لماذا أخفى أبو سليم هذا النص من تحقيقه لمنشورات المهدي؟ … بقلم: د. محمد وقيع الله
د. محمد وقيع الله
16 April, 2009
16 April, 2009
قراءة عصرية في منشورات المهدية
د. محمد وقيع الله
( 1 من 2)
waqialla1234@yahoo.com
طلبت من مكتبة جامعة المسيسيبي أن تزودني بنسخة من كتاب (منشورات المهدية). ولما كانت المكتبة لا تملك هذا الكتاب، فقد طلبته لي من مكتبة أخرى. ففي نظام الإعارة الداخلية بين المكتبات الأمريكية، تطلب مكتبة الجامعة الكتاب من أجلك، من أي مكتبة أخرى في العالم، على مسؤوليتها، وتعيرك إياه ريثما تقضي وطرك منه، ثم تعيده إليها.
نسخة أم درمان من الكتاب:
لم يخطر ببالي يومها غير أني سأحصل على نسخة من الكتاب، الذي حققه العلامة الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم. ولكن كم كانت دهشتي بالغة، إذ جاءت لي الجامعة بنسخة من الكتاب، استعارتها من مكتبة جامعة هارفارد، كانت من الطبعة الأولى لكتاب(منشورات المهدية)!. وهي الطبعة التي صدرت عن مطبعة الحجر، بأم درمان، في عام 1896م. وكانت قد طبعت بأمر من الخليفة عبد الله التعايشي، رحمه الله. وهذه النسخة لم يكن للدكتور العلامة أبي سليم، رحمه الله، علم بوجودها، لأنه قرر أن النسخة التي حقق منها طبعته للمنشورات، هي نسخة جامعة بريطانية، وذكر أنها النسخة الوحيدة، التي بقيت في العالم أجمع، مما صدر عن مطبعة الحجر، من (منشورات المهدية). عمر هذه النسخة هو بالضبط اليوم 113 سنة ميلادية، وهي مع ذلك تبدو في وضع سليم، ولا تعروها آثار البلى، لأن مكتبة جامعة هارفارد قد عرفت قدرها، فصانتها من أيدي العوادي والحدَثَانِ. ويضم هذا المجلد من كتاب المنشورات جزئين اثنين، أولهما: في 290 صفحة وهو يحتوي علي المناشير الدالة إلى الله، بدلالة القرآن العزيز، للإمام عبد الله المهدي. ويليه الجزء الثاني: الذي يحتوي على الإنذارات، لبعض العلماء، ومشايخ الدين والحكام. وعلى صدر هذه الطبعة من (منشورات المهدية) كتب التصدير التالي: هذا هو" الجزء الأول من مناشير سيدنا الإمام المهدي المنتظر محمد بن عبدالله عليه السلام. طبع بمدينة المهدي عليه السلام، يوم السبت المبارك لتسع مضين من شوالي عام 1314هـ من هجرته صلى الله عليه وسلم وشرف وبارك ".
الأرواح المتمردة:
والمطلع على هذه المنشورات المتكاملة يرى فيها الدليل الساطع علي عمق العاملين الروحي والعلمي في الثورة المهدية.ويرى أن الإمام المهدي إنما حرك كتل الناس للجهاد عندما أفرغ قلوبهم من حب المادة، وحلق بهم في سماوات الروح. وهذه المعاني أدركها من دون أن يقرأ تفصيليا هذه المنشورات، المفكر الثوري الكبير اللماح، كارل ماركس، فاحتفي بالجانب الروحي في الثورة المهدية.ولا ريب أن ماركس كان على اطلاع عام على أخبار الثورة المهدية، مما كانت تنشره صحيفة (التايمز) البريطانية من أخبارها. وعلى إثر معركة الجزيرة أبا في عام 1881م، قيل إنه كتب إلى رفيقه في الفكر والنضال، فريدريك إنجلز، قائلا: إن الأخبار التي تأتينا من السودان، في هذه الأيام، أخبار مثيرة للفكر، وإنها ستدفع بنا إلى أن نجيل النظر في مجمل بنية المذهب الشيوعي، الذي ندعو إليه، وستجبرنا على إعادة التأمل في حديثنا عن أن الدين إنما هو مجرد إفراز للوضع الطبقي، وتدعونا إلى النظر بعين النقد إلى أطروحتنا المتفرعة عن ذلك، وهي القائلة إن: (الدين أفيون الشعوب). فإن الدين الإسلامي، بهذه الصيغة الثورية المهدوية المتفجرة في السودان، أصبح، وسيضحى وقودا للثورة العالمية ضد الإمبريالية، ولا يمكن أن يوصف بأنه أفيون يخدر المستضعفين كما كنا نقول.
