لماذا لم تتِمْ محاكمةُ مُدبِّري انقلاب 17 نوفمبر 1958؟ دروسٌ لثورةِ ديسمبر 2018

 


 

 

(ملحوظة: هذا المقال تم نشره من قبل في سودانايل بتاريخ 31 مايو 2019م )

1
يقوم عددٌ من المحامين السودانيين الوطنيين بمهمّة جمع المعلومات والشروع في رفع قضايا ضد مُدبِّري انقلاب 30 يونيو عام 1989 بتهمٍ تشمل تقويض النظام الدستوري، والتمرّد على الشرعية القانونية، وحمل السلاح. وقد توسّع هؤلاء القانونيون في خيارات المحاكم، فشملوا المحاكم الوطنية ومحكمة الجنايات الدولية.
وقد أشاد عددٌ كبيرٌ من المراقبين الدوليين والمنظمات المعنيّة بحقوق الإنسان وحكم القانون بهذا الأجراء الذي أكّد سلميّة ثورة 19 ديسمبر وإيمان قادتها بالشرعية القانونية والسلطات القضائية. من الجانب الآخر فقد أرعب هذا القرار قيادات الإسلاميين، خصوصاً الذين ظنّوا أنهم بالانشقاق عن تنظيم الإخوان المسلمين السودانيين الأم سوف ينجون من المحاسبة. وقد ذكّر الكثيرُ من السياسيين والقانونيين هؤلاء الإسلاميين بمحاكمة الإنقاذ وإعدامها 28 ضابطاً سودانياً بنفس التهم – التمرّد على الشرعية وتقويض الدستور – رغم أن الإسلاميين وحكومتهم لم تكن لهم أية شرعية أو دستور.
وقد رأينا البحث والتقصّي في السوابق السودانية في هذا المجال بغرض التحوّط لكل ما قد يلجأ إليه الإسلاميون الذين دبّروا ونفذوا انقلاب 30 يونيو، وكذلك حلفاؤهم، في محاولاتهم الالتفاف على حكم القانون وعلى مبدأ محاسبتهم ودفع الثمن لجرائمهم. وتشمل هذه الجرائم ليس فقط الاعتداء على النظام الدستوري وتقويضه، بل جرائم القتل والتعذيب وبيوت الأشباح ونهب المال العام والثراء الحرام وتفكيك جهاز الدولة السودانية خلال الثلاثين عاماً التي فرضوا فيها أنفسهم كحكامٍ للسودان بقوة السلاح وعنف فلسفتهم السياسية.
عليه فسوف نتناول في هذا المقال محاكمة مُدبِّري انقلاب 17 نوفمبر عام 1958، ونتعرّض لأقوال المتهمين كما وردت في تقرير لجنة التحقيق التي ترأسها القاضي صلاح شبيكة، والأوامر التي صدرت من تلك اللجنة. وسوف نناقش الأسباب والطرق التي أدّتْ إلى وقف المحاكمات قبل أن تبدأ، وإلى قفل الطريق أمام أيّة محاولاتٍ لفتح هذا الملف. وسوف نتعرّض للتداعيات السياسية والقانونية لذلك.

2
كان أحد المطالب الرئيسية لثوار أكتوبر محاكمة مُدبّري انقلاب 17 نوفمبر على جريمة تقويض النظام الدستوري والجرائم الأخرى المرتبطة بها، وعلى القتل والسجن لمعارضي النظام، وعلى الفساد الذي تمدّد في جسد الدولة ومرافقها المختلفة. وقد تلكأت حكومة أكتوبر التي تشكّلت بعد عشرة أيام من قيام الثورة (31 أكتوبر عام 1964) طويلاً في الاستجابة لذلك الطلب. وكان سبب ذلك التلكوء موقف حزبي الأمة والوطني الاتحادي اللذين لم يكونا متحمسين لمحاكمة مدبري انقلاب 17 نوفمبر، كما سنوضح لاحقاً.
غير أن الضغوط تواصلتْ، وقرّر مجلس الوزراء في 31 يناير عام 1965، بعد ثلاثة أشهرٍ كاملة من تشكيل الحكومة، مباشرة الدعوى ضد قادة انقلاب 17 نوفمبر، وكلف النائب العام بتلك المهمة. بناءً على ذلك فقد قام السيد رئيس القضاء في 14 فبراير عام 1965 بتشكيل لجنة بغرض "التحقيق في الأسباب التي أدت إلى انقلاب 17 نوفمبر 1958" برئاسة القاضي صلاح شبيكه، وعضوية القاضيين عبد الله أبو عاقلة أبو سن، ومحمد الشيخ عمر، ومعاونة السيد عبد الرحيم موسى المستشار بديوان النائب العام.

