للروح ألف سببٍ لتبقى بيننا: في وداع : الكاتب / سالم أحمد سالم
عبد الله الشقليني
21 January, 2012
21 January, 2012
abdallashiglini@hotmail.com
للروح ألف سببٍ لتبقى بيننا : في وداع : الكاتب / سالم أحمد سالم
(1)
أنا الآن وحدي ، لا مهرب ولا ملاذ ، لا ضمان عالمي كان عريضاً في الخارج ، الآن قد تقلص وارتدّ على أعقابه حتى صرتُ العالم أنا ، ولا عالم غيري . أين إذن الجذور الضاربة في القِدَم؟ أين ذكريات الموت والحياة ؟ ماذا حدث للقافلة والقبيلة ؟ أين راحت زغاريد عشرات الأعراس وفيضانات النيل وهبوب الرياح صيفاً وشتاءً من الشمال والجنوب ؟
الطيب صالح : موسم الهجرة إلى الشمال .
(2)
طريق الهوى سهولٌ وعِرة وجبالٌ من فوق سمائها نسور وقّادة النظرات .
لا الفرائس تجد طريقها للكهوف العارية ، ولا الآكام تُخفي لذة الهرب من الموت .طريق الهوى غريب كأنه ينحت أرجلنا وهي تطأ الرمل الناعم ونحن فرحين .
أول مرة بكيت ، مثل كل الذين يخرجون من شرنقة الأم الأولى . صرخات لن أذكرها ، فكانت روحي تتشكل ولم أعلم أن الكون أكثر تعقيداً مما ينبغي . الأم والأرض والشمس والطبيعة والخصوبة .. نحيا . عند الطرف الذي تأوي إليه الشمس برتقالية تُمتِّع من ينظر إليها وهي تغادر إلى الجهة الأخرى من أرضنا . وتتالى البكاء عند كل فاجعة رحيل .
(3)
لم أكن أعلم أن هذا العام ، مثل الذي سبق ، يزرو الريح أجساداً من لحمٍ ودمٍ ، عشنا برفقتها الحياة الثقافية ونحن نُكافح لنتقدم في طريق وعِر ، بمرارة مذاق النشوة في الانتصارات الصغيرة وإسعادها قلوبنا . ها هو الجسد الكثيف يتثاقل ويرحل . وتبقى الروح التي تشفُ كل ما وراءها ، فتنهض الرؤى والأفكار و شيء من الذكرى أكبر من حوائط النسيان ، تركب أفراس وتنطلق أسرع من الريح ، عصية عن الذهاب بعيداً إلى الأفق ، لتعود مرة أخرى، قريبة إلينا ، حين نستدعي ألقها تكون في غرفة نائية في وجداننا ، تجلس مجلسها العالي وترشف قدح القهوة معنا ونتجاذب معها أطراف الحديث الشجي . فكُن سيدي أبداً بيننا .
(4)
يُكتب الكثير في سير السلاطين ، ولا يُكتَبُ كثير شيء عن حيوات المُبدعين الذين كان أزميلهم هو الذي ينحِتُ في صخر الحياة ، يؤسسون للحداثة مبنى ومعنى ، ويُبشرون بحياة أفضل . هؤلاء هم الذي يستحقون أن نرسُم لهم في سرب الطيور أجنحة الذكرى ملونةً ، مكتوبة بماء ذهب القلوب التي تُحب.
(5)
أسهم صديقنا الذي لم نلتقي ولم نَشمّ ريحه بالكثير ، وتشاركت أرواحنا في تعقيد تناول الهمّ الثقافي المتنوع ، ونمتشق أدوات جديدة . أحب هو الديمقراطية والحرية والتقدم والشفافية والوضوح . كانت عيناه ترى ببلور شفاف ، لا سواد يُلطخ مرآته الناظرة ، ولا يكيل إلا بمكيالٍ واحد . جرّد قلمه الناصع لبيان خطوط الرؤيا المتشابكة في وطن تقطعت به أسباب النجاة من الهلاك ، وارتدّ الجميع عن الوطنية إلى القبيلة كي يحموا أنفسهم في انهيار الدولة الغارقة في بحر التطرف، وقسوة أيديولوجية لا تنتمي لتراب الوطن ، ولم يقدر جالبوها أن يستزرعوها في أرض وطننا ، فكانت القسوة هي طريقهم الوحيد حين أمسكوا بالسلطة ، لا يعرفون الفرق بين حزّ الأرض لتمكين النبات ليحيا وبين وحزّ الرقاب في إيديولوجية القتلة الذين لبس أثواب القداسة وتحدثوا باسم الرب !.
(6)
تجايلنا في العُمر وتفرقنا ، عدة كيلومترات تفصل بين مكانينا، ولنا أصدقاء مشتركين في بهو الصبا ، ومرابع الشقاوة الأولى . كان هو أصدقنا كِتابةً ، وأوضحنا أفقاً . مشى الأرض الوعرة في المنافي ، وحفّ وجدانه بلهيب قضية وطنه ، فكتب عنها ما استطاع ، ولم يرتجع خطواً نحو التقدم إلا زاد اتساعاً إلى الأمام .
(7)
كتب في مطلع كتابه ( الطريق إلى الدولة ) الصادر عام 1999 م :
(عندما أقرأ كتاباً في التاريخ أو أشاهد قطعة أثرية أو أزور معلماً تاريخياً في أي مكان في الأرض ، أحاول دائماً معرفة إن كان لهذه المعلومة أو القطعة الأثرية أو هذا البناء التاريخي أي أثر في حياتنا المعاصرة، شكل البناء ، التصميم الهندسي ، الرسم والنحت والتذوق الفني والأدب ، أو أنظمة الحُكم والعلاقات الاجتماعية والروحية ، إلى غير ذلك من أسباب المقارنات التي أحاول أن أتعرف من خلالها على مدى التقارب أو الترابط بين واقعنا المعاصر وبين تلك الحضارات القديمة ، والتعرف على درجات التطور التي أحدثها الإنسان في جوانب الحياة على مرّ العصور. )
كانت عيناه اللتان تقرآن ، تمسح بأضوائها الحجر والشجر والبشر ، وكتب لنعرف كيف يكون الطريق إلى الخروج من كهوف العتمة إلى الأرض المنبسطة في السهول وفي الجبال وفي الماء ، وكيف للبشر أن يجمعوا أفضل زادٍ مما لديهم للاستنارة .
(8)
جاء الرحيل مُبكراً ، ونحن ننتظر الدعوات لينجو لنا بالشفاء ويكتب مثلما تعودنا كتبه الناصعة تفاجئ الأقلام الخائنة في مخابئ سترها ، وينشرُ الوعي .بالذي أصبح شمساً في وعينا ، اتفقنا على الكثير ، واختلفنا على القليل . تجده ودون سابق معرفة كأنك كنتُ معه في طفولتك الباكرة ، أو رافقت شقاوته في الصبا ، أو في منحدر العواطف الجامحة .
(9)
من كل رافد من سلسبيل جنانك يا سيد الأرواح ، هبه اللهُم من يرطبُ مرقده ، ومن يعلي هامة الصبر ، علنا نستظل من فوق سحائب المحبة ، ونلمحُ قمراً ، هو ما تركه بيننا .
ألف رحمة ونور عليه ، كان يقتسم معنا خُبز المعرفة ، وكان نبيذ يسوع المسيح الأحمر دوماً دماً مراقاً ، وليس من سبيل للنسيان.
عبد الله الشقليني
20/1/2012 م