لنفكر بعقل … بقلم: بروفيسور عصام عبد الوهاب بوب
أعتذر لأنني لا أكتب كثيراً نظراً لمشاكل صعوبة المعيشة والانشغال بكسب لقمة العيش .
ولكني أكتب اليوم لأنني أري أن هناك متناقضات تستحق الكتابة ، خاصة انها تتعلق بمعيشة المواطن وأنا منهم ومثلهم أعاني من زيادة أسعار السلع الضرورية ومستلزمات الحياة اليومية .
خرجت تصريحات عديدة من السيد وزير المالية عن إصلاحات اقتصادية وعودة إلي الكسرة . وعندما أقرأ هذا أشعر بالجوع لأنه لا يوجد ما هو ألذ من كسرة رهيفة بملاح خضرة مفروكة
أو بصحن عصيدة دامرجة بملاح أم بجبج .
لكني أوكد لك الاثنين لأصبح تناولهما يوميا صعب وتكلفتهما عالية
الأخ الفاضل الأستاذ علي محمود ، تصريحاتك النارية عن العودة للعواسة والكسرة نزلت كصاعقة علي أبناء الشعب السوداني .
لم تكن الصاعقة ولا الدهشة بسبب منطقية الحديث .
ولكن كانت لأن الجميع توقعوا أنهم ، ابن الشعب البسيط والجماهير المسكينة هم الذين سيعانون من صدمة التقشف .
ستفرض عليهم الضرائب ، المعلنة والمختفية .
ستزيد أسعار تكلفة المعيشة حتي تستحيل الحياة .
سيزداد عدد المتسولين والمتسولات في شوارع حاضرات البلاد .
سيصعب علي الأسرة العادية أن تشتري أبسط حوائج المعيشة .
ستزيد تكلفة الخدمات المختلفة التي تقدم إلي المواطن .
لم نستبشر بما قلتم ، لأن القاعدة ظلت كما هي .
وقد دعمت ذلك باجتماعك مع محافظ بنك السودان في مؤتمر .
وأدليتم بالتصريحات السنية التي نصت علي ضرورة رفع الدعم عن البترول . وكما قلتم فإنكم تشترون برميل البترول ب75 دولار وتبيعونه ب 49 دولار .
كأن هذا البترول يتم شرائه من كوكب المريخ وليس من حقول نفط في السودان .
ليس كل البترول يأتي من جنوب السودان والانفصال لم يقع بعد
وما تنفذوه الآن من سياسات ضغط اقتصادي علي المواطن لن يخدم إلا مزيد من النزاعات الأهلية والانشقاقات والغضب الصاعق والتمرد .
بدأ الأمر بزيادة متحصلات الغرامات ورأيتم ما حدث .
وأذكركم بما درستم في علوم الاقتصاد في أن زيادة سعر سلعة حيوية مثل البترول سوف يكون له أثر ديناميكي يتسبب في تسارع زيادة أسعار السلع الأخري .
هذا يجب ألا يحدث الآن لأن السودان يمر بفترة حرجة ومحنة قاسية .
وأذكرك بأن ما يمر به السودان حاليا ليس مجرد حرمانه من مصادر دخل وهي بترول الجنوب
وإنما لأن الأزمات تجمعت في معاناته منذ بداية الأزمة الاقتصادية العالمية
يحدث الكساد بأسباب معقدة وعديدة . وكما ذكر جون مينارد كينز فإن التدهور الاقتصادي يتسبب في سيادة روح البقاء التي يغذيها فقدان الثقة وعدم التأكد من المستقبل والتشاؤم . وهي تمنع متخذي القرار من التفكير المنطقي
وهو في حالتنا اليوم يستدعي إعادة تنشيط الثقة وجعل المواطن يعود إلي تفكيره الإنتاجي . وينتفي في حالة السودان الآثار المعروفة عن الكساد إذ أنه من المفترض أن أول أعراضه هو إنتاج وافر يتعذر علي المنتج بيعه .
هذا لم يحدث بصورة حقيقية بل حدث بإنتاج سلبي .
ومن أخطر آثار الكساد هو أن يفقد المواطن الرغبة في الشراء والإستهلاك
وهذا هو تأثير السياسات الضرائبية الحالية والتي سيضاف إليها السياسات التقشفية التي ستقفل نفس المواطن عن الاستهلاك تماما .
يزيد علي ذلك الأثر النفسي للتهديدات الصادرة وخاصة من محافظ بنك السودان والذي لا أدري بأي صفة يتحدث عن زيادة سعر البترول ووزير المالية جالساً إلي جانبه يستمع أو يردد ورائه ما يقوله .
يجب ألا ننسي أن الكساد يمكن أيضاً أن يتسبب عن زيادة استهلاك شرائح مجتمعية معينة بسبب تراكم كل ثروة الأمة بين أياديها وعدم قدرة شرائح أخري علي الاستهلاك بسبب تدهور أو انعدام مستويات دخلها .