3
حقّقتْ اللجنة مع العسكريين الذين قاموا بانقلاب 17 نوفمبر واستمعتْ لشهادة كلٍ منهم. واستمعتْ أيضاً لشهادة عددٍ من المدنيين هم السادة عبد الله خليل، وعلي عبد الرحمن، ومحمد صالح الشنقيطي، وزين العابدين صالح، وأحمد خير، والدرديري محمد أحمد نقد. وأصدرت اللجنة تقريرها بعنوان (وزارة العدل، التحقيق في الأسباب التي أدّت إلى انقلاب 17 نوفمبر - وزارة العدل، الخرطوم 1965).
كان الاتهام الموجّه للسيد عبد الله خليل أنه هو من أمر الفريق إبراهيم عبود بالقيام بالانقلاب العسكري ضد الحكومة المدنية بعد أن تيقّن أن البرلمان سوف يقوم بالتصويت لإسقاط حكومة السيد عبد الله خليل وتكليف منافسه السيد إسماعيل الأزهري بتشكيل الحكومة البديلة. وكان السيد عبد الله خليل وقتها رئيس الوزراء ووزير الدفاع أيضاً.
كما طال الاتهام السيد زين العابدين صالح بأنه كان حلقة الوصل بين السيد عبد الله خليل والفريق إبراهيم عبود، وأنه قام بضغوطٍ كثيرة على الفريق عبود لتنفيذ أوامر السيد عبد الله خليل. وقد كان السيد زين العابدين صالح أحد قيادات جزب الأمة وعضواً بالبرلمان.

4
أنكر السيد عبد الله خليل أي دورٍ له في الانقلاب العسكري. ذكر السيد عبد الله خليل للجنة التحقيق: "جاءت إشاعة أن الجيش سيعمل انقلاب وقد سمعت ذلك من السوق ساكت مش بطريق رسمي. لم أحقّق في هذه الاشاعة رغم أني وزير الدفاع لانها ما جاءت عن طريق رسمي وانا ما شفت أن الجيش عنده ظلامة أو شكوى من أي شيء ولهذا ما شفت سبب يحمل الجيش على التفكير في الانقلاب." وواصل السيد عبد الله خليل "وحتى يومنا هذا لا أعرف لماذا قام الجيش بالانقلاب لأنهم كانوا مبسوطين وأنا جبت ليهم أسلحه قال لي وزير الحربيه البريطانيه انه ما أداها للكومونويلث."
ثم أضاف السيد عبد الله خليل "لم يحدث أنني اتصلت بالعساكر أو اتصلوا بي في شأن الانقلاب." لكنه استدرك "سمعت باجتماع الضباط ليلة 17 نوفمبر. لم اتخذ أي إجراء. لم أنقل هذه المعلومات إلى مجلس السيادة أو مجلس الوزراء، سكت مكرهاً."
ثم أشار بوضوح إلى دور السيدين قائلاً: "السيدان عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني أرسلوا خطابات تأييد ومباركة بعد أيام من الانقلاب، وهذا هو ما اشرت اليه سابقا من تأييد السادة للانقلاب." وخلص السيد عبد الله خليل إلى الأتي: "رأيي في الانقلاب أنه تعدي من الجيش على البلد وأنا ما راضي عليه."

