للذين يتسألون كيف يُحكم السودان

 


 

 

babdelmoneim@aol.com

أقول؛ قد تمت الإجابة على هذا التساؤل منذ بدايات القرن الماضي، حيت أثبت التجربة البشرية بما لا يدع مجالا للشك ان الديمقراطية هي أنجع أساليب الحكم. اما إذا كان السؤال اين نوع من الديمقراطية نريد. فأقول لا نحتاج لإجابة هذا السؤال، على اقل الاَن. فكل الديمقراطيات تؤدي الى التنمية وصون كرامة الانسان. يهم الان إرساء قواعد واسس الديمقراطية من خلال هذه العملية يُستشف ما ينسبن ويفي بحوائج ويلبي طموحات السودانيين. من خلال العملية الديمقراطية السلمية يمكن التنقل بين أنواعها بسلاسة ولطف. انتقلت تركيا من ديمقراطية برلمانية الى رئاسية دون ادني صعوبات او تعقيدات.
إذا كانت أثينا قد أعطت البشرية مصطلح الديمقراطية، فأنها لم تخترع الممارسة الديمقراطية. مارست المجتمعات البشرية البدائية ومجتمعات دول المدن القديمة أشكالا متعددة من الممارسات الديمقراطية في مجالسها المحلية أو تجمعاتها القبلية. الديمقراطية منتج بشري اممي ساهمت في ترقيته وتهذيبه كل شعوب العالم على مر التاريخ، وان كان بدرجات متفاوتة. بالتأكيد لن نتحول في ليلة وضحاه الي دولة ديمقراطية مزدهرة. الديمقراطية ليست شكل بسيط وسهل للحكم، لأنها لا تزال تتشكل وتبحث عن الكمال. الديمقراطية كائن حي، ينمو ويترعرع ويتغير ليواكب ويلائم المجتمعات التي يعيش فيها. كما قال براك أوباما ان الديمقراطية ليست مثالية كاملة، ولكننا نكافح لجعلها مثالية كاملة. الديمقراطية قد تكون أحيانا فوضوية وبطيئة، مع ذلك انها أقصر الطرق للوصول الى التنمية المستدامة وضمانة صون كرامة الانسان. قد سُئل إسماعيل الأزهري ان حكومته بطيئة، أجاب؛ ولكن متأكدة. قال ونستون تشرتشل؛ لا يتظاهر أحد ان الديمقراطية كاملة وكلها حكمة، الديمقراطية هي أسوء شكل للحكم الا ما عداها من اشكال الحكم الأخرى.
بالنظر لتجارب الشعوب من حولنا نستشف ضرورة التحول الديمقراطي لبناء الأوطان. اثبت تجربة دول أمريكا اللاتينية على سبيل المثال، ان الانحدار الى الفقر والحروب الاهلية والنزاعات يتم مع صعود الأنظمة الاستبدادية العسكرية. والان صارت الدول التي تبنت الديمقراطية أكثر ازدهاراً حيث قويت اقتصاداتها وتكاملت، وتراجعت معدلات الفقر فيها وتحسنت الرعاية الاجتماعية الشعبية، ونمت الطبقات الوسطى وازدهرت. ازدادت الفجوة التنموية بينها وبين جاراتها الأخرى التي لا تزال ترزح تحت براثن الاستبداد والتي لا تزال تنحدر الى القاع وشعوبها تزداد فقرا وتهاجر اوطانها. كانت الأرجنتين في القرن التاسع عشر سابع اقتصاد في العالم، ولكنها سقطت في شرور الانقلابات العسكرية. فتردت الى مصاف الدول الفقيرة التي تحتاج الى العون والغوث. فصارت نموذجا فريد في التاريخ الحديث لبلد يخرج من مصاف الدول الغنية الى الفقر. الان وبعد توطيد الديمقراطية عادت الأرجنتين الدولة الخامسة عشر عالمياً في سلم الدول المتقدمة، وأحدي دول مجموعة العشرين.
التجربة السياسية في السودان لا تشذ عن ذلك. الليلة السابقة لانقلاب عبود كانت البلاد أكثر ازدهارا وسلاما وامنا من اليوم الذي سقط فيه حكم عبود. والليلة السابقة لانقلاب نميري كانت البلاد أكثر ازدهارا وسلاما وامنا من اليوم الذي اختفى فيه حكم نميري. والليلة السابقة لانقلاب الكيزان كانت البلاد أكثر ازدهارا وسلاما وامنا من اليوم الذي ازيح فيه البشير، ولن أقول اليوم الذي سقط حكم الكيزان لإنه لايزال يحكم. اثبتت ما يقارب للستين عاما من الفشل والعجز والفساد ان الحكم العسكري الشمولي لا يصلح لحكم السودان.
