لنجهض لعبة الأضداد الخطرة

 


 

عمر العمر
24 December, 2022

 

كأنما لا تدرك قياداتنا السياسية وجود قوىً خارجية ليس من مصلحتها خروج السودان من مأزقه الراهن. فثم مؤشرات على تناغم بين قيادات داخلية وتوجهات خارجية تغمس أصابعها في الأزمة . لكن الذهاب لجهة إدانة تلك القيادات بالعمالة لا ينم عن رؤية نافذة. كما ليس من الموضوعية اتهامها بالغفلة عن لعب الأطراف الخارجية . فمحنة الساسة السودانيين ظلت تكمن في انفصام للذات تتبدى أعراضه دوماً في التناقض الحاد بين الخطاب -لا أقول عمدا مع سبق الإصرار الفكر - و بين الممارسة. كأنما لهذا الفصام جينة متوارثة إذ لا يكاد ينجو منه جيل من القيادات السياسية المتعاقبة. فأكثر ما يشخص في كتاب السياسة السودانية هو هذا التناقض بين الشعارات المرددة والخطوات العملية المترددة .
*****

على الرغم من الفتوق المتعددة في (الاتفاق الإطاري) حاول البعض - أنا منهم- القفز فوق حواجز النقد المتشائم رهاناً على قدرة الموقعين من القيادات السياسية في تقديم نموذج جديد خالٍ من جينة ذلك الفصام. لكن التجربة أثبتت كم هو رهانٌ خاسر. لكن هذا الإحباط لا يمنح المعارضين للتوقيع على الإتفاق شهادة برآة من الفصام السياسي. على النقيض فهم حتى عندما يصنفون الوثيقة بأنها من انتاج مراكز خارجية ينزلقون لجهة خدمة مراكز خارجية كذلك ليس في صالحها إنهاء الأزمة .الكتلتان يتعاميان عن حقيقة سودانية راسخة يتجلى فيها ذلك الفصام.فالثابت في الأصل تاريخيا اخفاق الساسة السودانيين في تكريس المواثيق بغية الالتزام بالإنجاز .لكن الجديد هو فتح الثغرات امام اللاعبين الخارجيين
*****

الخطوة الثورية المفترضة عقب التوقيع هي انقضاض الموقعين على السلطة. فاسترداد الثورة للسلطة هو الإنجاز العملي الوحيد الكفيل بتحقيق اختراق النفق الممتد طوال الزمن المهدر من سنوات المرحلة الانتقالية. هذه الخطوة يفترض اتخاذها غداة اعلان الاتفاق المستحدث. فلم يعد ثمة ما يستدعي المراوحة بين الأطراف السياسية والعسكر على طاولات الحوار. تلك هي الخطوة العملية الوحيدة الكفيلة بمنح الاتفاق صبغة الانتماء لمشروع الثورة. فاسترداد السلطة هي الخطوة الكفيلة بشرعنت الاتفاق عملا ثوريا . هو كذلك يشكل سياجاً امام محاولات التسلل الخارجية. لكنما الفصام المزمن المتمكن من القيادات السياسية حال دون تحقيق هذه القفزة النوعية. كل الأطراف أدارت أعناقها تتطلع إلى الخارج فبهت الإتفاق حتى كاد يكون وهما.
*****

نعم ثمة قضايا ملحة اغفلها الاتفاق . هناك عناوين فضفاضة لمسائل ساخنة محددة . لكن الأكثر جدوى استهلال حسم تلك القضايا وحل تلك المسائل تحت سلطة إنجاز التحول الديمقراطي ؛ هي سلطة تحمل قسمات وملامح الثورة الديمقراطية ، ذلك لن يتم انجازه عبر التحاور مع انقلابيين قابضين على كل السلطة. مما يعزز الفصام ذلك الكلام عن عدم بدء الحوار بعد في شأن معايير اختيار رئيس الوزراء! فتسمية رأس السلطة التنفيذية يمثل شهقة الحياة لجنين دولة التحول الديمقراطي. كما تنصيبه يبني مصدًا في وجه الدخلاء الخارجيين. على قدر النجاح في اختيار الشخص المناسب لهذا المنصب تتسع رقعة أنصار الاتفاق وسط جماهير الثورة. بينما تأجيل المهمة لا يشكل فقط احد أبرز أعراض ذلك الفصام المزمن بل يزيد التشققات داخل كتلة الثوار يربك خطوات التحول الديمقراطي و يعرقل مسيرة الثورة.
*****

