومة الشبابية ضد الجيش) سبب تكييف الجيش عدوا للشعب، وهي بالطبع حالة اجتماعية، وليست بيولوجية، فليبحث ضباط الجيش في دواخلهم عن بواعث للشجاعة الأخلاقية ليتمكنوا من ملاقاة ماضي الجيش، في عدوانه على شعوب السودان، كالخطوة الأولى لتغيير حاله من عدو للشعب، ومن "مليشيا إسلامية"، إلى "الجيش"، هكذا مجردةً.
خامسا،
إن "العقبات" التي يتحدث عنها الأساتذة، ودفعتهم إلى حشر القوات النظامية في المجلس السيادي، غير موجودة إلا في أدمغة الأساتذة.
والصحيح المتوقع من الأساتذة هو دراسة مثل هذه "العقبات" الممكنة، في حال لم يتم تمثيل العسكر، وهم القوات النظامية، في المجلس السيادي، ومن ثم لزوم ابتداع الأساتذة استراتيجيات للتعامل مع هذه العقبات، إن وجدت حقيقة.
حيث لا يجوز هنا الرضوخ للابتزاز، من قبل هذا العسكري المُعَسكِر أصلا في أدمغة بعض الأساتذة، الذين لابد ساقوا هذه الحجة الغريبة، ودافعوا عنها، وثبتوها في نص المبادرة، الرائعة في حدود التفكير الممكن في الجامعة الراهنة بدون هذا تحشير "القوات النظامية" تحشيرا في نص المبادرة.
سادسا،
إذا كان الأساتذة فهموا جيدا معنى الثورة الشبابية، فمن أهم دروسها أنه لن يتمكن كائن من كان، من الإسلاميين، بعد هذا الحراك الشعبي، من ابتزاز الشعب السوداني، فقط لأن هذا الكائن، أو الكيان، يحمل بنادق فتاكة ذات مناظير، أو سيارات لدهس المتظاهرين، أو أدوات صلبة للاغتصاب الجنسي، أو لأن لديه دبابات وطائرات وقنابل.
باختصار، الشباب قادرون على حماية مكتسباتهم من أي تهديد، أو أية محاولة ابتزاز، مما قد يأتي من جهة الجيش.
وكما أسلفت، سيتمكن الشباب، إناثا وذكورا، بأجسادهم المتراصة، وبالعزيمة الماضية، من إلحاق الهزيمة بالجيش، إن هو تجرأ. وسيكون ذلك فصلا جديدا من فصول المقاومة الشبابية السودانية.


لزوم تقوية المنبر الدستوري
(1)
أما فكرة "المنبر الدستوري، بامتداداتها، لأغراض التشريع والرقابة، فصحيحة وضرورية، خاصة وهي ستعني تعطيل عدد مقدر من القوانين والمواد، وأهمها القوانين والمواد المتحدرة من الشريعة الإسلامية، في مجال الحريات وفي مجال الأحوال الشخصية.
(2)
ويجب الإفصاح بلغة واضحة أن القانون الجديد لن يكون من مصادره "الشريعة الإسلامية"، وإذا استُخدمت لغةُ الفقه الإسلامي ومصطلحاته العربية الضرورية، سيتم تحميلها بمحتويات قانونية جديدة ومختلفة، وفق ما هو متسق مع مادية الحريات والعدالة الاجتماعية، ومع ما هو معقول وخال من شطط.
وليست هذه مسألة أيديولوجية، أو مسألة خلاف عقدي، بل هي من نوع المشكلات العملية التي يتعين حلها على أساس الحجة العقلانية، والأخلاقية العالمية، لا على أساس ما كان ورد في نص القرآن أو الحديث أو الفقه، أو ما كان تمت ممارسته في الدولة الإسلامية النموذجية، دولة المدينة.
(3)
أرى تقوية سلطات المنبر الدستوري بمنحه "سلطات قضائية" في اختصاصات محددة يتم تبيينها، ويتعين عدم الالتفات لأي صياح احتجاجي من القضاة الفاسدين في السلطة القضائية الفاسدة.
هذه السلطات القضائية الإضافية للمنبر الدستوري مقصود بها التعامل مع خطر ذات هذه السلطة القضائية الفاسدة، المركبة بالكامل من القضاة الإسلاميين.
ولنتذكر أن الإسلاميين فصلوا جميع القضاة غير الإسلاميين، وقد ظلت القضائية الفاسدة تعيِّن في السر، حتى خلال العامين الأخيرين، عددا مقدرا من "المساعدين القضائيين"، وهم "قضاة"، تحت التكوين، وسيحتلون مواقعهم في المحاكم على مدى الأربعين أو الخمسين عاما القادمة، وهكذا هي الخطة الشريرة من رئاسة السلطة القضائية، وهو معنى كل حديث عن لزوم تفكيك "الدولة الإسلامية العميقة".
(4)
كذلك لا يزايدن علينا أحد بشأن إبراز فساد السلطة القضائية، فقد كنت هناك، في محاكم هذه المخرأة العامة، وتعرفت مباشرة على كيفية دوران صناعة الفساد القضائي، بواسطة القضاء رؤساء العصابات عبر درجات المحاكم. وظللت أدرس فساد هؤلاء القضاة، الفساد القضاء من حيث النظرية وكيفية مقاومته، على مدى عشرة أعواما.
وكتبت عن فساد القضاة ما لم يُكتب عن قضائية من قبل، دائما على أساس الوقائع المستندية وفيها البينات الدامغة لإثبات احتيال القضاة رؤساء العصابات، في معية محامين فاسدين مثل علي أحمد السيد، "الشيوعي السابق"، وربيبته المحامية "الديمقراطية"، إيمان المك.
وكل من اتهمته بالفساد، باسمه، واجهته مباشرة، وأنا في السودان، وقدمت الإثبات الكافي بشأن فساد هؤلاء المحتالين، ستة عشر قاضيا، في جميع درجات المحاكم، بما فيها المحكمة العليا، وثلاثة محامين (عبد الرحيم النصري هو ثالثهم).
(5)
فأين بحوث أساتذة القانون بالجامعة عن فساد السلطة القضائية؟
الآن، فقط، بفعل الشباب، يصبح هؤلاء الأساتذة الشياطين الخرس في كليات القانون في الجامعات السودانية قادرين على تدريس مادة عن "الفساد القضائي"، لا مجرد ذكر أهمية "الأخلاقية في المحاماة والقضاء"، لكي يتمكن طلاب القانون من التعرف على كيفية ملاحظة فساد القاضي في نص رأيه القضائي، وفي كامل أوراق ملف القضية، وجُماع النصوص المحيطة بها، وكذا ليتعرفوا على كيفية ملاحظة وتحليل فساد المحامين وفساد موظفي المحاكم، وفساد كبار القضاة في المواقع الإدارية.