لذا يجب ان تنصب كل الجهود لتأكيد خيار الديمقراطية وتفعيل ادواتها وترسيخ مؤسساتها. من خلال الديمقراطية وتجويد استخدام ادواتها يمكن معالجة كل المشكلات والتحديات.
تجربة الانتقال هذه المرة فريدة ويجب الا تشبه سابقاتها لأنهن فشلن في بذر ديمقراطية مستدامة. لكونها فريدة، ستشهد بالتأكيد كثير من الأخطاء. ولكن لا يجب ان نخشى الوقوع في الخطاء ويكون ذلك سبب في التراخي والتقاعس والتأخير. لنبدأ بتوحيد فصيلي تجمع المهنين السودانيين، وتفويضه لقيادة مرحلة الانتقال الديمقراطي. وتنخرط كل جماعة ثورية بالعمل على إرساء قواعد ما يليها من أعباء الانتقال (مقالي السابق: ليتحد فصيلي تجمع المهنيين ولتسقط بس.)
ليبدأ اولاً القضاة بإنشاء مجلس القضاء الأعلى. لا اري سبب يمكن ان يؤجل إنشاء هذا المجلس. الهيئة القضائية في البناء الديمقراطي، هيئة مستقلة فنية لا تتلون بحزب او ايدلوجيا. تتشكل من قضاء مشهود لهم بالاستقامة والانتماء الواضح والصريح لثورة ديسمبر. ويدعم المجلس بلجنة خبراء دولية لمساعدته في تشكيل هياكله ونظمه بما يتماشى مع أسس الدولة الحديثة والقوانيين الدولية لحقوق الانسان والمرأة والطفل. يتبع انشاء المجلس الأعلى للقضاء اَنياً إنشاء هيئة لإزالة التمكين كهيئة عليا مستقلة ذات صلاحيات واسعة. إزالة التمكين من أولى اوليات المرحلة الانتقالية لإرساء الديمقراطية، وبدون إزالة التمكين، كمسؤولية فنية سياسية وليس حزبية، لن يكون هناك انتقال لديمقراطية مستدامة. ولان هذه اجهزة فنية قانونية، يجب الا نختلف عليها، وبإنشائها ينزاح عبئ كبير عن عاتق الثورة، وينكسر هاجس البدء والقصور ذاتي السياسي.
لا نحتاج عناء البحث والتصارع من اجل مؤتمر دستوري لخلق دستور. فهل حمت الدساتير البلاد من الانقلابات العسكرية. ما فائدة الدساتير، ورأيناها تبدل وتغير فقط لتتماشى مع طموحات الرؤساء والعسكر، بل ترمى كالمحارم الورقية. انتجت عبقرية الشعب السودان ما هو أشمل من الدستور وأكمل مقتصدا في ست كلمات: حرية، سلام، عدالة، المدنية خيار الشعب. وهذ يكفي. بعدها لتجتهد المؤسسات التشريعية لترجمته قوانينا وتشريعات، والمؤسسات العدلية لحمايته. والمؤسسات التنفيذية لتوطيده واقع تنموي، والسلطة الرابعة؛ الصحافة، لكشف الإخفاقات وتمليك الحقائق للشعب. تطور الدستور الأمريكي من دعوة لتشكيل عصبة صداقة بين الثلاثة عشر مستعمرة مستقلة الى ما يفخر به الامريكان كأقدم وثيقة دستورية موجودة في العالم اليوم. ليس لبريطانيا العظمى دستور مكتوب.
أما الكلام المرسل المكرر بلا كلل او ملل عن غياب مشروع وطني وفشل المشروع الوطني، فهو كلام سفسطائي لا يخدم التحول الديمقراطي في شيء. المشروع الوطني هو فكرة شعبوية من القرن الماضي، وإن بدأ بالظهور مرة أخرى. وهو وهم أو مفهوم خيالي تخترعه الصفوة كأداة لسيطرة والتحكم في مصائر الشعوب من خلال التلقين والدعائية للالتفاف حول الزعيم او الأيدلوجيا. وفي جوهره تناقض مع التعددية السياسية والثقافية والأثنية. حتى لو وجدت حاجة لمشروع وطني، لما لا يؤجل الي مرحلة ما بعد توطيد الديمقراطية ومؤسساتها لتشارك في صنعه كل الشعوب السودانية في جو من الحريات معافى وتحت كفالة القانون العادل.
إن كنت لا أقف موقف حدي من هذه المفاهيم، ما أهدف إليه هو لفت الاهتمام لحساسية الزمن والحاجة الملحة للإسراع في البدء بعملية الانتقال الديمقراطي. فهذه اللحظة الحرجة من تاريخ السودان يجب انهاء التلكؤ واللجوء الى حلول برغماتية مبتكرة لمعضلات اَنية حرجة غير قابلة للتأجيل.
////////////////

 

آراء