5
رغم نكران السيد عبد الله خليل لأي دورٍ له في الانقلاب، بل وعم رضائه بالانقلاب، إلا أن البينات ضدّه كانت قويةً ومتماسكة، وشملت شهادة الفريق إبراهيم عبود نفسه، وشهادة زميله في حزب الأمة السيد زين العابدين صالح.
فقد ذكر الفريق عبود للجنة التحقيق: "قبل انعقاد البرلمان بنحو عشرة أيام جاءني عبد الله خليل وقال لي الحالة السياسية سيئة جدا ومتطورة ويمكن تترتب عليها أخطار جسيمة ولا منقذ لهذا الوضع غير أن الجيش يستولى عى زمام الأمر. فقلت هذا إلى ضباط الرئاسة أحمد عبد الوهاب وحسن بشر وآخرين. مرة ثانية جاءني عبد الله خليل فأخبرته بأن الضباط يدرسون الموقف، فقال لي ضروري من إنقاذ البلاد من هذا الوضع، ثم أرسل لي زين العابدين صالح ليكرر لي نفس الكلام، والضباط وقتها كانوا يدرسون تنفيذ الخطة. قبل التنفيذ بنحو ثلاثة أيام جاءني عبد الله خليل في الرئاسة ليطمئن عى الموقف فقلت له كل حاجة تقريبا انتهت وحتتم قبل انعقاد البرلمان فقال لي "ربنا يوفقك."
سألته عما إذا كان هذا العمل مقبولا فقال لي ان كل العقلاء والسيدين (عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني) مؤيدين هذه الحركة ... لم أطلب من عبد الله خليل أي مستند أو أمر كتابي لتنفيذ الانقلاب لأن ذلك ليس مقبولا وليس متبعا في نظام الجيش. وقد كان أمر عبد الله خليل لي أمراً من وزير الدفاع وقبلته بهذه الصفة."
وواصل الفريق عبود "عبد الله خليل كان يجري ورانا عشان تنفيذ الانقلاب ويرسل لي زين العابدين، وهذا يعني أن الانقلاب تم بضغط وبأمر من عبد الله خليل ... عبد الله خليل هو صاحب فكرة الانقلاب أساساً وهذا أمر معروف للجميع ... لو عبد الله خليل قال بلاش الحكاية كنا في ثانية ألغينا كل شيء."

6
كما شملت البينات شهادة السيد علي عبد الرحمن الذي كان وزير الداخلية في حكومة السيد عبد الله خليل التي أطاح بها الانقلاب. وكان السيد علي عبد الرحمن أيضاً رئيساً لحزب الشعب الديمقراطي (قبل أن يندمج مع الحزب الوطني الاتحادي ويكوّنا معاً الحزب الاتحادي الديمقراطي).
أوضح السيد علي عبد الرحمن أنه والوزير أمين السيد زارا السيد عبد الله خليل بعد عشر ساعات من الانقلاب، وبعد أقل من يوم من عودتهما من القاهرة، ووجداه مبتهجاً وفي حالة سرور.
ذكر السيد علي عبد الرحمن أن السيد عبد الله خليل قال له وللوزير أمين السيد "انتو ما تنزعجوا وما في حاجة حتتغير أبداً، سياستنا ماشة كما هي، وانتوا باكر حتسمعوا في الراديو تشكيل الحكومة الجديدة، ورايح يشكل مجلس سيادة ووزارة، أنا وأزهري حنكون في مجلس السيادة، والوزارة حيكونوا فيها حوالي ثمانية من حزب الأمة، ويمكن أربعة من الوطني الاتحادي، ويمكن واحد أو اثنين منكم، وانت ما تزعل عشان أنا وأزهري حنكون في مجلس السيادة لأننا داخلين كرؤساء حكومات سابقة مش رؤساء أحزاب، وسيشترك برضو في الوزارة عدد من اخواننا الضباط الكبار، وسياسة حزب الأمة حتستمر."
وواصل السيد علي عبد الرحمن أقواله للجنة التحقيق مضيفاً: "وفي هذا الأثناء دخل علينا نقد الله و(محمد أحمد) محجوب وأمين التوم وآخر لا أذكره وسلموا علينا وقعدوا. عبد الله خليل قال ليهم عن طبيعة مهمتنا في مصر: "وإن شاء الله باكر يا محجوب بعد ما تتشكل الوزارة انت وإبراهيم أحمد وتاخدوا معاكم اثنين ثلاثة من الضباط تمشوا مصر عشان تكملوا الاتفاق." وكان السيد علي عبد الرحمن قد عاد، يوم الانقلاب، هو والسيد أمين السيد من زيارةٍ للقاهرة كان الغرض منها التمهيد لمواصلة مفاوضات مياه النيل.