ثالثا، تشكيل الحكومة الانتقالية
فأقصر ملاحظاتي تحت هذا البند، تشكيل الحكومة الانتقالية، على ما غيبته مبادرة الأساتذة، وهو "الشباب". ويمكن دمج هذه الملاحظات مع "تاسعا، الشباب"، والذي أريده هو إدراج "الشباب" في جميع بنود المبادرة، ولا يتطلب ذلك أكثر من التفكير، من قبل الأساتذة، والتعامل مع "الشباب" بطريقة جادة.


مسألة تمثيل الشباب
(1)
يرد في المبادرة أن تشكيل الحكومة الانتقالية سيكون عبر "آلية تشاورية" فيها عدة جهات. ولم تذكر المبادرة "الشباب" باسمهم. ربما أراد الأساتذة طرد اسم "الشباب" من نص مبادرتهم، إلا إذا كانوا سيحاجون بأن الشباب مشمولون في "قوى التغيير".
لكني أرى أن إضافة "الشباب"، باسمهم، أمر واجب. وقد يعني حذف اسمهم من المبادرة غيرة الأساتذة من طلابهم الذين تقدموا عليهم في "الحكمة"، حين انضم هؤلاء الطلاب الشباب إلى الحراك الشعبي، وقادوه، قبل أن يتدخل تجمع المهنيين ويستلم زمام الأمر.
لكن، هل كان الشباب غير قادرين على إدارة حراكهم؟ أو كتابة جداول للمظاهرات؟ وكله مفتوح للتحليلات. ولأن المظاهرات كانت ستستمر بتجمع المهنيين، أو بدونه، لا نعرف الآن أثر تجمع المهنيين، إلا أنه يبقى الكيان الأساس في قيادة الحراك الشعبي.
(2)
لقد سبق الشبابُ أساتذتَهم في "الفهم"، وفي تفسير نبض الشارع، وفي الارتقاء إلى المسؤولية الأخلاقية العامة، بينما ظل هؤلاء الأساتذة خمسين يوما في اللجلجة، خائفين أنفسهم من الإنقاذ، ومن الشباب، والتعميم مشروع، قبل أن يفهم الأساتذة الدرس الشبابي الرائع، في البراكسيس، في ممارسة تطبيق الفكر النظري على العمل الميداني، في الحياة وهي تدور، وفي تخريج المقاومة التي تفكِّر، وبتفكيرها ألحقت هذه المقاومة الشبابية الهزيمة المعرفية، والأخلاقية، بالدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة/نظام الإنقاذ/الحركة الإسلامية السودانية.
(3)
فالشباب ليسوا كما مبهما بين "قوى التغيير"، كما قد يريد لهم الأساتذة، بل هم صناع الحدث، الحدث الذي أنزل الأساتذة من "ابراجهم العاجية"، وهذا التعبيرُ له اليوم محتوى مادي، ولم يعد من نوع الاكليشيهات.
وليقدم الأساتذة إسهامهم في مجال المعرفة المفيدة، وهو دور الجامعة في التغيير سأعود إليه.
(4)
وأقصد أنه يتعين ألا تعود الجامعة إلى سابق طريقتها، بذات مناهجها أو برامجها المرسومة، بل أن تعيد الجامعة هيكلة كامل مقرراتها، وطرق التدريس فيها، تحديدا لخدمة إعادة إنشاء السودان "من أول وجديد".
وهو برنامج يمكن تثبيته على مدى الأعوام العشرة القادمة، بسبب حجم التحدي، وبسبب بطء العمل الأكاديمي.
والمطلوب خطة استراتيجية جديدة للجامعة، جميع الجامعات، قصد الإسهام المباشر في بناء السودان على أنقاض النظام القديم، وفيه يندرج جميع الأساتذة، بدون تمييز، وبصرف النظر عن انتماءاتهم، أو ماضيهم في الصمت المعيب إزاء إجرام الدولة الإسلامية وفسادها.
(5)
وآمل أن يجد الإسلاميون من أساتذة الجامعات مجالات جديدة لتقصي مظان أخرى للأكاديميات، مختلفة بصورة جذرية، بعد أن خابت الدولة الإسلامية وانهارت فوق رؤوسهم، وفوق رؤوس المثقفين الإسلاميين الذين فلقوا رؤوسنا، على مدى ستين عاما ويزيد، عن "الإسلام في الدولة"، وعن أحكام الشريعة، و"الدولة الإسلامية".
وهي الدولة الإسلامية التي أتيح لها من الخبرات الأكاديمية ما لم يتح لأي دولة إسلامية في التاريخ، ومما لم يتح لأي حزب حاكم في تاريخ السودان، وهي دولة إسلاميةٌ صحيحةُ تطبيقِ الإسلام في الدولة، من مصادره في القرآن والحديث والفقه، انبعجت، وانفضح إجرامها وفسادها، واستبان خراب عقيدتها السياسية، وحيث لم تجلب لأهل السودان بإسلاميتها إلا الشقاء.


