لماذا بقيت الخرطوم جزيرة معزولة في بحر ثوري متلاطم الأمواج ؟؟

 


 

سارة عيسى
19 February, 2011

 



    قبل عام من الآن قامت إحدي الفضائيات السودانية بعمل جولة داخل حرم جامعة الخرطوم ، فألتقت أحد الطلاب وسألته من هو شهيد ثورة إكتوبر 1964م ؟؟ فرد الطالب ومن دون تردد أنه الشهيد الزبير محمد صالح ؟؟؟ ، فقد أستهجن الكثيرون  من الذين شاهدوا  البرنامج الحال الذي وصلت إليه الثقافة السياسية في السودان ، لكن ما وصلنا إليه هو بفعل سياسة مدروسة وليس مصادفة ، في عام 1990 كان رجال الإنقاذ يرددون في وسائل الإعلام  أن إستقلال السودان الحقيقي بدأ في عام 1989 وليس في عام 1956 كما يُشاع ، وتفسيرهم لذلك أن الإستقلال الحقيقي بدأ عندما أعلن النظام الجديد تطبيق الشريعة الإسلامية ورفع شعار الإعتماد على الذات ، والسودان الآن بالجد هو معزول عن ما يجري في المحيط العربي ، فلأول مرة نرى شباب يتظاهرون ضد سلطة العقيد القذافي ويحدثون  فيها  شرخاً ورعباً لا مثيل له ، فنظام العقيد القذافي قام على عقيدة الأبوية الفكرية ، فقد كان العقيد الليبي هو الشخص الذي يزود الشعب بالثقافة المطلوبة ويردد على مسامعهم وطلب منهم حفظ  كلمات الثالوث وهي الله ثم ليبيا ثم القذافي ، لكن  على الرغم من سياسة تغبيش الوعي وتجهيل الشعب وسطوة اللجان الشعبية خرج الشعب الليبي عن صمته وعبّر عن رأيه  ، لن يعيش أحد في جزيرة معزولة بعد اليوم ، وقوة الأجهزة الأمنية تبخرت أمام قوة الكلمات في الكيبورد . ولم يجد الزعيم الأممي  خياراً سوى السير مع الموجة وركوب قطار التظاهرات لكن من محطة المريدين والأتباع .
   الشعب السوداني عاش ثلاثة ثورات شعبية مختلفة  على مدى قرن ونصف ، ثورة الإمام المهدي في عام 1885 وهي ثورة فريدة من ناحية السبق الزمني ومساحة التمدد ، فهي سابقة لكل الثورات العربية ، وهي فريدة لأن الإمام محمد أحمد المهدي أستطاع توحيد كل أهل السودان ضد  ضد سياسة التركية المصرية الظالمة ، تم ذلك من دون تغطية صحفية أو وسائل إعلام ومن دون سند خارجي ومن دون وسائل إتصال ، والثورة الثانية هي إكتوبر 1964 وشرارتها كانت تعذيب طالب في مدينة الأبيض على يد الأجهزة الأمنية التابعة للرئيس عبود  ، ثم ثورة أبريل رجب في عام 1985 والتي نشبت بسبب تردي الأحوال الإقتصادية وعدم الحريات ، لذلك ليس صحيحاً ان كل من تونس ومصر هما بطلتا التغيير في العالم العربي ولم يصحح نظام الإنقاذ  إعلامياً هذا الخطأ لأن له موقف سلبي من هذه الثورات  ، كان للسودان مضمار كبير في كسب الحريات عن طريق الثورات الشعبية ، وقد أتفق مع الجميع أن الروح الثورية السودانية قد تراجعت قليلاً لكنها لم تنطفئ  إلى الابد ، فهو موروث جيني سوف يشتعل عندما تحين اللحظة المناسبة ، صحيح أننا  لم نعد شعباً موحداً كما حدث في  ثورات كل من عام 1885 ، 1964 ، 1985 ، نحن الآن شعوب وقبائل متناحرة بسبب سياسات الإنقاذ ، والجيش لم يعد مؤسسة قومية كما  حدث في مصر أو تونس ، كما أنه لن يكون محايداً  عند وقوع السقوط الكبير أو يحمي الثورة أو الدستور في حالة الفراغ  ، فالدستور الحالي الذي كتبه الدكتور الترابي في عام 1998  وفي خلال مدة شهر وصوّت له كما يُشاع كل الشعب السوداني ، وربما لا يعرف قادة الجيش عن هذا الدستور  شيئاً ، فهو من الغيبيات التي عليهم الإيمان بها وتصديقها وليس عليهم الخوض في التفاصيل ، فضباط الرتب الوسطى الذين يمثلون أغلب الجيش دخلوا الكلية الحربية عن طريق التزكية وهم منظمين في الجبهة الإسلامية بشهادات الميلاد  ، وكم مرة سمعنا الرئيس البشير وهو يكتب الدستور في الهواء الطلق ويطلق وعيده بأنه سوف يعلن السودان دولة عربية وإسلامية من جانب واحد إذا أعلن الجنوب الإنفصال ، لذلك لا يوجد دستور يتوجب على الجيش حمايته  .إذا اضفنا إلى كل ذلك أن الشرعية الدستورية التي يحكم بها الرئيس البشير الآن  مرجعها المبعوث الأمريكي سكوت غريشن الذي سمح له بتزوير الإنتخابات وطلب من المجتمع الدولي الإعتراف بها  ، وقد دفع البشير الجنوب نحو الإنفصال من أجل الإحتفاظ بالسلطة ، فهو سعيدٌ الآن لأن النظامين في مصر وتونس قد سقطا ، فهو يُرجع ذلك إلى تضييق هذين النظامين على الإسلاميين  فقط ، فهو يتعامل مع هذه الثورات بعاطفة  جمهور كرة القدم  من غير أن يتنبه أن هذه الانظمة هي نسخة طبق الاصل من نظامه ، والفارق الوحيد أنه نكلّ بكل السودانيين وقتل الملايين منهم في دارفور والجنوب ، هذه الثورات نشبت بسبب المحسوبية والفساد والفقر والمرض وليس بسبب أن الإسلاميين قد تعرضوا للأذى والحبس ، هذا تبسيط غير محتمل ولا يقبله العقل  ، صحيح أن الإسلاميين استفادوا من هذه الثورات واثبتوا وجودهم لكنهم أعتبروا أنفسهم جزءاً من النسيج الثائر والمطالب بتحسين الظروف المعيشية وإطلاق الحريات .
وقد بدأ الرئيس البشير شامتاً بحسني مبارك على الرغم أن الأخير كان يفتح له أبواب قصره على الرغم من مذكرات القبض الصادرة  بحقه من  قبل المحكمة الجنائية الدولية ، الرئيس البشير يلعب السياسة بطريقة مصارعة الرويال رامبل (royal rumble) ، وهي طريقة تعتمد على إستبعاد الخصوم المحتملين عن حلبة المصارعة لكن المحصلة النهائية أن كل لاعب يهدف لتحقيق الفوز لنفسه  والنأي عن السقوط من الحلبة ، إذاً الرئيس البشير يعتبر نفسه الصامد الأخير في حلبة الثورات المتسارعة ، فهو  لا يدرك أن كل من حسني مبارك وزين العابدين بن علي لم يقسما بلادهما  جغرافياً أو عرقياً على الرغم من توصيفهما كعملاء للغرب ، كما أنهما حافظا على الجيش كمؤسسة أمنية قومية حامية للجميع ولم يدنساها بالسياسة  ، وكما أن ملفهما نظيف من جرائم الحرب والإبادة الجماعية ، وقد أستغربت جداً عندما أعلن الرئيس البشير أن أكثر من 90% من السودانيين هم اعضاء في حزب المؤتمر الوطني ، ولا أعلم هل هذه الإحصائية أُعدت  قبل إنفصال الجنوب أم  من بعده ؟؟ وأنا أعلم أن عدد الذين شملهم السجل الإنتخابي الأخير هو 16 مليون مواطن ، وبعد الخج والمج صوّت لحزب المؤتمر الوطني اقل من نصفهم ...إذاً كيف وصل عدد العضوية إلى ما يزيد عن 90% من الشعب السوداني ؟؟ هذا يذكرني بنكتة جحا وزوجته ، أنه  في يوم أعطاه كيلو من اللحم وأمرها بطبخه ، لكن الزوجة الشرهة أكلت اللحم وأدعت أن القط هو الذي أكله ، فقام جحا بوضع القط في الميزان فلم يزد وزنه عن كيلو واحد  فقال لها جحا متسائلاً  : هذا هو كيلو اللحم فأين وزن القط ؟؟
سارة عيسي

sara issa [sara_issa_1@yahoo.com]
 

 

آراء