لقاء السبت بالخميس!! … بقلم: عمر الترابي

 


 

عمر الترابي
28 August, 2010

 



خواطر في شأن اللقاء الجامع
 
  alnahlan.new@hotmail.com
 
"إن ظُلمتم فلا تظلموا، وإن مدحتم فلا تفرحوا و إن ذممتم فلا تجزعوا  وإن كذبتم فلا تغضبوا وإن خانوكم فلا تخونوا."
القاسم بن عثمان الحريري (ت 200 هــ)
تفيئ ظلال المناسبات المقدسة و الأشهر الكريمة عادةٌ حميدة قديمة ولعلها من باب تعرض نفحات الدهر و أيام الله، وبنفس المعنى يأتي اقتناص ليالي الرحمة لتكون مُتنزلاً للبركات ومحطاً لتحقق الآمال و الأحلام و هو طبع  قويم، و هي سلوكٌ اعتاد عليه العُبَاد و أهل الصِلة والمعرفة بالوسائل، ونحن في رحاب شهر رمضان المبارك نعاود ذلك ونحاوله ونَستحثه طمعاً في خيراته وأملاً في عواقبه، و حقيقٌ بنا أن نتهيأ لذلك بتصفية النفوس وتجويد النوايا وتجديدها، فإن النوال لا يتم لمن لم يتأهب له ويُعِدُ له، فإننا لا نستفيد من الماء النظيف إذا صُب في إناء متسخ.
إننا في حاجة ماسة  إلى إحياء قيم أخلاقية هامة، لا أجد مناسبةً حيّة تستطيع نفخ (أو نفث) الروح فيها لإحيائها مثلما أجد ذلك من رمضان!، فرمضان يُعيد رسم أخلاقياتنا (أو قل تجليتها) و يعيد تشكيل حياتنا (أو قل ترقيتها) و يبارك ممارساتنا لتصبح محلاةً بالقيم وبالفضيلة، فهو يمنع الحلال ترشيداً فيه و يُهذِّب السلوك؛ و يجعل رياضة الروح أسهل و يجعل العبادة تراويحاً والقيام ذكراً والذكر تأمل والتأمل للنفوس تجرد عن الذميم وفناء في الأخلاق المحمودة الحميدة، فما حوجنا إلى تنسم معانيه و التزام آدابه السمحة؛ و ما أحوجنا إلى ثماره من تشارك للهموم؛ و تواصي الأعضاء، و التسامح؛ و التسامي عن الصغائر؛ ما أحوجنا إلى ذلك في معاشنا كله، في علاقاتنا الشخصية؛ في همومنا الكبرى؛ في قضايا الوطن وبحث مصيره.
 إن العثرات التي تواجه البلاد على الصعيد السياسي تحتاج لمزاج رمضاني ذاكر عابد، تحتاج إلى قلب إيماني متصالح مع الكون، محب للسلام مؤمن بقِيَمه، تحتاج إلى دفقات من التسامح تذهب عنا سماجة العنت و قبح التنطع والغلو، نحتاج للكثير لتجاوز أزمة سياسة وثقافة الشقاق والفتن، التي تُذهب الريح و تمضي بنا إلى الهلاك.
لست أدع إلى تجاوز الماضي وأخطائه، فمنها نستفيد وبها نعرف أننا أخطأنا و يجب أن نتوب عنها ونندم على ما أُرتُكِب من أخطاء عظام، لست أدع إلى تجاوزها ولكني أدعو إلى استدعائها للعظة فقط (على الأقل في هذه الفترة)، وربما أدعو إلى تجاوزها (على الأقل إلى حين ضمان وحدة السودان) و مخاطبة اليوم والحاضر بعقل مستوعب لدقة المرحلة وخطورة القرار، فإنه الآن لم يعد المجال مناسباً للمناورة السياسية وجاء أوان الصدق وإعلاء حق الوطن على حقوق النفوس.
السودان اليوم يدين لقادته بدين المحبة والولاء، وأعني بقادته قادة الأحزاب السياسية الكبرى، نعم قد نختلف بينهم و فيهم و لكن بالجملة هم يمثلون المجتمع والأمة في هذه اللحظات الحرجة، فلنُعنهم على أن يكون عامنا هذا عاماً للجماعة، فإننا في هذا الوطن إخوة! وفي هذا الجناب أحباب، وللأخوة حق المعافاة وذاك من حسن الفتوة فقد رُوي أن سفيان الثوري سؤل عن الفتوة فقال "العفو عن زلل الأخوان"، و قال شاعر الصوفية :
هبني أسأت كما زعمت فأين عاقبة الأخوة
وإذا أسأت كما أسأت فأين فضلك والمروة.
