ليس دفاعا عن الحميراء … بقلم: رباح الصادق

 


 

رباح الصادق
12 November, 2009

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]

دعونا نتشبه ببروفسرة بلقيس بدري، والتشبه بالنساء فلاح! فقد بدأت حديثها حول رشا عوض بذكر أول مرة لاقتها فيها. أول مرة لاقيت فيها "الحميراء" كان في اجتماع نظمته هيئة شئون الأنصار بدعوة مجموعة من الفقهاء والفقيهات بدار الهيئة لبحث كتاب كتبه السيد الصادق المهدي صاحب العهد مع انصار الله حينها وكان ذلك فيما أذكر في ديسمبر 2000 أو نحوه، كان أصل الكتاب ورقة موسعة كتبها وقدمها بالقاهرة مباشرة قبل مجيئنا للبلاد في (تفلحون) حول واقع الحركات الإسلامية، وقادني لذلك الاجتماع أنني كنت المسئولة عن مكتب الحبيب الصادق المهدي بالقاهرة وماسكة أوراقه.  ولما عدنا للبلاد قرر التوسع في الورقة بإضافة أبواب أخرى تصف واقع المسلمين كله، وبعد إضافة بقية الأوراق تم تكوين تلك اللجنة لبحث الكتاب والتوصية بشأنه. لفتتني غزارة فقهها وعلمها وبيانها وثقتها بنفسها وفي ذات الآن تواضعها فإن أعطيت الفرصة للحديث أبانت ورفعت رأس أية فتاة وامراة تمشي على ظهر الأرض، وإن لم تعطها صمتت ولم تزاحم وبعد اجتماع واحد وجدت انني التي أقاتل من أجل أن تعطى رشا فرصة للحديث.. انتقلت هذه الحالة مع الزمن حتى لدوائر أخرى، فقد وجدتني في اجتماعات المجتمع المدني الأخيرة حول قانون الأمن الوطني أتدخل طالبة أن تعطي رشا فرصتها لأنها تطلبها بصمت يفوت غالبا على رؤساء الجلسات. فهي خليط عجيب من الإباء والتواضع، والثقة بالنفس والانزواء، والجرأة والحياء، والغضبة للحق والتعالي على الجراح الخاصة بنبل عجيب، والصمت الطويل والتأمل ثم الفصاحة والبيان التي تتمنى ألا يلف صاحبتها صمت البتة!

ليس هذا دفاعا عن رشا كما قال الأستاذ محمد لطيف، ولكن الصمت عن واقعة الاعتداء على رشا أمر بدا غير ممكنا. وإنني يقينة أن أية امرأة سودانية بها ذرة من كرامة أو استقامة قرأت صحيفة السوداني قد باتت يوم الأحد الأسود الموافق الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري وفي جنبها طعنة وفي حلقها غصة. لم تبك البروفسرة بلقيس بدري وحدها، لقد كانت طعنة واساءة لأجيال من النساء المناضلات والصابرات والمرابطات من أجل الدين والوطن.. عجيبة قوة الكلمة المنشورة حتى لو أتتك ممن هو أهلها، إلا أن لها قوة هائلة ولا يستغرب إذن أن الحرب أولها كلام!

ليس دفاعا عن رشا وهي التي كم أبكتنا من قبل طربا، وساقتنا نقول في بيانها وفي صوتها السنين الذي يحق الحق ويدحض الباطل شعرا ونثرا، فإذا بنا نبكي اليوم لأنها رميت زورا ومن ورائها كامل نساء السودان الأبيّات..

ظلت رشا تتلقى الضربات غير المنضبطة وغير المتقيدة بأسس اللعبة وأخلاقياتها لأنها كانت توجع من داخل الملعب وقوانينه. وأذكر أننا تزاملنا كمدربات مرة في دورة تدريبية للنساء في محلية سيدون بولاية نهر النيل قبل نحو خمس سنوات ضمن البرنامج التعليمي لحقوق الإنسان الذي تبنته هيئة شئون الأنصار مع المفوضية السامية لحقوق الإنسان بجنيف. ذهبنا لنحدث النساء والشباب عن حقوق النساء في الإسلام ونقول إن ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يتسق مع مبادئ ديننا وشرعه الحنيف، وجاء اثنان من منسوبي الجماعات السلفية فانبريا لرشا يناظرانها فقارعتهما الحجة بالحجة ونهلت من فيض فقهها الفياض وألقمتهما حجارة فلاذا بالصمت ثم غابا عن بقية أيام الورشة وصارا يشيعان في سوق المدنية أن تلك الحميراء معها شيطان! كان ذلك أسلوب بائس وخارج أساسيات لعبة المنطق، تماما كما حدث مؤخرا.