7
شملت البينات ضد السيد عبد الله خليل أيضاً شهادة السيد زين العابدين صالح الذي أنكر أي دورٍ له في الانقلاب. غير أنه أخبر اللجنة "أذكر قبل الانقلاب بنحو ثمانية شهور أن جاء عبود وحسن بشر وأحمد عبد الوهاب إلى منزل السيد الصديق واجتمعوا في الدور العلوي، وكنت أنا أجلس في الدور الأول ولم أحضر الاجتاع ولا أعرف ما دار فيه. وكان عبد الله خليل هنالك.
ثم أضاف السيد زين العابدين صالح: "قبل الانقلاب بيوم كنت زرت عبد الله خليل وقال لي ان الجيش حيعمل انقلاب فسألته مش ممكن يوقفه فقال لي: (تُوو ليتtoo late بكرة حيحصل الانقلاب، والبلد كلها كانت عارفة الانقلاب) فقلت له "الخير فيما اختاره الله."

8
حقّقت اللجنة أيضاً مع السيد أحمد خير الذي تم تعيينه وزيراً للخارجية بعد نجاح انقلاب 17 نوفمبر. وقد ذكر السيد أحمد خير للجنة: "اعتقد أنني كلفت لأكون مستشارا للانقلاب لأنني عُرِفت بالاستقلال في ذلك الوقت وكنت في لجنة الدستور المكونة من المستقلين. الامر الدستوري رقم واحد كتبته أنا، وأمر تعطيل البرلمان أيضا كتبته أنا باستشارة اثنن من اخواني."

9
قرّرت اللجنة بعد اكتمال تحقيقها توجيه الاتهام ضد عددٍ من المدنيين والعسكريين هم السادة: عبد الله خليل، إبراهيم عبود، أحمد عبد الوهاب، زين العابدين صالح، محمد أحمد التيجاني، عوض عبد الرحمن صغير، محمد أحمد عروة، حسن بشير نصر، محمد نصر عثمان، الخواض محمد أحمد، وحسين علي كرار. وأمرت اللجنة بالقبض على هؤلاء الأفراد وحفظهم بالحراسة إلى حين صدور قرارٍ آخر.
وأصدرت اللجنة أيضاً قراراً بإخلاء سبيل المتهمين محمد طلعت فريد، أحمد رضا فريد، أحمد مجذوب البحاري، والمقبول الأمين الحاج وشطب البلاغ ضدهم. انبنى القرار على أن هؤلاء الأشخاص لم يشتركوا في تنفيذ الانقلاب، وأن تعيينهم في المجلس العسكري تمَّ بحكم رتبهم العسكرية.
من الواضح أن مرجعية اللجنة كانت محدودة وانحصرت في "التحقيق في الاسباب التي أدت إلى انقلاب 17 نوفمبر 1958." عليه لم يكن في استطاعة لجنة القاضي شبيكة فتح أية بلاغات أخرى ضد هؤلاء العسكريين.