إننا لا نستدعي التاريخ الآن إلا ليكون زاداً على مغالبة الحاضر، ومعلماً، فعلى سبيل المثال فإننا نقول : إن الإتحادي الديمقراطي مطالب بأن يكون أكثر الأحزاب تسامحاً وأشدها تمسكاً بنهج الوفاق الذي يرعاه مولانا الميرغني ويكون دعامة لمنهاج التسامح والإخاء، ليس لأنه حاملٌ لإسم الوحدة و الإتحاد وهما تحدي المرحلة، وليس لأن مولانا الميرغني هو شيخ تصوف ونبض تسامح و سلطان حكمة ومعرفة (فقط)، وليس لأن الإتحادي حزب الإستقلال (فحسب)، و لكن لأنه والحركة الشعبية ذاقا مرارة المكايدات، ولأنهما يعرفان ماذا يعني أن يُضارا، فالإتحادي يجب أن يُذَكِّر الناس دوماً بأن قصر النظر السياسي وأشياء الماضي حرمت السودان من تجاوزة محنة "خطر الإنفصال" يوم حرمته من ثمار اتفاقية (مولانا الميرغني- د. قرنق) التي كانت هدية للسودان تغنيه عن وعثاء طويلة نعيش تفاصيلها الآن، فليكن سعي الإتحادي تذكيراً بها ليس من باب المفاخرة والكسب السياسي الحلال (فقط)؛ ولكن من باب أن لا تجعلوا فوق الوطن شئ، أن لا تتفاوضوا بإسم حظوظ النفس ولكن ارعوا حق الوطن وأبنائه، ولعل هذا التفسير الذي يجعل الحزب حاضراً في كل منابر الفرقاء في السودان الآن ويشارك في كل اللقاءات سبتاً وخميساً وجمعة! تجمعاً وإجماعاً، فهو في الخرطوم بالقدر الذي هو في جوبا، فهو حزب صنع السلام يوماً ويعلم أن الشرف الذي يلقاه مؤيد السلام موازٍٍ تماماً لشرف صانع السلام، فقد جربهما و يعرف أن الثانية (تأييد السلام) أصعب من الأولى (صناعة السلام)، فالأولى تحتاج إلى قليلٍ من الصدق وكثير من الصبر والحكمة، والثانية تحتاج كثير من الصدق و مثله من التفاني و ضعفيهما من الإخلاص، ولا سبيل إليه إلى بتربية النفوس.
إننا بهذا الخطاب الذي ينتهز رمضان فرصة للتصافي لا نحاول الهرب من مخاطبة الأمور الواضحة بأسمائها، ولكننا نحاول أن ننبه إلى "أن الدنيا مزرعة الآخرة"، و نذكر بأن الأمر لا يحتمل التستر خلف قضايا فضفاضة، وأنه طارئٌ جداً، ولا سبيل لمعالجته إلا بالصدق والتواضع عليه، إننا نعلم أن الماضي ملئ بالأخطاء وأن أحزاباً تعرضت لظلم فادح (قريباً وبعيداً)، ولكن ذلك كله لن يكون ذا بال إذا تنبهنا أن السودان في سبيله إلى الإنشطار ونحن منشغلون بإشتراطات تقيد الحراك.
المطلوب إختراق هذا السكون بحركة تليق بتاريخ هذا الوطن وبما له من العبقرية السياسية، اختراق بحجم تراث التسامح و المحبة والوفاق، بل وحتى الكرامات، اتفاق يليق بإرادة السلام، عظيم كعظمة قرار مولانا الميرغني السفر إلى أديس أبابا في 1988م لمفاوضة الراحل الدكتور جون قرنق و بحجم إعلان نيفاشا 2005، بحجم لقاءات كبار هذه الأمة قديماً، اختراق بحجم مولانا السيد علي الميرغني و السيد عبدالرحمن المهدي ، بعظمة الزعيم الخالد اسماعل الأزهري و حنكة عبدالله خليل، لا أظن أن السياسة السودانية عقمت حتى تظل وعلى مدى ثلاث سنوات تراوح مكانها مشاكسةً بين الحكومة والمعارضة، ومشاكسة بين الحكومة والحكومة، ومشاكسة بين المعارضة و المعارضة، لا أعتقد أن كبار السودان ما عادوا يستطيعون لم الشمل، ما عادوا يقبلون الجودية و الوساطة و دعوات الوئام، لا أصدق أن مثقف السودان ما عاد له سوى أن يقول متحسراً "ما أشقى هذه الامة بهذه الفرقة".