من هم "الشباب"، موضوع الإضافة في مبادرة الأساتذة؟
(1)
الشباب محددون بأنهم "المراهقون والمراهقات"، بين العاشرة والتاسعة عشر، و"الشباب والشابات" حتى سن الخامسة والعشرين. فبينهم جميع طلاب الجامعة، باستثناء قلة من طلاب الدراسات العليا. ويمكن بالطبع مد فترة الشبابية وفق المقاصد لتصل إلى الأربعين وما بعدها.
والشباب أقل من الثلاثين ليسوا كيانا موحدا، بل فيهم تقاطعات اختلافية" عمرية، من حيث مقاميات الطفل واليافع والقاصر والمراهق؛ وجنسانية، تتعلق بأنثى وذكر وخنثى، وبالميول الجنسية؛ وطبقية؛ ومعتقدية، تتعلق بمقاميات المسلمية والإلحاد وبغيرها من مواقف تجريبية أو فلسفية إزاء الدين؛ ومتعلقة بالقدرات والإعاقة؛ ومتعلقة بالمواطنة؛ وكذا متعلقة بوضعيات الضرر التي يجد المراهقون أنفسهم فيها.
كل هذه الاختلافات التقاطعية يتعين وضعها في الاعتبار، عند التعامل الجاد مع الشباب، بشأن قضايا الانتقال السلمي وطبيعة التغيير، وتركيبة الحكومة الانتقالية ومهامها.
(2)
ومن بين الشباب: شباب المهجر، والشباب من أصول في جنوب السودان، ومن جمهورية جنوب السودان، والشباب الموجودون في السودان لكنهم المهاجرون من غرب أفريقيا وأريتريا وأثيوبيا وسوريا، لا يهم بطريقة شرعية أو غير شرعية.
وتقضي الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، المصادق عليها، بأن جميع الشباب "الأجانب" أقل من 18 عاما، داخل حدود السودان، وبصرف النظر عن طريقة دخولهم إلى السودان، لهم ذات حقوق الأطفال السودانيين.
وحيث لا نتوقع أن تعتمد الحكومة الانتقالية ذاتَ السياسةَ العنصرية المعادية للمهاجرين مثلما تفعل حكومة الإنقاذ، التي لا تترك فرصة إلا وتتبجح بكرمها الزائف إزاء من تسميهم "اللاجئين".
(3)
ولأن الأمر متعلق بتمكين الشباب جميعهم للانخراط في العمل المدني والسياسي، فمن المهام الملحة للمبادرة، وللجامعة، إعداد جيل شبابي للمشاركة في انتخابات المجالس المحلية بعد عام، والمنافسة في الترشيح لجميع مقاعد صناعة القرار، ربما باستثناء مناصب مثل رئاسة الجمهورية، وما هو معقول، عند الانتخابات العامة.
وهنا دور "المنبر الدستوري" لتحديد سن الاختراع لتكون ستة عشر عاما، وسن الترشيح لتكون ثمانية عشر عاما، خاصة للمجالس المحلية.
(4)
وما لم يعتمد المنبر الدستوري هذا الفهم لتمكين الشباب، لن تكون له أية مشروعية، بل يجب تفعيل مقاومة الشباب ضده، وإخضاع الأشخاص المرشحين للمنبر الدستوري للتسآل عن رأيهم في مثل هذه الأفكار، بصورة سبقية، قبل قبولهم أعضاء في المنبر الدستوري.
بالإضافة إلى ضرورة تمثيل غير القانونيين في هذا المنبر الدستوري، فآخر ما نريده سيطرة القانونيين، وفهمهم في القانون محدود بالقانون كما درسوه، بينما الحياة السياسية الاقتصادية الاجتماعية والثقافية أوسع من القانون، وحيث إن مفهوم "العدالة" لا وجود له في القانون، فقط هو كلمة بدون معنى في لافتة "السلطات العدلية".
(5)
باختصار، يتعين إضافة بند في مبادرة الأساتذة خاص بـ "الشباب"، وإشراك الشباب في كتابة النص في المبادرة، وتفصيله ليكون واضحا، وإلا فالمقاومة الشبابية ضد هذه "السرقة"، في وضح النهار، بواسطة أساتذة الجامعة، سرقتهم عمل المقاومة الشبابية في صنع حدث إمكانية التغيير في السودان.
(6)
ودونك أن الشباب، بإلحاقهم الهزيمة بالدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، حرروا أساتذة الجامعة من العبودية الفكرية، واليوم يصبح كل أستاذ حرا في أن يفكر، وفي أن يكتب بالطريقة التي يفكر بها، من أعماق الدماغ، وأن يبحث في أية قضية يراها، وحيث لن يكون هناك أمنجي إسلامي نذل يسكن في دماغ أستاذ في الجامعة.


رابعا، إحلال السلام وترتيبات وقف الحرب
الحركات المسلحة
(1)
فجميع الحركات المسلحة، بما فيها حركة النوبة تحت قيادة الحلو، التي أظل أستثنيها من تقييمي السلبي للحركات المسلحة وغير المسلحة الأخرى، سيتعين عليها بدء العمل مباشرة والتخطيط لإنهاء وجودها كحركات "مسلحة"، بما في ذلك تدميرها أسلحتها، من تلقاء نفسها، ومن ثم الانخراط في العمل المدني مع جماهير الشعب السوداني. اليوم، قبل الغد.
وقد كتبت عدة مرات في سودانايل عن ذات هذا الموضوع، قبل أكثر من عامين.
(2)
فبمجرد الإنهاء الفعلي للأشكال الظاهرة لنظام الإنقاذ، بما فيها طرد عمر البشير ونوابه، ووزراء حكومته، وبرلمانه، لن تكون هنالك أية رشاوى لقادة الحركات المسلحة، ولا هوتيلات، ولا تعويضات، ولا ترتيبات أمنية، ولا أمبيكي.
(3)
لذا أستغرب أن مبادرة الأساتذة تكرر ذات اللغة الخاملة، بدون تفكير، في "إعلان الحرية والتغيير"، الذي تحدث أيضا عن إنهاء الحرب، والترتيبات الأمنية، وبقية الكلام الفارغ، بشأن الحركات المسلحة.
إذ تنتهي كل مشروعية مدعاة، لأي من الحركات المسلحة، بمجرد إسقاط نظام الإنقاذ، على مستواه الشكلي في عمر البشير، ووزرائه، وبرلمانه.
بل إن مشروعية العمل المسلح انتهت، منذ زمن، وأكدت اليوم نهايةَ مشروعيتها جموعُ الشباب والشابات غير المسلحين، الذين هزموا، بأجسادهم النحيلة المتراصة، أكثر الأنظمة شرا في العالم، نظام الإنقاذ، وعماده خيرة نخبة الحركة الإسلامية السودانية، من المهندسين، والأطباء، وخريجي، الجامعات والدراسات العليا، من المختصين في جميع ضروب المعرفة، ليس فقط في مواقعهم في جهاز الأمن، أو في مليشيات النظام المتعددة، ومنها مليشيا الجيش، بل كذلك في جميع الكيانات الأخرى، بما فيها الجامعات نفسها.
جميعهم ألحق بهم الشباب غير المسلحين الهزيمة الماحقة، وليس بعد الهزيمة الأخلاقية من هزيمة، كالمقدمة الضرورية للإجهاز على كامل مؤسسات النظام القديم.
(4)
فأين الحركات المسلحة من هذه القوة/المعرفة لدى الشباب؟ الشباب غير المسلحين إلا بالأخلاقية وبالعزيمة، في جموع أجسادهم المتراصة؟ والذين تجاوز إنجازهم، خلال ثلاثة أيام من المقاومة الشعبية، إنجاز جميع الحركات المسلحة، مجتمعة، في تاريخها، منذ نشأتها.
بل يمكن المحاجة السائغة لها أساس في الوقائع والمنطق أن الحركات المسلحة تسببت، أحيانا بانسحارها بالسلاح، في تمكين الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، وفي تقويض إمكانات التغيير وتعطيلها.
(5)
ولا معنى للاتفاق بين مني اركو مناوي ومالك عقار إير؛ ولا معنى للقول الخامل عن أن "سلاح وإمكانيات الجبهة الثورية ملك ٌ للشعب"، فالشعب لا يريد أي سلاح قاتل لحسم أي نزاع في السودان.
كذلك لا صحة لادعاء ياسر عرمان في محاضرته لدى جامعة أكسفورد أن النضال السلمي "لا ينفي أهمية "الكفاح المسلح". بل العكس هو الصحيح، أن المقاومة السلمية أرقى مراحل النضال، والإثبات أمامنا يتحرك، وهو كذلك أثبتته الأيام في جمهورية جنوب السودان، حيث تحول المناضلون إلى قتلة سفاحين، وإلى فاسدين أنذال، مثلهم مثل الإسلاميين.
(6)
هنا تتمثل مغالطات الحركات المسلحة، وغير المسلحة، ذات لجاجة الإسلاميين، الذين حتى بعد أن انكشفت لهم حقيقة الأمر، أخذتهم العزة بالإثم، فلا يريدون ملاقاة الحقيقة المرة بالشجاعة اللازمة، حقيقة أن موضوعهم السلاحي قد انتهى، وأن نضالهم المسلح قد فشل، ولم يعد من قيمة إضافية لاستخدامية أسلحتهم أو حتى لوجودها خاملة.
ومن ثم يتعين عليهم، هؤلاء قادة الحركات المسلحة، اتخاذ القرار بالتخلي، دون إبطاء، عن العمل المسلح، والانضمام إلى المقاومة السلمية، خاصة وتنتظرها تحديات لن يقدر عليها سلاح الحركات المسلحة، مثل تدخل الجيش، والذي لا يمكن هزيمته إلا بالمقاومة السلمية الشرسة، بجموع الأجساد المتراصة لتتحدى العربات المدرعة والدبابات في الشوارع. وهو يتراءى قريبا.
(7)
باختصار، لقد غيرت ثورة الشباب الخريطة السياسية بأكملها، وقلبت الأمور رأسا على عقب، ومن ثم وضعت هذه الثورة الشبابية الحركات المسلحة خارج التاريخ.