وبعد أن وصفنا رشا وكيف يلجأ مهزوموها غير المتقيدين بأخلاق لعبة الفكر والمنطق لوسائل غير شريفة، فإنه يهمنا أن نتابع المنطق الذي بدأته البروفسر بلقيس بدري حول حقوق النساء والعرف السوداني.

لا يقولن قائل لنا إن العرف والحق هو أن نقبع في ديارنا ولا نشارك في أمور بلادنا ولا في الدعوة لديننا ونسهر من أجل ذلك الليالي الطوال نسد الثغور. فنحن في بلاد فاطمة بنت أسد وأمونة بت عبود اللتان تسميت بهن قراهن، والشيخة رية التي من فرط شهرتها طغت على اسم زوجها الشيخ ود بدر فكان يقال لابنها العبيد ود رية، والشيخة عائشة التي خلفها والدها الشيخ أبو دليق على الطريقة وكان له ولد غيرها، وفي بلاد حكمتها النساء من لدن الكنداكات وأماني شيختي وحتى الملكة ستنا التي حكمت ديار الجعليين في القرن الثامن عشر الميلادي.. النساء لدينا يحكمن ويعلّمن ويزرعن ويقمن بكامل الأعمال منذ دهور سحيقة، فما الغريب لو انضممن لمسيرة الجهاد السياسي الوطني أو الديني الدعوي؟ ألم تشهد فترة المهدية التي ليست ببعيد نساء مثل ست البنات أم سيف استشهدت هي وأربعة من إماءها يوم فتح الخرطوم الشهير؟ ألم يجز الإمام المهدي في سبيل كيد العدو في المعركة للنساء حتى التشبه بالرجال ولبس لبسهم وركوب الجياد؟ ألم تكن رسولته لغردون امرأة ألم تكن تلك المرأة تسهر في رحلتها لغردون؟ بل دعك عن المهدية التي استندت للواقع السوداني الذي فيه النساء لعبن ويلعبن منذ أزمان بعيدة دورا كبيرا حتى لدى الطرق الصوفية فيقال لدى الختمية: السيدة علوية اللابسة حربية! دعنا عن الواقع السوداني، بل إنه حتى في بقية البلاد العربية التي شهدت واقعا أكثر تدنيا للنساء نجد كثير من الفقهاء الذين يرون حرمة الاختلاط بين النساء والرجال يبيحونه في مواطن العبادة والعلم والجهاد، ويقول الشيخ عبد الحميد متولي في كتابه حول نظم الحكم في الأسلام وقد ناقش مسألة الاختلاط بين الرجال والنسا والخلوة ردا على تلك الفكرة (إنّ الرأي القائل بأنّ الإسـلام لا يبيح الاختلاط بين الرجل والمرأة إلا في مواطن العبادة وأماكن العلم وميدان الجهاد رأي لا يسـتند إلى سـند صحيح ولا يقوم على أسـاس سـليم) فحتى المتنطعين في مسألة الفصل بين الجنسين يقرون أن خروج النساء ومخالطتهن للرجال على الأقل للعبادة والجهاد والعلم من المباحات..

أما الحديث عن مخالطة الرجال والرقص في الحفلات العامة فلو تحدثنا عن العرف السوداني فإنه منذ زمان الفصل التام أيام حقيبة الفن كان بوسع أي رجل مهيب أن يراقص أية امراة عفيفة، ومع تغير الأزمان الآن حفلاتنا الخاصة التي هي في طبيعتها عامة للخلق الذي يرودها بها من محن الرقص والمخالطة بين الجنسين ما يستنكره الدين والذوق السليم، وهو موجود في أعرافنا السائدة، ولكن صاحباته ليس رشا ومثيلاتها فهن لا يعرفن الرقص ولا يجدنه وليس من بين عملاتهن المتداولة!