لا شك أنه يمكن استخدام السياسات الاقتصادية في علاج هذه الظاهرة ولكن الفشل يعني مضاعفة الكساد وتحفيزاً لإطلاق مزيداً من التضخم الذي يصاحب الشح السلعي .
النتيجة النهائية هي الانهيار الاقتصادي الكامل .
وإتباع السياسات الانكماشية سينعكس فقط علي كساد يصاحبه تضخم في أسعار السلع والخدمات .
وهذا ما يعرف بالتضخم الراكد وهو أخطر ما يمكن أن يمر به اقتصاد أي أمة .
في أثناء قمة الأزمة العالمية ، كانت أسعار السلع في هبوط عالمياً ، أو علي الأقل في ثبات ولم تتغير مستويات المعيشة في دول العالم كثيرا لمن هم يعيشون علي رواتب أو دخل منتظم . وإنما كانت المعاناة هي في عدم قدرة الأنظمة علي خلق وظائف جديدة .
في السودان نعاني من ذلك وبصورة موسعة ولكن بالإضافة إلي ذلك ارتفعت أسعار الخدمات الحكومية لأشياء أساسية ولم تفعل الحكومة شيئاً لإصلاح هذا الأمر مما تسبب في ازدياد الحال سوءً .
بل زادت عليها فرض المزيد من الضرائب المباشرة وغير المباشرة مما تسبب في ارتفاع مستويات الأسعار . وتدنت القدرة علي الانتاج وامتلك اليأس قلوب المواطنين لأنهم حتي وإن أنتجوا فلن تتحسن عائداتهم . وإذا استمرت مثل هذه السياسات القاسية ستنهار دورة الإنتاج الاقتصادي بالكامل
وأكثر ما يغيظ ، هو تصريحك في ردك علي مداولات أعضاء المجلس الوطني حول الموازنة العامة أن تخفيض مخصصات الدستوريين يتطلب دستورا جديدا . وهذا لن يتم إعداده إلا بعد مرحلة استفتاء جنوب السودان .
عندك كم دستوري وهل هناك ما يتطلب وجود مثل هذه الجيوش منهم ؟
يا سيد علي ، لا تنسي أهلك في الرهيد وأم شوكة فهم يشترون الآن رطل السكر بجنيهين إثنين . وهم لا يشربون البيبسي والمرطبات الأخري والنيس كافي .
ولكنهم يستهلكون الشاي والسكر بصورة أساسية .
وزيادة أسعار البترول ومشتقاته سيكون ميزانية جديدة لا يحتملها إلا الدستوريين الذين تدافع عن مخصصاتهم .
هم مواطنين هذه البلاد وأنت منهم ولابد من تعيين سلع أساسية لا يمسها التضخم لنحافظ علي مستويات استهلاك معقولة .
وكبح الاستهلاك ليس معناه التقشف وإنما التجويع وهو العدو الأول للقدرة الإنتاجية لأي أمة .
صدقت في ضرورة إخضاع صناديق الضمان الاجتماعي للمراجعة وأن تنعكس استثمارات صندوق المعاشات وتؤثر تأثيرا واضحا في رواتب المعاشيين وكذلك صناديق الطلاب والتأمينات الاجتماعية
أما عن دعم الحكومة للأدوية المنقذة للحياة بمبلغ 8 ملايين جنيه في العام فهذا مبلغ بسيط جدا لا يساوي جناح بعوضة من المبالغ التي تدفعها لشراء سيارات ولزوم البهرجة . وانت تعرف كما أعرف أن التوسع في المظلة الضريبية يعني فرض المزيد من الضرائب وزيادتها
وخلينا من الحديث عن المتهربين من الضرائب والفئات التي لا يصلها موظفوا الضرائب . وهذا علي ذكر الحديث أصبح يقابل في مناطق معينة في كردفان بالرفض والعنف . لأن بعض أبناء الشعب السوداني أصبحوا لا يؤمنون بدفع ضريبة للحكومة .
هذا يتطلب توعية وإعادة الثقة إلي أبناء الشعب في أن ما يدفعونه من أموال يستخدم بصورة صحيحة وأنه سيعود عليهم بالفائدة .
رفع وقبول شعار التقشف ليس كلمات لتخدير أبناء الشعب ، وهو أداة اقتصادية قوية يجب أن تستخدم بحكمة .
وإذا لم يحدث هذا فإنها تنقلب بصورة عنيفة وقاسية .
ولابد من الجدية في التنفيذ وإذا لم يبدأ هذا مع الذين يتقاضون خمسة وستة وعشرة أضعاف ما يتناوله الجميع ، سينتفي الغرض .
Professor Dr. Issam A.W. Mohamed, +249122548254. Khartoum, Sudan
Professor Dr. Issam A.W Mohamed [issamawmohamed@hotmail.com]