استثنائية النوبة
(1)
واستثنائية النوبة قائمة، بسبب أن النوبة، كمجموعة وطنية-عرقية-ثقافية-(سياسية)، ظلوا يتعرضون للإبادة الجماعية، دون أن يتحرك المجتمع الدولي، بمثل ما فعل في تحركه بشأن الإبادة الجماعية في دارفور، وكذا بسبب أن السودانيين، ومن بينهم أساتذة الجامعة، موضوع هذه المبادرة، لم يكترثوا لإبادة النوبة تدور بمعرفتهم، ولكأن النوبة غير سودانيين، بل لكأنهم أجساد نافقة فإن تخلص منها الإسلاميون الأشرار لا يستحق أصحاب هذه الأجساد أن نبكي عليهم أو أن نتحزن.
والاستثنائية مركوزة أيضا في مبدأ حق تقرير المصير للنوبة، على أساس تجربة الإبادة الجماعية، في ذاتها، وبسبب العزلة التي فرضتها عليهم الكيانات السودانية الأخرى، عزلة النسيان وعدم الاكتراث، وهو من نوع الإنكار.
وكله في تجربة مجموعة النوبة يلغي اعتبارات الجغرافيا والديمغرافيا، حين يكون الكلام عن المقاومة، وعن حق تقرير المصير، وعن حمل السلاح. مما لم يعد ذاته الحال في دارفور، أو في جنوب السودان.
لهذا السبب، استثنائية مجموعة النوبة.
(2)
وحسنا فعل الأساتذة في المبادرة، أن وضعوا تمثيل النوبة في المجلس السيادي. وقد يكون في ذلك مدخل لحل قضية النوبة، ليكونوا مكونا في سودان مُتخيل بصورة مختلفة، ولا أقول بسودان جديد، بعد أن أفرغ المناضلون في جنوب السودان فكرة جون قرنق من كل محتوى، وأصبحوا في إجرامهم وفسادهم يضاهون فساد وإجرام الإسلاميين في نظام الإنقاذ.
ويعني هذا التمثيل للنوبة، في حد ذاته، أنه يتعين على النوبة البدء في التفكير، وفي التخطيط المبكر، لتدمير أسلحتهم، والانخراط في العمل المدني، بمجرد سقوط النظام، وربما قبل سقوطه، بما في ذلك التفكير في كيفية مواصلة مطالبتهم بحق تقرير المصير، بالطرق السلمية، وهم يرون اليوم أن شباب السودان يتحدثون بلغة جديدة، وتتغير لديهم، في دوران عمليات المقاومة، الأفكار والمعتقدات القديمة، مثل خرافات العروبة والإسلامية.