10
في تلك الأثناء جرت الانتخابات في شمال السودان في موعدها المتفق عليه في شهر أبريل عام 1965. حصل حزب الأمة على 92 مقعداً وحصل الحزب الوطني الاتحادي على 73 مقعداً من مجموع المقاعد المخصّصة للشمال والبالغة 233 مقعداً.
لم يكن هناك ممثلون لجنوب السودان (بسبب عدم إجراء الانتخابات في الجنوب لتدهور الحالة الأمنية هناك) عدا عشرة أعضاء، جلّهم شماليون، فازوا بالتزكية في بعض الدوائر الجنوبية ممثلين لحزبي الأمة والوطني الاتحادي.
تشكلت حكومة ائتلافية بين حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي برئاسة السيد محمد أحمد محجوب في نهاية شهر أبريل عام 1965. وتم تعديل الدستور في يونيو عام 1965 بغرض إلغاء الرئاسة الشهرية لمجلس السيادة، واستبدالها بالرئاسة الدائمة. وأصبح السيد إسماعيل الأزهري الرئيس الدائم لمجلس السيادة اعتباراً من شهر يوليو عام 1965.
لمزيدٍ من التفاصيل حول مسألة تعديل الدستور هذه يمكن مراجعة مقالنا بعنوان "تجربة مجلس السيادة في السودان ورئاسته التناوبية والدائمة: دروسٌ لثورة ديسمبر 2018" على الموقع:
https://www.alrakoba.net/news-action-show-id-320891.htm

11
نتج عن تقرير القاضي صلاح شبيكة حرجٌ وخطرٌ كبيرين لحزبي حكومة الائتلاف – الأمة والوطني الاتحادي. فالتقرير كان مسئولية، ونتيجة جهد، ثلاثة من كبار قضاة السودان، في وقت كان كل السودان يعرف استقلالية القضاء ونزاهته وشجاعة من شغلوا المناصب القضائية.
كانت صورة وصوت القاضي عبد المجيد إمام وهو يصدر الأوامر الصارمة والواضحة لأحد كبار رجالات الشرطة في الخرطوم بعدم التعرّض للمتظاهرين في ثورة 21 أكتوبر، وبمغادرة مكان التظاهر (لأن المتظاهرين يمارسون حقاً كفله لهم القانون، وبسلميّة تامة)، مكان إعجاب وإعزاز الشعب السوداني. وبصدور ذلك التقرير تأكّد للشعب السوداني ولحكومة الائتلاف أن انقلابيي 17 نوفمبر قد فشلوا فشلاً ذريعاً في إنهاء أو التقليل من استقلال ونزاهة وهيبة القضاء السوداني.

12
كانت خطورة التقرير لحزب الأمة تكمن في تضمينه بوضوح للدور الأساسي والكبير للسيد عبد الله خليل، سكرتير عام الحزب ورئيس الوزراء ووزير الدفاع، في الانقلاب. كما أن شهادة الفريق عبود أشارت إلى تأكيد السيد عبد الله خليل لمباركة السيدين – السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني – للانقلاب. وقد أعاد السيدان تأكيد ذلك الموقف بتأييد الانقلاب بعد وقوعه.
كانت محاكمة السيد عبد الله خليل سوف تعني محاكمة كاملة لحزب الأمة وراعيه السيد عبد الرحمن المهدي بتهمٍ خطيرة تتعلق بانقلاب 17 نوفمبر وتقويض النظام الدستوري. وسوف تفتح المحاكمةُ البابَ واسعاً لمعرفة ومحاكمة قيادات حزب الأمة الأخرى التي كان لها دور في الانقلاب.