إن رشا ومثيلاتها ممن يحفظن دينهن وحدوده يضحين في سبيل رفعة الدين والوطن مرتين أكثر من زملائهن الرجال: فهن مثلهم يضحون بالوقت والجهد في سبيل المبادئ السامية، وزيادة مرة لأنهن يصطدمن بذهنيات لا تفهم وجود المرأة في الدوائر العامة إلا كباب للغواية زورا وبهتانا، وثالثة لأنهن يفعلن ذلك في ظروف غير مواتية أسريا وجسمانيا أحيانا. مثلا لدى سفرنا لمؤتمر جوبا في سبتمبر الماضي وبينما نحن قافلين في الطائرة قال أخي صديق حسن الترابي إننا كرجال مأجورين أكثر منكن لأننا نضحي بعملنا وقوتنا في سبيل الله والوطن. قلت له إن الذهنية التي تدعك تقول ما قلته لا تدرك حال النساء الآن، فنحن نضحي مثلك الآن بقوتنا وكسبنا وعملنا إضافة لها معاناتنا الأسرية، لقد كانت المرة الأولى التي أستجيب فيها لدعوة سفر وأنا مرضع وكنت أعاني جدا مشفقة على رضيعي ولكنني ظننت أن صفارة الجهاد المدني والديني قد صفّرت ولا يمكنني التخلف، وأدعو الله أن يحتسبها لي أجرا مضافا على الذكور، فمثلما لابني علي حق، لوطنني ولديني الذي تشوهه التجربة الحالية علي حق!

صحيح هناك عرف تسرب لنا من ثقافات عروبية في زمان التكلس العروبي وقد أثبت البروفسر جعفر ميرغني أن الثقافة العربية الأصيلة تعتد بالمرأة. هذا العرف المقيت مضاد للعدل الإلهي وللغضبة الإلهية من أفعال النابذين للنساء المهينين لهن. ولكنه عرف يستحق أن نرسله للمزبلة التي يستحقها فهو لا يتسق مع مقاصد الشريعة ولا مع عرفنا السوداني الأصيل، ولذلك فإننا نقف مضادات لفكرة أن تقبع النساء في قعر دارهن ولا يشاركن في أمور الدين والدنيا والجهاد والعلم. وقد شاركت الحبيب الأنصاري محمد صالح مجذوب في عديلة للحبيبة إيمان الخواض وزوجها الحبيب محمد نور، وقلنا:

بشوف بي عيني سرنا قصدنا حوش الهجرة

بيتـــا عالي فوق بابــــو انفتح لي الشكـــــرة

لي البت التكســـر قيدنا تجلي الفكــــــــــــرة

لا همـــلت وطــــن لا قيلت في حجــــــــرة

**

عاطلات الحريم ما طاب معاها مقيلك

في الدين والوطن ركـزت قـالك وقيلك

نادرين الرجـــال الجـد بشيولو تقيـــلك

الـدر اللصيف يتــوارى قاتلو صقيــلك

وفي إحدى الأبيات جاء:

عقبــال لـــي رشــا لي تومــة المحبوبة

العاليـــة الفهيمــة الفهمـــــت للطــــوبة

فإيمان هي صديقة رشا وتوأمها بالفعل، وقد درج الأمير عبد المحمود أبو أن يلقبهن تبادلا بفقيهة الأنصار ومفكرة الأنصار.. والفكرة في الأبيات أن القيمة الآن للنساء بحسب كسبهن وما يقدمن لدينهن ووطنهن بعيدا عن "عاطلات الحريم" والمقيل في الحجرات! فليخرجن يعملن من أجل دينهن ووطنهن ولو اقتضى ذلك السهر والسفر وقطع الفيافي الطوال.!

الشاهد، إن رشا وصويحباتها لا يسهرن قصد الخنا أو المياعة ناهيك عما قد يدور في أذهان بما ملئت، فهي فتاة كمل عقلها وتم إباءها وحسن فعلها.. ولو سافرن أو سهرن لقاء الانتصار لراية الدين أو الوطن أو لرفعة المبادئ الربانية التي فرضها المولى علينا كالعدل والمساواة والكرامة الآدمية فهن في ذلك مأجورات ولا يمكن أن يعايرن على ذلك. أما العرف السوداني فإنه يفهم لهن تماما خاصة لدى الأسر التي تعودت العطاء الوطني والديني وأكرمته وأكرمت أصحابه وصاحباته.. رشا عوض ومثيلاتها قدمن القدوة فلا يعرفن إلا بأمجادهن ولا يشكلن إلا درة في جبين أسرهن وعشائرهن بل والوطن أجمع ألا ترى رعاك الله كيف احتفى بها الناس حيثما ظهرت في فضائيات عربية وخطفت الأضواء وأثبتت أن جيلنا الحالي ملء العين والقلب والعقل وليس خواء؟، ومن يقول غير ذلك إما يكذب، أو لطبيعة فيه لا يستطيع الإدراك كما الخفاش ينكر ضوء النهار!

 

 

آراء