من ماركس إلى القدَّال:
ولكن لم يتمكن كارل ماركس من التفرغ لإعادة النظر في مجمل فكره، على نحو جذري، لأنه مات بعد عامين من معركة الجزيرة أبا، التي انتصر فيها مستضعفو السودان على جند الإمبريالية المقتحمين. ولقد كان ينتظر أن لو عاش كارل ماركس دهرا بعد ذلك، أن يعيد ترتيب الفكير اليساري الثوري على نحو جديد، غير معاد للدين، ولربما انطلق شعاره الثوري بعد ذلك لينادي: يا مستضعفي العالم، إن الدين ليس أفيونا للشعوب، كما كنا نقول، بل هو وقود الثورة، فاتحدوا وانتظموا خلف قيادة الإمام المهدي القادم من بلاد السودان!. وقد كان من المفروض أن ينهض الرجل الذي خلََف ماركس على إمامة الفكر الشيوعي، وهو فريدريك إنجلز، بالواجب حيال هذه المسألة التأسيسية المهمة، ولكنه لم يقم به كما ينبغي، ولم يقم به أي خلف لذلك السلف. بل إنهم سدروا في غيهم يستخدمون أطروحات ماركس المادية المتطرفة، التي كان هو نفسه على وشك التخلي عنها. وحتى عهد قريب كان أحد أحفادهم، وهو الدكتور محمد سعيد القدال، يدرِّس طلابه بجامعة الخرطوم، وقائع الثورة المهدية بمصطلحات ماركسية، ويصورها صراعاً طبقياً ماديا بين البروليتاريا السودانية والإمبريالية الغربية!!
ثقافة الإمام المهدي:
إن قراءة (منشورات المهدية) تسلط أضواء كثيرة إلى مكامن أسرار وخفايا وخواص لتلك الثورة الهائلة، التي بعثها الإمام المهدي، ورجََّ بها أرجاء البلاد، وقوض بها أركان الظلم والاحتلال الأجنبي، ونشر بها الفكر الجهادي الذي تألف من فكر صوفي ذي لهب. وتفيد قراءة هذه المنشورات أول ما تفيد في تحديد جذور ثقافة الإمام المهدي، ومنابع فقهه الديني والسياسي. فقد كان المهدي على ثقافة دينية فقهية و(عرفانية) قوية، استمد أقلها من تعليمه النظامي، وأكثرها من اطلاعه الخاص على فكر حجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي، وخواطر الصوفي الأندلسي ابن عربي الحاتمي. وعن تكوين المهدي العلمي ذكر العلامة محمد إبراهيم أبو سليم أن الإمام المهدي:" نال قسطا وافرا من التعليم في حدود ما كان متاحا لأترابه في ذلك الزمان". وذكر عنه العلامة الدكتور عز الدين الأمين أنه التحق بمسجد كترانج ودرس هنالك كتبا من عيون التراث منها (قطر الندى وبل الصدى) و (وشذور الذهب في معرفة كلام العرب) لابن هشام الأنصاري، وهو المؤلف الذي قال عنه ابن خلدون: "ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه". وربما درس المهدي هناك أيضا من كتب الفقه المالكي الرسالة الشهيرة لسيدنا ابن أبي زيد القيرواني التونسي المالكي السلفي، ومن كتب العقيدة (جوهرة التوحيد) وغيرها من كلاسيكيات أصول علوم الدين.وفي عام 1297هـ اختتم المهدي دراساته بأكاديمية كترانج الراقية، الرفيعة الشأن، وفكّر في الالتحاق بالأزهر بمصر، إلا أنه توقف في طريقه إلى هناك بخلوة الشيخ محمد الخير عبد الله خوجلي الشهيرة بالغبش، غربي مدينة بربر، واستقر بها، وطابت أوقاته هناك بصحبة الكتاب الأشهر، للإمام الأكبر، شيخ الإسلام أبي حامد الغزالي، كتاب (إحياء علوم الدين)..