13
وكانت خطورة التقرير للحزب الوطني الاتحادي كبيرة أيضاً. فقد ورد علم ومباركة السيد علي الميرغني في شهادة الفريق عبود التي أشارت إلى تأكيد السيد عبد الله خليل لمباركة السيدين – السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني – للانقلاب. وكان واضحاً أنه سوف يرد في المحكمة ذكر أسماء قيادات الحزب التي نقلتْ خبر التحضير للانقلاب للسيد علي الميرغني وأقنعته وشاركت في القرار المتعلق بتأييد الانقلاب.
وكان واضحاً أيضاً أن دائرة الخطورة والحرج سوف تتسع للحزب الوطني الاتحادي لأن المحاكمة سوف تثير "مذكرة كرام المواطنين." وكان السيد علي عبد الرحمن قد قاد إعداد تلك المذكرة التي أيدت وباركت انقلاب 17 نوفمبر وطالبت الشعب السوداني بالتعاون مع "الثورة المباركة." وقد وقّع على مذكرة كرام المواطنين عددٌ من قيادات حزبي الشعب الديمقراطي والوطني الاتحادي، وكذلك عدد من المستقلين، وتم رفعها إلى المجلس العسكري الذي قام بانقلاب 17 نوفمبر.
عليه فقد وجد الحزبان – الأمة والوطني الاتحادي – أنهما قد وقعا في مأزقٍ قانونيٍ وسياسيٍ كبير، واتفقا أن عليهما مواجهة ذلك الموقف بكل الوسائل، وعلى وجه السرعة.

14
تفتّقت عقلية قادة الحزبين على وسيلة لقتل تقرير لجنة القاضي صلاح شبيكة في مهده وإجهاض قرارات اللجنة. قرر الحزبان أن التقرير تم إعداده بناءً على طلبٍ من مجلس الوزراء، وعليه فمن حق مجلس الوزراء مناقشة التقرير واتخاذ ما يراه مناسباً تجاه ذلك التقرير، وهذا ما حدث.
ناقش مجلس الوزراء التقرير وقرر أن يحيله للجمعية التأسيسية لاتخاذ ما تراه الجمعية مناسباً. وأعلن مجلس الوزراء ذلك القرار على الملأ حتي يخلي ساحته من المساءلة القانونية والسياسية. بالطبع كان قد تمَّ طبخ ما سوف تفعله الجمعية التأسيسية بعنايةٍ قبل إرسال التقرير للجمعية.

15
كما ذكرنا أعلاه، فقد تشكّلت الجمعية التأسيسية وقتها من 233 مقعداً، كان لحزب الأمة 92 مقعداً وللحزب الوطني الاتحادي 73 مقعداً، عليه فقد كان للحزبين معاً 165 مقعدا من مجموع 233 مقعد مخصّصة لشمال السودان.
ناقشت الجمعية التأسيسية التقرير على عجلٍ، وصوّتت في 7 يوليو عام 1965 ىالأغلبية ضد قرار المحاكمة التي أصدر الأوامر بها تقرير القاضي صلاح شبيكة. وقد صوّت ضد قرار المحاكمة 88 نائباً، جلّهم من حزب الأمة ومعهم بعض نواب الحزب الوطني الاتحادي. ولكن تغيّب عن الجلسة عددٌ من نواب الحزب الوطني الاتحادي.
وقد وقفت الكتلة البرلمانية لحزب الأمة مع قرار عدم المحاكمة حتى تغلق الباب أمام المزيد من الاتهامات والحرج لرئيس الوزراء وسكرتير عام حزب الأمة السابق، وللحزب نفسه، بل ولراعي الحزب السيد عبد الرحمن المهدي.
وقد تغيّب عددٌ كبير من نواب الحزب الوطني الاتحادي من الجلسة بغرض حماية أنفسهم من التصويت مع أو ضد أوامر تقرير القاضي صلاح شبيكة. كان في بالهم الخوف من أن يشمل الاستجواب السيد علي الميرغني، وأن تفتح المحاكمات باب "مذكرة كرام المواطنين" المؤيّدة لنظام الفريق عبود التي قادها السيد علي عبد الرحمن. من الجانب الآخر كان هناك الخوف من جماهير الشعب السوداني التي ظلت تطالب بمحاكمة الضالعين في الانقلاب. عليه فقد كان التغيّب من الجلسة، في راي نواب الحزب الوطني الاتحادي، الوسيلة الوحيدة لتجنّب الحرج الذي سينتج من حضور الجلسة والتصويت مع أو ضد تقرير القاضي صلاح شبيكة.

