تداول السودانيون في اليوم الأول من شهر رمضان في وسائل التواصل الأجتماعي بكثير من مشاعر الحسرة والمرارة والألم التي تعتصرها قلوبهم مقطعا مصوراً لجاستن ترودر وزير الوزراء الكندي وهو يقوم بمساعدة بعض المتطوعين في تجهيز حقائب رمضانية تحتوي على مواد تموينية لتوزيعها على الأسر المسلمة الفقيرة و المتعففة في مختلف مقاطعات بلاده .
معظم إن لم يكن كل التعليقات التي أستطعت رصدها و متابعتها ممن أثار هذا المقطع المصور حفيظته ، ركزت على عقد مقارنة مابين صورة هذا السياسي الشاب الذي وصفوه (بالحاكم الكافر المتواضع ) و بين الأنقاذيين ، المسلمين (عقيدة ) و الأسلامين ( تحزبا سياسيا ) في السودان . الذي لمسه الكثيرون من هذا المقطع هو كيف أراد المسؤول الأول في الدولة وهو المسيحي الكافر أن يشعر الأسر المسلمة الفقيرة الكندية بأنه يشاركهم فرحتهم بالشهر الكريم و يشاركهم أيضا معاناتهم كفئة من محدودي الدخل في المجتمع ، في الوقت الذي ظل فيه الأنقاذيون ثمانية و عشرون عاما ينعمون فيها بمال و خيرات الدولة و يتقلبون يمنة و يسرة في مناصبها ، و شعبهم يعاني ويلات الفقر و الجوع و المرض ، و رغم ذلك كله لا يذكر لهم العقل الجمعي الشعبي مشهدا إنسانيا معبرا واحدا غير مشاهد الحرب والعمليات وهم مدججين بالمدرعات ، يحملون فيها بنادق الدم و قنابل الموت ، و مهددين بها كل متمرد على سلطانهم بالويل و الثبور و عظائم الأمور . وقف جاستن ترودر ( و الذي أظنه عندما جاءت الأنقاذ للحكم كان يلهو بين الأطفال في الرياض ) بين مجموعة من المتطوعين المسلمين في المقطع القصير المصور ليعبر لهم في البداية عن كامل فرحته و سعادته بأنهم منحوه هذه الفرصة ليكون بينهم في إعداد و تجهيز الحقائب الرمضانية . ثم قال لهم بعدها .....
أنه إذا كانت روح رمضان و حكمة مشروعية الصوم تدفع المسلم للرحمة و العطف على الفقراء و المساكين عندما يذوق الصائم ألم الجوع لبعض الوقت ، فإن هذه الروح الطيبة للصائم هي نفسها الروح التي بعثتها فينا القيم المجتمعية لكندا للوقوف معكم جنبا الى جنب في هذا المكان .
ثم يواصل ترودر كلامه لهم .... نحن أمة واحدة ، و يجب أن نكون دوما يدا واحدة ، محافظين على وحدة الصف الداخلي كمواطنين كنديين مع بعضنا البعض على أختلاف أدياننا و أثنياتنا لأن هذا هو مايميز مجتمعنا المتسامح . ففي أختلافنا العقائدي و تعايشنا السلمي صورة من التنوع الجذاب و المثمر الذي سوف يحقق لنا قطعا ما نطمح إليه من الأستقرار و الرفاه و السلم في هذا البلد .... ( أنتهى كلام المسؤول الكندي ).
قبل أن نخوض مع الخائضين ممن تداولوا هذا المقطع و نسير معهم قدما في عقد هذه المقارنة الظالمة و الغير متكافئة في الحكم الراشد ( good governance ) بين السودان و كندا ، دعونا سريعا نتعرف على البيئة السياسية التي خرج منها جاستن ترودر بطل هذا المشهد و الأفكار التي تشبع بها .
جاستن ترودر هو زعيم الحزب الليبرالي، توقع له يوما الرئيس الأميركي ريتشارد نكسون وهو لم يجاوز شهره الرابع عام 1972 بأنه سيكون رئيس الحكومة الكندية في المستقبل ، ولقد نجح بالفعل في السير على خطى والده بيار إليوت ترودو، وأصبح في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2015 رئيسا لوزراء كندا. والده بيار إليوت ترودو هو مربط الفرس و أساس فهم القصة بأكملها في نظري الشخصي ، فقد كان هذا الشخص استاذا للقانون بجامعة مونتريال ، و شغل منصب رئيس الوزراء لستة عشرة عاما وهي مدة طويلة قياسا بأي فترة قضاها أي زعيم سياسي كندي آخر في هذا المنصب .