البداية المحرقة والنهاية المشرقة:
ومما ينقله الرواة أن الشيخ الغبشاوي افتقد المهدي لعدة أيام، وسأل عنه، وطفق يبحث عنه بنفسه في كل مكان، حتى وجده أخيرا منزويا في خلوة روحية رهيبة منكبا على قراءة كتاب الإحياء. وراعه ذلك المنظر المذهل وأزعجه، فانتزع الكتاب من يد الفتى المهدي، خشية أن يحترق بوهجه ولهيبه، وأمره في لهجة المربي العارف الحازم، ألا يقترب من كتاب الإحياء، إلا بعدما يستكمل دراساته في الفقه المالكي. فـ (كورسات) الفقه المالكي، بلغة المناهج الحديثة، هي المتطلب القبْلي، للاستغراق في (كورسات) التصوف، والسباحة في بحوره اللجية العارمة.وفي قرية (أم مرحى) المعمورة، لازم الفتى الطالب محمد أحمد المهدي، شيخ الطريقة السمانية محمد شريف نور الدائم، وعثر لديه على كنوز كتب علم الباطن، مثل آثار أحمد بن إدريس، كما اطلع على تفاصيل وأسرار الفكرة المهدية المبثوثة في كتاب (الفتوحات المكية)، فكانت تلك هي بوادره الأولى في التعرف إلى تراث المهدية، في (الثيولوجي)، و(المثيولوجي)، الكثيف، الذي انثال من قلم ابن عربي الحاتمي السيال.وقد أعانت هذه القراءات المتعمقة، في روائع الفكر، الإمام المهدي، لكي ينضج فكريا، ويبرز فيلسوفا، ويقود الثورة، التي أقلقت دوائر الغرب. وعن التكوين الفكري العام للإمام المهدي شهد العميد أبو سليم شهادة كبرى فقال إن المهدي:" كان هو بنفسه يكتب مشرعا، وواعظا، وحاكما، وكأن الكتابة مهمته الأولى، ولا يترك لغيره إلا ما لا يتوفَّر له، فالمهدي هو الموجه الأول لمسار الفكر، وهو القدوة للكتاب فيما يكتبون، ولست أرى في تاريخ السودان من كان له مثل هذا التأثير البالغ في تاريخ الفكر والثقافة في السودان".وصدق أبو سليم، وهذه شهادة خبير، يقرُّه عليها كل منصف من أهل الفكر والذكر، فلو لم تكن للإمام المهدي تلك البداية المحرقة، لما كانت له تلك النهاية المشرقة!.فهذا التأهيل الأكاديمي والروحي العالي، والملتزم للإمام المهدي هو الذي فجر ثورته السياسية الكبرى التي صنع بها واقعا جديدا في السودان، وأفرز تراثا فكريا قويا، كان هو الإعلان والمرتكز العام لتلك الثورة. وهذه دلالة أكيدة كبرى على أن الثورة لا يمكن أن تتفجر من دون فكر، وهذا درس جيد نافع لسياسيي السودان المعاصرين أجمعين(نواصل ما اتصل الأجل بإذن الله)