المليشيات القبيلية
(1)
وعلى مستوى آخر، لا ننسى الأجساد الحرابية القبيلية، وهي المليشيات الإجرامية من بينها مليشيات حميدتي، ومليشيات الرزيقات، ومليشيات المسيرية، وميليشيا موسى هلال، وغيرها. وقد استثناها د. الوليد مادبو من نزع السلاح، وأضاف إليها الحركات المسلحة، شمار للتدليس، يحسب الوليد أنه يخدعنا، فهو بل يريد الجسد الحرابي الرزيقي باقيا، بالرغم من إدراكه الجرائم العالمية المريعة التي اقترفتها مليشيات الرزيقات ضد الدينكا، مما تمثل في غزوات الرق في شمال بحر الغزال، وفي مذبحة الضعين، وفي المذابح الصغيرة الأخرى، ضد الدينكا في دار الرزيقات. ولم يكن الدينكا لوحدهم ضحايا العدوان الرزيقي بواسطة هذه المليشيات.
(2)
وهذا الإسناد المرتكز على البينات ممتد إلى مليشيات قبيلة المسيرية، وإلى مليشيات قبيلة المعاليا العاملة مسكينة يشتكي مثقفوها من "الإبادة الجماعية" ضدهم من قبيلة الرزيقات، وللمعاليا ماض وحاضر في تجارة الرق. أعرف، لأني حين كنت في منظمة اليونيسيف بالسودان، كنت عيَّنت ضابطا متقاعدا، من الجيش، كمستشار لتنفيذ مشروع في منطقة المعاليا، لتحرير الأرقاء الدينكا، وكانوا في عداد الآلاف. وكذا كنت عينت قاضيا مفرغا من القضائية، لليونيسف، للتعامل مع ذات موضوع الرق، وكان يجد عرقلة لا حد لها من المسؤولين ومن المواطنين في منطقة المعاليا.
والنقطة هنا هي أن مجموعات الهامش التي تشكو من الظلم الاجتماعي، ليست بريئة تماما، وهو موضوع لشباب هذه المجموعات كتبت عنه من قبل، أن عليهم إمساك هذا الأمر بيديهم، والعمل على التعامل الأخلاقي معه.
وحددت دور الجامعات المحلية في هذا الشأن. والمشكلة تظل لها عقابيل باقية.
(3)
وكذا، في نقد المبادرة، أريد تسليط الضوء على تواطؤ المثقفين، من قبائل البقارة، ومنهم أساتذة جامعات، إزاء أوضاع العنف في مناطقهم، وتسترهم على دور قبائلهم، كقبائل ذات أجساد حرابية، في الإجرام التاريخي والحاضر في السودان.
فيتعين على هؤلاء المثقفين البدء في وضع حلول لإنهاء وجود المليشيات القبيلية الحرابية.
(4)
هذا البعد الذي يغيب عن مبادرة الأساتذة، يتعين استحضاره إليها، وكتابته فيها، ولعل الجامعات، بما فيها جامعة أم درمان الإسلامية بمدينة الضعين، ومثيلاتها في الولايات المختلفة، هي المكان الصحيح لدراسة هذه الوضعيات، ولتدريسها في المقررات الدراسية، والسودان تغير، ولابتداع الحلول العقلانية، برسم مسارات التفكير ومسارات التخطيط والتنفيذ، ومن ثم التقييم ومواصلة اليقظة الفكرية.
ودور الجامعات اليوم سيكون في الصدارة، بعد فشل المثقفين القبيليين، ناس التحريض والإنكار، وفشل القيادات القبيلية، الملطخة أيديها بالدماء، والتي فقدت مشروعيتها، فشلها في تقديم حلول صادقة، وقد ظلت هذه القيادات التقليدية الحاكمة تخادع الشعب السوداني، بمُلهيات الديات والمؤتمرات والمصالحات الاستعراضية، ولهذه القيادات مصالح قارة في استمرارية العنف المسلح في مناطقها، وعينها على السيطرة على الموارد الطبيعية، وعلى المحافظة على الترتيبات الطبقية، وعلى توريث الحكم.
..
فتقرأ مبادرة الأساتذة أحيانا وكأن السودان حالة رومانسية، وكأنه ليس هذا المركب من العنف والعنصرية والخرافة الدينية والأكاذيب.
ومع ذلك، هنالك هذي جموع الشباب الرائعة، حتى في أكثر المناطق استحواذا بالخرافة والعنصرية والعنف وأكثرها إنتاجا للكذب.
ويحتاج هؤلاء الشباب أساتذة الجامعات. وهو ذاته موضوع تغيير الجامعة.


خامسا، مهام الحكومة الانتقالية
البرنامج الوطني الموحد البسيط
(1)
حددت المبادرة كما هائلا من المهام للحكومة الانتقالية.
لكن الذي أراه هو أن يتم التفكر في برنامج وطني موحد، على مدى الأربعة أعوام مدة الحكومة الانتقالية، وأن يتم بموجب هذا البرنامج إلغاء استقلالية كل الوزارات المختلفة، وعدم تعيين وزراء لها، مع خلق آليات للتنسيق، ليكون دور الوحدات في الوزارات مُنصبا في الإسهام في تحقق أهداف هذا البرنامج الموحد ذي المكونات المحددة و"البسيطة": الوصول إلى قدرات الصحة والغذاء والتعليم والمسكن والضمان الاجتماعي والأمان، في معية قدرات الحريات.
وينضاف إلى دور وحدات الوزارات الحكومية دور القطاع الخاص، ودور المجتمع الدولي، في تحقق هذا البرنامج الموحد "البسيط"، الذي يصممه المتخصصون من كل المجالات المعرفية، ولا أحدد هنا إلا المعالم الأساسية لفلسفته.
(2)
سيلغي هذا البرنامج البسيط التسميات والتقسيمات للمواطنين إلى نازحين، ولاجئين، وفقراء، وغيرهم.
فالبرنامج مقصود به جميع السودانيين، بصرف النظر عن خصائصهم، لكن هنالك دائما الأولوية للمجموعات السكانية الأكثر استضعافا وهشاشة، وتلك المقصية، أو المهمشة، أولويتها في الوصول إلى تلك قدرات الضمان الاجتماعي، والمسكن، والغذاء، والصحة، والتعليم.
وقد يستدعي هذا التفكير إعادة هيكلة المبادرة، لتكون مبسطة، وواضحة، وقابلة لتعبئة المواطنين حولها.
ومن ثم يتم إلغاء الهم بقومية القوات المسلحة، أو استقلال القضاء، أو التعليم الجامعي، فكل هذه الكيانات ستكون خاضعة لتحقيق البرنامج الوطني الموحد، ولن يتم التعامل معها وكأنها دويلات مستقلة.
(3)
تَظهر المبادرة، بلغتها الحالية، تقليدية وكسولة وعاجزة عن تخيل السودان إلا بذات مفردات اللغة القديمة.
فإذا كان لتشخيص أوضاع السودان من معنى، فلن ينقذ السودان من هذه وضعياته البائسة إلا برنامج واقعي بسيط يتفق عليه الجميع، بمن فيهم الإسلاميون، أي أن يخضع كل شي فيه، كل شيء، لتحقيق البرنامج الوطني الموحد البسيط.
هنا ستسقط جميع الاختلافات حول الجيش على سبيل المثال، فلن يتمكن الجيش من المطالبة بذات الموازنات السابقة، وسيكون معقولا التفكير الجاد في حل الجيش، وإحالة جميع موارده البشرية إلى مجالات لدعم البرنامج الموحد البسيط، والاستعاضة عن هذا الكيان الإسلامي الشرير، والذي ظل يعذب شعوب السودان، الاستعاضة عنه بقوات استراتيجية صغيرة وحديثة، يتفكر فيها العسكريون أنفسهم في معية المتخصصين المدنيين ممثلي الشعب الذين لهم القرار النهائي.
(4)
وكذا، فإن جهاز الأمن، وقد أدرك جميع السودانيين أنه مؤسسة إجرامية، لا غير، يمكن حله، وإنشاء قسم في مؤسسة الشرطة، على غرار الأمن الداخلي سيء السمعة، لكن بفلسفة جديدة، بعد إحداث تغييرات جذرية في الشرطة ذاتها، ليختص هذا القسم بمهام ليس من بينها حماية النظام الحاكم، وليس من بينها العمالة للأجنبي فيما يسميه الحرب ضد الإرهاب، خاصة وأن الإرهاب في السودان سينتهي مع نهاية الدولة الإسلامية الإرهابية في السودان.
هذا البرنامج الوطني الموحد يمكن أن يكون محصورا في تعبئة كافة الموارد المتاحة لضمان الوصول إلى الاستحقاقات التي ذكرتها في مقدمة الورقة، وهي الصحة والتعلُّم والسكن والغذاء والضمان الاجتماعي، والأمان، والحريات.
ومن ثم تندرج جميع المهام، المذكورة في المبادرة، كبرامج أو مشروعات للإسهام في تحقق مستهدفات البرنامج الموحد البسيط.
(5)
فأرى أن تفكير المبادرة في مهام الحكومة الانتقالية غير متسق مع الوضع المطلوب تغييره، والمبادرة هنا أجدها في ذات هزال إعلان الحرية والتغيير لتجمع المهنيين، أي ليس فيها تفكير متعمق، فقط ترداد اللغة القديمة ذاتها، وهي موزعة في جميع الأماكن، كله تفاصيل لا طائل منها.