16
كان السبب الذي كرره نواب الحزبين الذين صوتوا ضد تقرير القاضي صلاح شبيكة هو: "عفا الله عما سلف!"
وهكذا أغلقت الجمعية التأسيسية – السلطة التشريعية للسودان – الباب أمام محاكمة من قاموا بانقلاب 17 نوفمبر، وانطوت بذلك صفحةٌ سياسية وقانونية هامة في تاريخ السودان. وقد قام حزبا الأمة والوطني الاتحادي – من خلال هذا القرار - بوأد مطلبٍ أساسيٍ لثوار أكتوبر، وإجهاض المحاسبة القانونية لمن قاموا بتقويض النظام الدستوري وشن الحرب على الشعب السوداني.

17
فتح قرارُ الجمعية التأسيسية بمنع المحاكمات البابَ واسعاً لحماية كل من يقوم بانقلابٍ عسكري وتقويض الدستور مستقبلاً. فقد تلكأت محاكمات قادة انقلاب 25 مايو وسارت بصورةٍ تنقصها الجدية والحماس، خصوصاً في عهد حكومة السيد الصادق المهدي (1986 – 1989). وقد استمرت تلك المحاكمات لسنواتٍ وكانت مصدر سخرية الشعب السوداني وتهكمه.
وقد كانت أسباب ذلك التلكوء وغياب الجدية هو أن الكثيرين من قادة حزبي حكومة الائتلاف – الأمة والوطني الاتحادي - قد شاركوا نظام مايو في السلطة. ولا بد من التذكير أن رئيس وزراء الحكومة الائتلافية وقتها – السيد الصادق المهدي – نفسه كان قد صالح نظام مايو وأدّى القسم أمام الرئيس نميري كعضوٍ بالمكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي – حزب نميري الحاكم والذي أطلق عليه منظرو نظام نميري (تحالف قوى الشعب العاملة)!. وشارك عددٌ من قيادات حزب الأمة كوزراء في حكومة نميري إثر تلك المصالحة.

18
عليه فلم يكن في ذهن الإسلاميين خوف من الإجراءات القانونية وهم يقومون بانقلاب 30 يونيو عام 1989، وتقويض النظام الدستوري وبدء برنامج متكامل لقتل وتعذيب وتشريد معارضيهم.
وقد كان من أوائل قرارات نظام الإسلاميين بعد نجاح انقلابهم هو إطلاق سراح قادة نظام مايو الذين كانوا في السجن. وعاد النميري نفسه من منفاه في القاهرة للسودان ليستقبله قادة الإنقاذ استقبال الأبطال ويعيش في أمان، وتحت عون الإنقاذ المادي والمعنوي والأمني له. وقد صار أحد قادة انقلاب مايو واحداً من أعمدة نظام الإسلاميين وعضواً في جهازه التشريعي، وتمت ترقيته لرتبة فريق.

19
من الواضح أن هناك الكثير من الدروس والعبر التي يجب أن نعيها من تجربة محاكمة من قاموا بانقلاب 17 نوفمبر عام 1958، ونحن نستعد لمحاكمة الإسلاميين الذين قاموا بانقلاب 30 يونيو عام 1989. أهم هذه الدروس هي إبعاد السلطتين التنفيذية والتشريعية من مسألة المحاكمات هذه، والقيام بها من خلال السلطة القضائية.
غير أن السؤال الذي سوف يثيره هذا المقترح هو: هل السلطة القضائية الحالية في السودان، بعد ثلاثين عاماً من تمكين الإسلاميين، مؤهلةٌ للقيام بهذه المحاكمات؟
Salmanmasalman@gmail.com

 

آراء