إن وحدة السودان الحتمية بالقدر الذي تحكية فرضيات دولة المواطنة و طموحات العدالة والديمقراطية، وبقدرما تعطلها أحلام الساسة و "فذلكتهم"، فإن الطبيعة تثبتها، وتوجبها، فالآن معاناة جونقلي توازي معاناة شندي وطوكر، وكوارث الطبيعة توحد الناس، وهي رسالةٌ لتمنحنا ذكرى وعظة، أننا عانينا معاً لأعوام ضاربة في القدم، بل لقرون، وأننا يجب أن نحمل هم هذا الوطن سوية.
إن الأمر الآن بحكم اتفاقية نيفاشا أصبح بيد الحركة الشعبية و المؤتمر الوطني، وبقية القوى السياسة على أهميتها فإن دورها ربما يكون هامشياً، إلا إذا استشعر الناس أن ما بينهم أكبر من اتفاق أو وثيقة تعاقد طارئة لها من العمر ست سنوات!، إلا إذا علموا أن الإستفتاء لتقرير مصير وطن يعني بالضرورة، أنهم يتحدثون عن قرون خلت وأخرى تأتي وهم يتحكمون فيها، حينها سيصبح للأطفال رأي أكبر نصيباً من الكبار و لأهل السودان الكلمة، حينها لن يتذكر أحد النفط "النافد" بل سيتذكر حق التاريخ والجغرافيا "الباقيتين"، سيتذكر أننا ننال حصتنا في النيل الآن بناءً على حقوقنا التاريخية فيه، فإن كان لا يعون معنى الحقوق التاريخية فحري بهم أن يفعلوا، فإنما هم يحكمون في مصير التاريخ و المستقبل معاً، إن السبيل إلى الحل يبدأ من التصافي والإيمان بدور الآخر.
الإستقتاء ليس التحدي الوحيد الذي نحتاج فيه وحدة أهل السودان و رأي "أهل الحل و العقد" وشورهم، بل هناك قضايا مصيرية توازيه أهمية، مثل قضية دارفور التي نأمل لها حلاً قريباً، وأيضاً قضايا الإتفاقيات الأخرى وتعميمها بغية الوصول إلى ديمقراطية حقيقة، هناك قضايا كبرى ولكن الأولوية في هذا الرمضان للإستفتاء الذي نأمل أن يكون طريقاً لوحدة السودان.
سادتي الساسة:
لسنا بعظمة دهائكم، ولسنا بقدرتكم على سبر أغوار المجتمع ورسم ما يناسبه، ولكن لنا عشمٌ بأن تتحدوا، وتجلسوا معاً لتتفاكروا في مستقبلنا وأمرنا، أما يكفيكم أن أهل السودان من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله ومن أقصى غرب إلى أقصى شرقه يفوضون فيكم من يحبونه؟.
إن الملايين التي استقبلت الراحل جون قرنق أصرت على استقباله في الخرطوم إشعاراً منها بأنها محبة للوحدة، وإن الملايين التي استقبلت وتستقبل مولانا الميرغني (في الخرطوم، وكسلا والقضارف وسواكن) تنفست وتتنفس الصُعداء حينما قال ويقول لها أن "الوطن أولاً..وحدة السودان فوق كل شئ"، وإن الذين يعولون على قادة أحزاب السودان الأخرى  الأمة ، الوطني ، الشعبي، الشيوعي،... وغيرها، يحملون في نفوسهم هم الوحدة وأملها، وهم يطلبون بذلك حياةً كريمة في وطن يسع الجميع، أعتقد بأنهم يستحقونها.
سادتي الساسة:
إننا في رمضاننا هذا نلهج بالدعاء لكم بطول العمر ودوام العافية، ونسأل الله أن يحقق عبركم وحدة السودان، أفلا فرفقاً بنا؟، أفلا فتعاونوا، إنا قدّمناكم كباراً فكونوا كباراً وعليكم بقول القاسم رضي الله عنه الذي استشهدنا به في فاتحة هذا المقال إذ يقول:
إن ظُلِمتم فلا تَظلِموا، وإن مُدحِتم فلا تَفرَحوا و إن ذُممِتم فلا تَجزَعوا  وإن كُذِّبتم فلا تَغضَبوا وإن خانوكم فلا تخونوا.
والله المسؤول أن يجعل رمضاننا رحمةً على أهل السودان في غربه وجنوبه وشرقه وشماله و وسطه، ظاهره وباطنه، أرضه وزرعه، و إنسانه كله، عليه التكلان و به الإعانة بدئاً وختماً.
نشر بصحيفة الصحافة بتاريخ: 28-أغسطس-2010    العدد:6153
----

 

آراء