الدولة العميقة ومهنية الخدمة المدنية
(1)
أرى فصل موضوع الخدمة المدنية من "تنفيذ البرامج الاسعافية"، ففي دمجهما تغبيش وتخليط.
تتعلق الخدمة المدنية وضمان مهنيتها بتفكيك الدولة الإسلامية العميقة، ويتعين ألا يخاف الأساتذة من هذه اللغة، لأنها اللغة التوصيفية الصحيحة، وحيث لا يمكن "إصلاح" الخدمة المدنية دون التعامل الخلاق والأخلاقي مع نواتج سياسة التمكين في هذه الدولة العميقة، في القوات النظامية والشرطة وجهاز الأمن والقضاء والنيابة، وفي جميع مؤسسات الدولة.
وهذا هو التعامل بالتفكيك، أي تدمير هذه المؤسسات القائمة وإنشاء بدائل في مكانها، بالتزامن، ويوجد في العلوم المعرفية تراث كامل في كيفية مقاربة نوع هذا التغيير الراديكالي، الملائم لمثل وضعية الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة.
وليس الموضوع موضوع جماليات اللغة، فالمقصود واضح.
(2)
يتعين على الأساتذة أصحاب المبادرة أن يكونوا عقلانيين وعلميين ومنظرين، لا سياسيين ولا أيديولوجيين، وفي هذا البند عن مهام الحكومة الانتقالية قدر هائل من التدليس المخلط بخوف الأساتذة من الإسلاميين، وخوفهم من الجيش، ومن جهاز الأمن، ومن القضاء.
بينما هذه الكيانات المخيفة هي ذاتها المختصة بتعذيب الشعب السوداني، وهي الكيانات التي اقترفت جرائم عالمية، وتسترت على جرائم عالمية، في دارفور وجنوب السودان وفي منطقة النوبة، وكانت هذه الكيانات الإسلامية فضاءات مخصصة أيضا لصناعة الفساد.
ومن ثم، فإن لغة "الإصلاح" في الخطاب عن هذه المؤسسات الإجرامية ليست اللغة الملائمة، هكذا بدون فرز أو تخصيص.
(3)
ولا يدرك الأساتذة بصورة جيدة أن الشباب ألحقوا الهزيمة الأخلاقية بهذه المؤسسات القمعية، وهم مستعدون لهزيمتها في أية معركة ستأتي، وستكون بالطبع في مقبل الأيام معارك ضارية مع هذه المؤسسات التي تثبتت في أدمغة منسوبيها عقيدة الإجرام، وارتبطت مصالح منسوبيها بصناعة الفساد الإسلامي، فساد التمكين الذي له تأصيل في المصادر الحاكمة.
(4)
والنقطة هي أنه يتعين إجراء فرز منطقي وموضوعي بين القضايا في مهام الحكومة الانتقالية، وهي بالطبع قضايا متداخلة، لكن تداخلها لا يعني ردم بعضها فوق البعض الآخر، فكل منها له خصوصيته، فجهاز الأمن، وهو مؤسسة للإجرام ضد شعب السودان، ليس مثل مؤسسة "العلاقات الخارجية" رغم ما في هذه الأخيرة من فساد ومن عمالة للأجنبي. وهما ليسا في فئة واحدة، مما تعتمده المبادرة.
(5)
هذا التخليط بين الكيانات، في المبادرة، يفضي إلى تكثر الآليات الحكومية الرقابية والبرمجية وإلى الشرذمة، ومن ثم إلى الفشل.
وفي الجامعة كامل مصادر المعرفة عن المآلات المأساوية لمثل هذا التفكير "الإصلاحي"، بدون نظرية، من قبل أصحاب المبادرة.


