كتب البروفيسور مكي شبيكة في سفره ( السودان عبر القرون ) : ص 21-22 : {امتازت "مروي" بصناعة الحديد ، حيث توجد الأحجار التي تحوي المادة الخام له ، حيث خشب الوقود لصهره متوفر، وربما كانت بداية هذه الصناعة منذ عهد " تهارقا " حيث تبين له أن قوة الأشوريين الكاسحة تعتمد في الدرجة الأولى على الأسلحة المصنوعة من الحديد ،وكانت آنذاك بمثابة سلاح جديد، يجعل من القوة التي تستخدمه لأول مرة ميزة حربية لا تُقاوم وآثار هذه الصناعة اكتشفت من الأواني والأسلحة والتي امتد أثرها على أجزاء أخرى من القارة الأفريقية ومن التلال التي لا تزال ظاهرة من خبث الحديد ( SLOG ) . وهذه الحقيقة عند اكتشافها جعلت البروفيسور " سايس " يطلق على مروي " برمنجهام السودان . تدهورت حضارة مروي القديمة تدريجياً لأسباب لم نتبينها ، حتى لقيت الضربة القاضية على يد " عيزانا " ملك أكسوم الحبشية حسب ما دونتها لوحاتهم.
(2) لم نجد في الوثائق التي بين أيدينا كثير شيء عن احتلال الأحباش لدولة مروي ، علماً بأن في ذلك الوقت قد دخلت مروي العصر الحديدي ، في حين كانت مصر في العصر البُرنزي . ولم نعثر على أثر واضح من أحداث تلك الحقبة ، ولكنها تُبين احتلال دولة مروي . وعرفنا من التاريخ أن سلالة مواطني دولة مروي، هي التي ثارت وحرق المك نمر " إسماعيل باشا " وقادة جيشه عند غزوهم السودان عام 1821 ، وأعمل " الدفتردار " حملته الانتقامية التي نعرف . وتم بناء عليه محو كل المعلومات عن " إسماعيل باشا" ابن " محمد علي باشا " الكبير من كل الكُتب المصرية ، لأن مصر قد ثبت إذلالها عن طريق السودانيين ، الذي تعتقد مصر أن ذلك شبه مُستحيل ، ويجب إن حدث انكاره حتى لو ثبت تاريخياً غير ذلك !. وهذا أمر لا تكرهه مصر القديمة والحديثة .
(3) الناظر لحال السودان اليوم ،كأننا نُحب ونستعذب من يذلّنا ، ونجري وراء تقدير من يسرقنا في وضح النهار ، بل نُشيد به. نُدرك أن هنالك إحساس غريب تجاه الأحباش ، لم يزل يسري في مفاصلنا ، ويلهس العامة منا وراء مقاهي الأحباش المنتشرة في دول العالم ابتغاء مُتع لحظية ، أليس لهذا الحُب المرضي من نهاية ؟! . كأننا لا نقرأ التاريخ ولا نستفيد من عبره ، ما لم يسترجع الجميع يوم سقوط الدولة في مروي، حين غزانا " عيزانا " ملك الأحباش بجيوش أكسم ، ونزوح الكهنة بسرَّين ، أحدهما بلا شك كان السرّ الأعظم ، مفتاح القيم الكُبرى ، ونعرف حضارة أهل السودان بوادي النيل ، من فرس وبوهين شمالاً ، وجنوباً حتى "سوبا" قرب المقرن للنيلين .وقد تفرقوا نتيجة ذلك الغزو غرباً عبر الصحراء الكُبرى حتى وصلوا الساحل بالسنغال ، وانتشروا في كل بلادٍ أفريقية . زادهم سرّ الخط المروي ، برموز أبجدية ، تحوي جملتها أمجاد الآباء ، كنزاً علمياً مدّخراً يستلهمه الأبناء ، كما حملوا في هجرتهم غرباً سر صهر الحديد ، الذي يستخرج من لبّ الصخر ، وفي زمنٍ قد خبروا كيف يصنّع ، إذ كانوا حَملة علمٍ متطور ، كانوا غيثاً تقنياً ، سباقين بذلك المجال. الآن نتبرع نحن بالود أمام الذين يسرقون أرض السودان في " الفشقة " ، ويخزنون ( 75) مليار متر مكعب من مياه النيل الأزرق ، خلف سد النهضة دون اتفاق ، بل نُسارع إلى مُساندتهم ، و نجد الترحيب بالغاصب كأنه " ولي حميم "!. هؤلاء الذين يفعلون ذلك ليسوا بسودانيين ، لأن السوداني لا يرضى المهانة والذّل والاستكانة . هذه الطغمة الحاكمة لا تمت للسودان ولا للسودانيين بصلة . إن طباعنا لا ترضى الضيم . بل نشهد منْ يقوم من لا ينتمون للسودان بإطلاق سراح كل الأحباش المُتجاوزين قانون الإقامة ، ويحبس السودانيين الحقيقيين في سجون التعذيب والقتل . أيعقل هذا ؟! قالت الأخبار إن الأحباش سيمدون السودان بالكهرباء . ونسمع أيضاً أن الأحباش يطلبون قيمتها بالدولار !، فتقول الأخبار أنهم طالبوا السودان بدفع (49) مليون دولار ثمناً لكهرباء الشرق التي يستوردها السودان!.
(4) لا نعرف حدوداً للمذلّة التي أوقعنا النظام في قاعها ، فمن قبل كلما أثار الوطنيون وعامة الناس قضية استحواز مصر لحلايب وشلاتين عام 1995 ، خرج علينا وزير خارجية النظام قائلاً ( إن حلايب وشلاتين ستكون أنموذجاً للتكامل بين مصر والسودان ) ، في حين يردد المسئولون المصريون ( إن حلايب وشلاتين أرض مصرية ، ولن نسمح بعرض الأمر على المحكمة الدولية ) !. عندما نسمع كل ذلك ، نتذكر حديث " كبيرهم الذي علمهم السحر " حين يفاخر ويتحدث أن جيش الرسول الكريم كان جيشاً شعبياً ، ولم يكن جيش تدفع له الدولة رواتب . عندما نسترجع كل ذلك ، ونعرف لماذا تمّ تشريد القوات النظامية عام 1989 وأحيل الجيش الوطني للإستيداع ، وبروز المليشيات بديلاً له ، أيقنّا أن النظام يريد لنا الذلّة والمسكنة . وأن تستقطع البلاد من دول الجوار : الحبشان وأريتريا وتشاد وإفريقيا الوسطى ، بل حتى الدولة الوليدة التي انقسمت عن السودان لا نعرف حدودها بترسيم واضح !