خلال فترة توليه للوزارة عاش بيار إليوت من أجل أن يحقق أحلامه التي كانت تتلخص في كلمة واحدة وهي أن تكون كندا دولة ( مواطنة ) .
نعم دولة مواطنة ... دولة تؤسّس جذورها على قاعدة التعايش الأنساني بين مختلف الأعراق و الجنسيات التي ينتمي إليها الأنسان المهاجر ، و تؤمن الحقوق و الحريات و المساواة و العدالة لكافة مواطنيها دون تمييز أو عنصرية بسبب الجنس أو الدين أو اللون أو الأصول .
اضطر بيار إليوت إلي أن يعلن حالة الطوارئ في البلاد ويأمر قوات الجيش بالنزول إلي شوارع مونتريال في عام1970 في مواجهة المتطرفين المطالبين بالانفصال في اقليم كيبيك .
وكان بذلك الفعل أول زعيم دولة ديمقراطية في الغرب يتخذ مثل هذا الاجراء لمواجهة إرهاب الانفصاليين المتطرفين من أعضاء جبهة تحرير كيبيك . لم يكن كذلك الأمر فقط ، بل كان هو الزعيم الغربي الوحيد الذي تجرأ و زار الصين في عام1973 ، واقام علاقات دبلوماسية بين أوتاوا وبكين وكانت كندا أول دولة غربية تتخذ هذه لخطوة لاخراج الصين من عزلتها التي حاولت أن تفرضها عليها الولايات المتحدة .
قاد بيار إليوت العالم في الأمم المتحدة رغم معارضة وغضب مارجريت تاتشر وقتها ضد الحكم العنصري في جنوب إفريقيا ، ثم قاد حملة في الكومنولث لفرض حصار علي حكومة بريتوريا ، ثم كانت الحملة التي قادتها كندا للافراج عن الزعيم نيلسون مانديلا .
و كان صديقا للعرب ولإسرائيل ، وضع سياسة لكندا في عهده بالنسبة للصراع العربي- الإسرائيلي تعتمد علي التوازن بين طرفي الصراع ، حتى أنه لم يكن هناك أي وزير أو مسئول يجرؤ ( من المتعاطفين مع إسرائيل ) علي ابداء هذا التعاطف خلال حكمه, وقد ساندت كندا الحقوق العربية داخل مجلس الأمن مرات عديدة مما أثار غضب واشنطن.
وضع تقليدا التزمت به الخارجية الكندية لسنوات بعدم ارسال أي سفير يهودي يمثل كندا في إسرائيل لكن برايان مولرون كان أول من ألغي هذا التقليد فعين عام1990 نورمان سبيكتور رئيس مكتبه كأول سفير يهودي كندي لإسرائيل . كانت شخصية بيار إليوت قوية في مواجهة التطرف و العنصرية و أنتهاك حقوق الأنسان لذلك كان يردد منذ أن كان استاذا للقانون أن كندا يجب أن يكون لها دستور دائم يحمي حقوق و حريات الفرد في المجتمع .
هذا هو المربي الحكيم الوالد بيار ...... و رغم أنه لم يكن الملهم الوحيد لتعزيز نظرية حقوق الفرد ضمن المواطنة أياً كانت قوميته وديانته في التاريخ الكندي ، ولكنه ساهم بقوة في إرساء دعائمها عبر مواقفه السياسية العظيمة و رسائله الدستورية المؤثرة على الثقافة الوطنية . ثم أنه رعى و أخرج للحياة السياسية الكندية في الأخير جاستن ترودر الأبن الذي أحتفى به ، ثم تألم و تمزق كثير من السودانيين من مشهد مشاركته لرعيته بكل تواضع و أدب و فرح و تلقائية في تجهيز الحقائب الرمضانية . يعلم جيدا الصغير و الكبير ، و العالم و الجاهل ، و الأنسان و الحيوان أن الطقس الرديء الذي يركد فيه الهواء و ينتشر فيه الغبار و تتطاير فيه الأدخنة و الأكدار إذا ما طال أمده فأن الأسقام قطعا سوف تتخلل الأجسام فتعتل الحواس و تضطرب وظائف الأعضاء . فلربما كان السؤال الذي دار في أذهان كل من شاهد هذا المقطع المصور لوزير الوزراء الكندي ، ثم قارنه بحالنا ، قال في نفسه ....... كيف ؟ و متى تعي ؟ و متى تفهم ؟ قيادات حزب المؤتمر الوطني أن أربعة عشر رجلا ظلوا يتبادلون المواقع التنفيذية و المناصب لقرابة الثلاثة عقود من تشكيل وزاري لأخر ، محققين بعد كل ذلك في كل مرة أعلى درجات الفشل والخيبة و قلة الأنجاز ، لن يكونوا يوما ما سببا من أسباب خروج هذه البلاد من هذا النفق المظلم الذي سُجِنَت فيه ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ . لقد أصابت البلاد في الأسابيع الماضية و مازالت أزمة أقتصادية خانقة أسوأ من أي أزمة أقتصادية مرت على الشعب السوداني طيلة سنوات حكم الأنقاذ ، و رغم ذلك وجدنا أن الشوارع قد خلت من أي محتج أو متظاهر هذه المرة طالب بأسقاط هذه الحكومة أو حتى برحيل النظام ! هذا الأمر و إن بدى للمراقبين و بعض المعارضين أنه يدعو للحيرة و الأستغراب ، لكنه أدعى لكي يجعل قادة الحزب الحاكم في وقفة تفكر و تأمل و أمتحان رباني خصوصا في هذه الأيام المباركة ) يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( . تُرَى هل خلت الشوارع من أي محتج أو متظاهر هذه المرة وعلى غير العادة رغم قسوة الوضع و سوءه بسبب إعتقاد الشعب أن النظام قادر على إخراجهم مما هم فيه ؟ أم تراه آثر عدم الخروج بسبب أن الشعب أضحى بعد اليوم لا يفرق ولا يميز كثيرا ما بين بشاعة أنتظار الموت في السرير ، و بشاعة العيش في السودان تحت كنف سلطتهم و أداراتهم للشأن العام ؟ لقد ركلت الأنقاذ عبر سنين حكمها كل الفرص و السوانح التي كان يمكن لها أن تجمع أهل السودان في نظام سياسي وفاقي واحد يتحقق السلام تحت مظلته و يتم فيه التداول السلمي للسلطة وفق البرامج و الخطط التي تحقق التنمية و الرفاه و الأستقرار لهذا الشعب . و لذلك فإن تطاول أمد أي عوج و الأستمراء في السير فيه لا ننتظر منه بعد ذلك سوى ضمور فكري أبشع من ضمور الأبدان المسلولة ، و عجز روحي أنكى من عجز الحواس المشلولة ، و هذا تماما ما وصل إليه حال السودانيين في التفاعل مع أي أزمة سياسية كانت أو أقتصادية تحدث في البلاد ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) . أذكر جيدا كيف تحلق السودانيين بترقب و شغف شديدين حول التلفاز قبل سنوات لمشاهدة خطاب رئيس الجمهورية الذي ُسمَي لاحقا بخطاب الوثبة . الكل كان في أنتظار قرار تاريخي يزيح هذا الحمل الثقيل الذي أشقى كاهل الجميع، الوطن و المواطن على حد سواء لعقود طويلة ، و الكل كان يعتقد أن النظام قرر أن يسلك بالبلاد مسلكا تأريخيا يحسب له فيعلن عن حكومة طوارئ أنتقالية رشيقة تعالج كل أزمات البلاد المتراكمة و المتلاحقة . الكل كان يعتقد شيء ، ولكن الذي حصل بالأمس البعيد في خطاب الوثبة و حصل بالأمس القريب في آخر تشكيل وزاري شيء آخر أعاد به النظام الغمة و الأحباط و ربما زاده كثيرا في نفوس المواطنين الذين سكن الخدر أجسادهم من شدة اليأس حتى لتحسبه أعراض موت ، و غلبتهم الحيلة و الأمر و الحال . إن بلاء هذا البلد جاءها من داخلها قبل أن يجيئها من الخارج ، ولقد شوه النظام الحاكم صورة الأسلام حتى أنه ليحزنني جدا أن يتحسر شعب بأكمله من صورة وزير الوزراء الكندي الذي وصفوه بالكافر الرقيق القلب و الذي يحكم شعبه بتواضع جم دون أن يمتن عليه بشيء من ذلك ، و يتمنى هذا الشعب المكلوم كله و بعد مشاهدته هذا المقطع لو أنهم كان يحكمهم جاستن ترودر أو أن يهاجروا هم إليه ليستظلوا بنعيم حكمه إن إستطاعوا لذلك سبيلا .
اللهم وفق ولاة أمورنا الي ما تحب وترضي يا أرحم الراحمين . اللهم ابعث فينا من يوحد كلمتنا ويجمعنا صفنا و ينهي هذا البؤس الذي يعانية شعبنا .