العقلانية
(1)
فالمبادرة لا يراد منها أن تكون مجرد "تقنيات" أو "آليات"، بل يتعين أن تكون مسكونة بالأساسيات المشدودة إلى النظرية، وإلى مقتضيات الأخلاقية، ومجال ذلك في الفلسفة وفي العلوم الاجتماعية، وليس في العلوم السياسية، على أهمية ما نراه في القوة التقنية للمقترحات الواردة من أساتذة العلوم السياسية، لكنها مقترحات ستفشل إن لم تكن قائمة على فلسلفة تغييرية راديكالية.
والصحيح هو فرز قضية "الدولة العميقة"، لتكون هنالك سياسة واضحة منبنية على العقلانية يتم إشراك الإسلاميين فيها، وحيث لا قيمة هنا لأن تكون إسلاميا أو غير إسلامي، والمهم هو الحجج العقلانية والوقائع والمنطق، في سياق الأخلاقية، لا المعتقد الديني أو التفويض الإلهي، أو الأمر الواقع، ولا هو أيديولوجية من الأيديولوجيات لدى أهل اليسار أو الديمقراطيين.
(2)
وذلك هو منطق المحادثات الديمقراطية، بشأن القضايا الأساسية الكبرى. بينما الأيديولوجيات ثانوية ومحلها المسائل غير المهمة التي أعلى شأنها الإسلاميون، لأن برنامجهم الأساس كان هو صناعة الفساد المحمية بإجرام الدولة.
ومن ثم يجب أن نفهم معنى ترهات صلاح قوش وعمر البشير، بهذا الترتيب، حين يحصران حل مشكلة الإنقاذ في إعادة السماح بالشيشة والمقاهي وفي رشوة الشباب بعناقريب في شارع النيل.
(3)
ذلك أن كامل الأيديولوجية الإسلامية تتلخص أحيانا في مثل هذه الترهات، وهي ليست مجرد "ترهات"، حين نتذكر أنها مكتوبة في القانون الساري المفعول، وفي أصوله في القرآن والحديث والفقه، وفي القضاء اللابد متمسكن مستعد، والله نحن بس نطبق القانون، ولنتذكر جلد تلك الفتاة، وهي من رموز المقاومة الشبابية، وكان جلدها صحيحا شرعا وله سند في القرآن.
(4)
فالقضايا الأساسية أمامنا تتمثل في مشكلات حياتية، وكمشكلات حياتية، تصرخ هذه المشكلات تطلب وضع حلول لها، بعد فشل الادعاء الكاذب أن الحل في الإسلام، وحيث لا يوجد أي حل في الإسلام لمشكلات السودان الأساسية، وهي الوصول إلى الصحة، التعليم، الغذاء، المسكن، الضمان الاجتماعي، الأمان، والحرية، وحيث لا حرية ولا سلام ولا عدالة في "الدين في الدولة"، حقيقةٌ سطرتها الحركة الإسلامية السودانية لجميع الشعوب المسلمة في العالم، لتعرف، وهو الإسهام التاريخي الفريد للحركة الإسلامية السودانية.
وليس هذا على سبيل التهكم، فقد طبقت الحركة الإسلامية الشريعة الإسلامية ومقتضيات الإسلام بصورة صحيحة تماما، ولم تأت إلا بما له تأصيل في النصوص الحاكمة.
ومبادرة الأساتذة اليوم موجودة في وضع يمكِّن الأساتذة من استحضار فشل "الحل في الإسلام"، ومن ثم استبعاد "الإسلام" كلية من المبادرة، وترك تلك عبارة بسم الله وعبارة الله، في ترويسة ورقة المبادرة، لاسترضاء بعض الإسلاميين المخدوعين بأن مجرد ذكر اسم الله سيبارك بحلٍ لمشكلات السودان.
(5)
وكذا يتعين استبعاد أية أيديولوجية، من اليسار، كإطار لحل المشكلات الحياتية الكبرى المختلف بشأنها.
أي، يجب اعتماد العقلانية الصرفة، المصحوبة بالأخلاقية العالمية، ومن مكونات هذه الأخلاقية الهم بالحقيقة، والصدقية، والأصالة السياقية، لا الماضوية ولا التراثية.
وحيث لا يوجد في ماضي السودان ما يفيد في حاضره أو لتركيب مستقبله، يجب اعتماد قطيعة معرفية ووجدانية مع هذا الماضي، وركله وتجاوزه.
(6)
وتتلخص هذه العقلانية في مقاربة المشكلات الكبرى في السودان كمشكلات "عملية"، حياتية، تستدعي حلولا عملية محورها عقلانية الحياة، وهنا لا يهم إلا أن الحلول ذاتها عقلانية، ولا علاقة لها بخرافات دينية، أو بأصنام يسارية، وأنه يمكن تقييمها بصورة علمية، على أساس الوقائع والمنطق، لا على أساس الخرافة الدينية.
وهي حلول لن ترضي جميع الأطراف، لكنها تحمل مقبوليتها في ذاتها، وليس في اعتبارات خارجية عليها.
هذه الفكرة، عن إعلاء العقلانية بهذه الطريقة، مقتبسةٌ، بتصرف كبير، من مقالات الألمانية راحيل جايقي من مدرسة فرانكفورت النقدية، ومن كتابها الأخير عن "نقد سنن الحياة" (جامعة هارفارد 2018)، وأغلبه في الأنترنيت لمن يقرأ الألمانية أو الإنجليزية.