أي اتفاق مع العسكر لن يوحّد قوى الثورة. فمثل هذا الحديث هو الآخر ضرب من أعراض الفصام السياسي. تلك غاية ينجزها التقدم على طريق تحقيق أهداف الثورة. من طبيعة الاشياء وجود فريق معارض لكل سلطة . هو وجود لصالح الثورة نفسها. فليس من طبيعة الاشياء حدوث إجماع على كل سياسات السلطة. فقط هناك فارق حاد بين المعارضين من داخل معسكر الثورة وبينهم وبين أعداء الثورة. هذا تمايز جلي لجموع معسكر الثورة أو هكذا ينبغي. فوجود معارضة داخل معسكر الثورة ترياق يقي سلطتها من أمراض السلطة . كبح التيار يتم عبر التزام السلطة بروح ثالوث الثورة. إعادة لحمة كتلة الثوار تصبح ممكنة كلما أرخت السلطة سمعها لنبض الشارع. فالشارع الموحد يظل جيش الانتصار على الانقلابيين وكل أعداء الثورة.
*****

الثورة تستهدف تصفية جميع مطبات الانقاذ. من أولويات التحول الديمقراطي اعادة بناء منظومة القضاء ،اعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية . هذه مهام تتطلب بالضرورة وجود سلطة مشرّبة بدم الثورة وروحها. أي ميثاق مع السلطة الانقلابية لن يفضي إلى تخليق تلك السلطة طالما بقيت تحت القبعة العسكرية .تعجيل بناء سلطة الثورة فقط يضمن النهوض بهذه المهام . هذه الخطوة تبث روح التفاؤل وسط الجماهير الرازحة تحت أثقال أعباء المعيش اليومي. من المهم في الوقت نفسه قدرة الادارة الحكومية الجديدة على تحويل ذلك التفاؤل شيئا محسوسا في أيدي وأفواه تلك الجماهير. مثل هذا الإنجاز لن يتحقق مع بقاء دولاب الدولة العميقة ،القضاء الفاسد وأجهزة الامن الفاسقة.
*****

من ثم تسريع تنصيب سلطة الثورة يمهد الطريق لاستكمال أجهزة دولة التحول الديمقراطي . في مقدمة تلك الأجهزة المجلس النيابي التشريعي لما له من فعالية في شرعنة التحولات الجديدة وتقويم أداء السلطة التنفيذية. واجهزتها. نحن تأخرنا طويلا بينما المجتمع بأسره يتعرض إلى أشكال متباينة من الاعتداءات في انتظار خلاص لمّا يأت ولن يأتي أبداً طالما ظل هذا التجاذب الخمول بين العسكر والساسة تحت ظل مظلات أجنبية. من المؤسف بل ربما من العار استمرار هذا الحال البئيس لشعب يملك فكرة مركزية جوهرية ترقى درجة الأيديولوجيا بل ربما تؤطر الهوية وهي ثالوث (حرية،عدالة وسلام).نجاح عبور المرحلة الانتقالية رهين بتشكيل فريق حكومي يتمتع بكفاءات والتزام وطني خالص ،ليس همه البقاء في السلطة أو الاستمتاع بامتيازاتها .حبذا لو نجح كذلك في وصوغ أجندة المستقبل .
*****

القيادات السياسية تعمل بروح مضادة تماما لإيقاع العصر ، خارج زمن الثورة وحماسة الشارع المقاوم. أسوأ من ذلك تبدو كأنها غير مستوعبة للخارطة الجيوسياسية من حولنا. فلعبة الأمم تجاوزت مرحلة تحريك عناصر التناقضات الاثنية والطائفية بغية زعزعة استقرار الشعوب. في سياق تلك اللعبة خسرنا الجنوب . لكن حينما تستعصي هذه اللعبة داخل الدول المستهدفة يتم اللجوء الى تخليق متضادات تمارس لعبة الأضداد . هكذا تبرز في غير دولة اكثر من حكومة وغير جيش واحد. صراع الأضداد سلاح خطير يشعل بؤر توتر ساخنة في اكثر من قطر ويعرقل مشاريع، حرية و ويربك تقدم مسيرة اكثر من شعب حولنا .
*****

الشعب الفلسطينى يشكل المختبر الصارخ لهذه اللعبة .بل لعله المختبر الاول للتثبت من نجاح التجربة ، حكومتان في وطن لم يستكمل تحريره .زرع دويلة المتطرفين السلفيين على تراب سوريا والعراق تجربة من طراز مغاير . في ليبيا تجربة طازجة ماثلة لحكومتين تتناطحان على حطام دولة. ماذا نسمي شرعنة ميليشيا في موازاة جيش وطني في السودان؟ لماذا تستحدث في كل مرة كتلة موازية لكتلة قوى الثورة؟ لماذا غض الطرف عن الأصوات المنادية بفصل الشرق؟ لماذا الذهاب الغامض لجهة إنشاء ميناء مغاير على الساحل نفسه ؟بل لماذا تمطيط بقاء الدولة المركزية المهلهلة دون رأس أو رقيب؟ لهذا تصبح تسمية رأس سلطة الثورة خطو حتمية ملحة تتبعها خطوات عاجلة على درب اجهاض مخططات لعبة الأضداد القذرة .

 

aloomar@gmail.com

 

آراء