سادسا، الانتخابات وتهيئة المناخ السياسي
(1)
فأهم نقطة غائبة عن المبادرة هي "تمكين" الشباب من خوض الانتخابات، بعد عام، وتقديم الدعم لهم للفوز، كشباب، في هذه الانتخابات المحلية.
ولا يمكن لحزب سياسي أو لكيان آخر أن يتذمر من تفضيل الحكومة الشباب أو دعمهم بملايين الدولارات، ولا شرط لهذا الدعم الحكومي التمكيني للشباب غير الشبابية، وعدم العضوية في أي حزب سياسي، غير حزب فيدرالي موحد للشباب، يتم فيه التصعيد ديمقراطيا من القواعد المحلية في الأحياء والقرى. وهنا، في هذا المستوى المحلي، سيكون السقوط المدوي لجميع الأيديولوجيات، بما فيها أيديولوجيا الإسلامية.
وهذا الدعم المالي والتمكيني للشباب من نوع التمييز الإيجابي، وله أسبابه في تاريخ العلاقات العنصرية، وفي الأخلاقية والعقلانية، والمستقبلية، وضمان سلامة مسار السودان.
(2)
ويكفي السياسيين القدامى جميعهم أن تم السماح لهم بالمشاركة في انتخابات، مما لم يكونوا قادرين على مجرد تخيله أو تصوره، بدون إنتاج الشباب هذا الحدث التاريخي، هزيمة الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، كالشرط الموضوعي الأساس لتركيب سودان مختلف.
ودونك عدم استحقاق بعض هؤلاء السياسيين، مثل الصادق المهدي، لأية مشاركة في العمل السياسي، بسبب جرائمه المتعلقة بتسهيل تجارة الرق، وتسهيل مذبحة الضعين، وتجويعه مجموعة الدينكا في شمال بحر الغزال، وفي منطقة الميرم، دائما في معية نائبه برمة ناصر.
وما كان أي من الصادق المهدي أو برمة ناصر، ليستحق السماح له بمجرد مقاربة التفكير في العمل السياسي العام في السودان المتغير، لولا هذي علة الديمقراطية ذات الأشكال والشكليات، وتطبيقاتها الفاسدة.
سابعا، مفوضية مختصة بشؤون العدالة الاجتماعية
يجب ألا تكون هذه المفوضية عملية "مضاحكات"، أو عمليات نفاق وغش، مثلما حدث في جنوب أفريقيا، بقيادة القس الضحوك المعروف.
ولا يختلف الإسلاميون في إجرامهم عن إجرام العنصريين في جنوب أفريقيا. ومثل الجناة في جنوب أفريقيا، سيعترف الجناة الإسلاميون ببعض جرائمهم للحصول على الغفران، ثم يضحكون على الضحايا وأهلهم وعلى المفوضية.
وقد لا تكون العدالة الانتقالية، بصورتها النمطية المتداولة، هي الاستراتيجية الصحيحة. عليه لابد من ترك الباب مفتوحا للتفكر في وسائل جديدة لا تنقل التجارب الفاشلة في الدول الأخرى، فحتى محاكم القشاشا في رواندا مسرحيات هزلية.
ثامنا، مفوضية مستقلة لمعالجة قضايا الفساد واسترداد الأموال
(1)
أرى تغيير اللغة، من "استئصال الفساد" إلى "مقاومة الفساد"، والمقاومة المستمرة ضد الفساد هي الاستراتيجية الأكثر نجاعة، لأنه أصلا لا يمكن "استئصال" الفساد، إلا باستئصال الفاسدين جميعهم وهم كثر، وإلا باستئصال النزوع إلى الفساد، في دواخل الدماغ.
(2)
يمكن توسيع وظائف المفوضية، لتكون مؤسسة لها سلطات قانونية وقضائية، بما في ذلك نيابة عامة، ومحاكم، أيضا لإظهار القوة ضد النيابة في الدولة العميقة، وضد القضائية الفاسدة، ريثما يحين وقت الإجهاز عليهما، وأن تتوفر للمفوضية الموارد الضرورية للتعامل مع كل أبعاد ظاهرة الفساد في الدولة، بما في ذلك في القطاع الخاص، وفي القضائية ذاتها، أي يجب أن تخضع جميع مؤسسات الدولة للرصد والمراقبة والمحاسبة والملاحقة القضائية، ولا حصانة مطلقة لأحد، ولا حصانة مع الفساد المكتشف لاحقا، إذ يجب محاسبة كل من تبين لاحقا أنه حين استخدم حصانته الوظيفية كان فاسدا.
(3)
وذلك يستدعي تحديد اختصاص المفوضية، لمنع التضارب بينها والقضائية والنيابة العامة، إذا كان لهذه المفوضية أن تكون مستقلة بالكامل وتابعة للمجلس السيادي، وليس لرئاسة الوزراء.
بالإضافة إلى إخضاع جميع المسؤولين في المفوضية لإجراءات إبراء الذمة، بما فيها كشف الحسابات بأسمائهم وأسماء زوجاتهم وأبنائهم، علنا، ليطمئن الشعب، صاحب الحق، وكله يمكن اقتباسه من الدول المتقدمة في هذا المجال، حتى وإن كان ذلك في الأوراق فقط.
ويتعين قبول جميع المسؤولين الجدد الخضوع للمراقبة الشعبية المستمرة. ولن يكون ممكنا لهم الاقتباس من كتاب الإسلاميين، عن "خصوصية التحقيقات" وبقية الخدع.
وهنالك دروس مستقاة من أشكال هذه المفوضيات في دول العالم المختلفة، وهي تبين أن الأغلبية الساحقة منها ضالعة هي ذاتها في الفساد، بسبب الإغراءات من المليونيرات.
عليه، يجب التعامل بالجدية اللازمة بشأن مثل هذه المفوضية. وأن يشمل النص في المبادرة الكيفية التي ستكون بها هذه المفوضية "مختلفة".
دائما، النقطة هي استباق الفترة الانتقالية، وجعل وثيقة مبادرة الأساتذة، بعد تطويرها، نصا إطاريا له مقامية دستورية تحكم جميع الهياكل الانتقالية، بما فيها المنبر الدستوري ذاته، وفي ذلك قطع الطريق على الفساد وعلى القرارات التي ستتخذ بليل.
تاسعا، الشباب
(1)
فلقد بينت أن أساتذة المبادرة لم يفكروا أصلا في "الشباب"، عند كتابة مبادرتهم؛ وعلى أحسن الفروض، قصد الأساتذة عدم الإشارة إلى "الشباب" باسمهم، وميعوا هوية الشباب في عبارة مبهمة ذات لزوجة، "قوى التغيير".
ومن ثم أصبح واضحا أن الأساتذة لم يستوعبوا معنى شبابية هذه الثورة، وهي بالنسبة لهم ثورة مثل أكتوبر، ومثل انتفاضة 1985، حين كان أساتذة الجامعة هم الذين قادوا الحراك، حسن الترابي من كلية القانون في أكتوبر، ومجموعة محمد الأمين التوم وعدلان الحردلو وآخرون في انتفاضة 1985.
علما أن انتفاضة 1985 شارك في تفعيلها "الشماسة"، وهم المراهقون في وضعيات الحياة والعمل في الشوارع، فلم تكترث لهم حكومة أكتوبر، ولا حكومة الانتفاضة، ولا مؤرخو الانتفاضة، ويُذكر دورهم على سبيل التندر، مع حرج في استخدام اسم "الشماسة" ذاته، وهو تسمية الشماسة أنفسهم.
(2)
فالأفكار الرئيسة عن الشباب، بينتها في سياقها في إطار بنود المبادرة، ويمكن إعادة صياغتها لتكون مجموعة تحت بند خاص بالشباب.
لكن محورها يظل تمكين الشباب لملاقاة تحديات التفكير في "البداية الجديدة"، قصد إنشاء السودان بطريقة مختلفة عن هذا القديم الحاضر، بتركيب السودان "من أول وجديد"، ابتداء بالالتفاف حول البرنامج الموحد عن "الأرضيات الأساس"، وهي الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في معية الحريات، في سياق الحكومة الانتقالية.
وكل ما عدا إعلاء هذا البرنامج الموحد، من منطلق فلسلفة التغيير، يعد تفاصيل تقنية متروك أمر القيادة في تصميمها للمختصين من البالغين، دائما في حضور الشباب، بالوسائل المعقولة، وحيث إن "الشبابية" ليست عقيدية دوغمائية، بل هي إطار معياري للتفكير في كل التدابير لتركيب السودان.


خاتمة
تلك بعض أفكار لدعم الإسهام في تطوير مبادرة الأساتذة، وليس هنالك ما هو أفضل من أن ننتقدها، قصد تطويرها. وأرى أن يتم إخضاع هذه المبادرة لمزيد نقد من قبل آخرين وفق ما يرونه. وأن تظل وثيقة المبادرة "مسوَّدة دائمة"، فمفتوحة في كل الأوقات لتحسينها، بالكتابة الجماعية، حتى يتم "قطع رأس الملك"، بطرد عمر البشير، ونوابه، ووزرائه، وعملائه في البرلمان. ولا يعني وشوك قطع رأس الملك أنا نسينا تحديات "الدولة العميقة"، هذه الحية ذات الرؤوس والأذناب، قاعدة لابدة، في جحرها، تتربص. وندرك أيضا، أن نظام الإنقاذ، رغم سقوطه، يظل موجودا.
ولأن جميع الاحتمالات ممكنة، يتعين على الشباب الجاهزية الأخلاقية والعاطفية، في الوجدان، لملاقاة حقيقية المقاومة المستمرة، غير المشغولة بتوقيت زمني، لتوجيه الضربة القاضية لكتابة نهاية الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، وليست هذي نهاية شر الإسلاميين، وقد حدثت، إلا "البداية الجديدة"، لإنشاء سودان مختلف، "من أول وجديد".


...
عشاري أحمد محمود خليل
سياتيل 13 فبراير 2019
Uamk12@gmail.com

 

آراء