ليس وحده ليل العاشقين طويلُ ، ولكن كل الليالي التي يعيشها الشقاء طويلة ، يمتد الزمان فوق الذي يُطاق . لا أحد يستمع إلى المذياع، فقد انقضى عمره التقني . عشرات القنوات الفضائية ، تخدُمك أو تستعمِل وقتك لتغسل الصندوق الذي تحمله أعلى الكتفين ،كيفما اتفق . الزمان صار لا يفي بالمطاليب الكثيرة التي باتت تنتظر. التلفاز أينما تديره ، تُشاهد الأجساد المعذبة ، أو تشهد الدماء تلوّن كل شيء بكساء الأحزان الثقيلة على القلوب والنفوس. لن تشاهد فيها خيراً أبداً ، وإن تَرفقتْ بك فإنها تنشر لك أخبار العجائب والغرائب التي تدخل موسوعة جنيس !! .
لسنا في حاجة لنشر غسيل الدُنيا ونحن أعرف الناس بمصائبنا .ما الذي يجنيه الأمنيون من تتبُعنا والتلصص على ما نكتُب ؟ ، فلسنا من الطامعين الصعود إلى العُصبة التي تُمسك بمفاصل السلطة ، ولا تشغلنا جنانهاومتعة أن تكون الآمر الناهي أو جحيمها حيث يمكن بين لحظة وأخرى أن ترحل إلى مزبلة التاريخ، ولا يذكرك أحد إلا وتُشيّع باللعنات . ولكن جحيمها هو الذي نعرفه.
(2)
طفلٌ سوري لفظت جثته الشواطئ التي اختارتها قوارب الموت . ضجّ الإعلام على الحدث ، ووقفت قرون الإعلام والرسوم الكاريكاتورية تنتزع من الحدث جُرعة مؤلمة عن موت وردة آدمية كالنسيم. قدم لنا إعلام السودان طفلاً مُشرداً، ينام على حجر خرساني في وسط الطريق ، وهو مشروع فخم للموت جوعاً وحسرة ، مثل النفايات اليومية المتراكمة في الخرطوم ،التي هي عصيّة على الزوال .
(3)
نعود بالتاريخ ، ربما تكون هناك عبرة .عندما سأل مقدم البرنامج في الجزيرة الفضائية ، الدكتور الترابي في منزله عام 2007 ، عن منْ الذي اخترتموه لرئاسة انقلاب الإنقاذ ، قال :
- ( هو أعلى صف الضباط ) مُشيراً بأصبع السبابة من الأعلى إلى الأسفل. ذات الأصبع الذي صار أيقونتهم عند التهليل والتكبير!!. لقد كان يُشير إليه صاحب المشروع الحضاري السابق ، كرقم في سلسلة التنظيم ، وما ميَّزته عن غيره إلا الرتبة والأقدمية !.
وعندما سأله مقدم البرنامج في ذات الحلقة عن الذي تآمر في محاولة اغتيال الرئيس الأسبق " حسني مبارك " عند حضوره مطار أديس عام 1995 لحضور مؤتمر القمة الإفريقي بأثيوبيا ، فقال الدكتور:
- ( المسؤول عنها المدني في التنظيم بعدي ، والأمريكيون يعرفون الاسم والأثيوبيون كذلك.. ) .
و سأل مقدم البرنامج : هل كان الرئيس على علم بمؤامرة محاولة الاغتيال !
رد الدكتور الترابي :
- الرئيس عيناً لم يكُن يعلم .
قال مقدم البرنامج : ( أتقصد نائب الرئيس حينذاك ؟) .
قال الدكتور :
- ( أنت قلت وأنا لم أقلْ ، لكنني أمام قسم الحكمة إن استدعتني للشهادة ،فسوف أقول ما أعرفه ) .
قال مقدم البرنامج : أأنت تعرفهم ؟
قال الدكتور :
- ( بالطبع نعم ،أعرفهم فقد جاءونا إلينا عند انعقاد مجلس الشورى بعد أن وقعت الواقعة ..)
(4)
يقولون شعبنا ليست له ذاكرة ، فعندما زار الفريق " عبود" أهل النوبة ، بعدما حدث ما حدث لهم من أجل " خزان السد العالي " ، صار يبكي ، على الحليب المسكوب . وبعد فترة من تنحيه عن الحكم، صاروا يقولون ( ضيّعناك وضِعنا وراك ) !!. لكن "اليو تيوب" تُنعش الذاكر الخربة ، وتعيد لها إبرة الموت التي غرزتها الإنقاذ في شرايين الأحباب ، فقضى منهم من قضى ، وبقي من ينتظر . عضو مجلس ثورة الإنقاذ السابق " الرائد كرار " ،قال أنه ليس المسئول عن إعدام مجدي محجوب محمد أحمد . ولكن كثير من الناس كانوا يعلمون منْ الذي شَهِد الإعدام من أعضاء مجلس ثورة الإنقاذ آنذاك !!.
(5)
مؤسسة " داعش " كل يوم لها شأن جديد. قدرة عالية على المعرفة التقنية ، و من سيكولوجية الإنترنيت لاصطياد العصافير التي تربّت في " العالم الأول" . يسألونك : كيف وجد أهل " داعش " تلك الفسحة بين الحرب والتقتيل ليتقنوا مهارة سيكولوجية الانترنيت ليجندوا بها الشباب !؟ . كيف تسلل الأخطبوط " الداعشي" ليحيل الكون العربي من أقصاه إلى أدناه إلى عالم فوضوي مأزوم . سطت " داعش " على ما يقارب نصف مليار دولارنقداً من بنوك مدينة " الموصل " العراقية بعد أن تركها لهم الجيش العراقي ، وأخلى المدينة بلا حرب !!
أهو تمثيل مغاير لبيت شعر المتنبي :
فدَيناكَ أهدى النّاسِ سَهماً إلى قَلبي ..
وَأقتَلَهُم للدّارِعِينَ بِلا حَربِ !!
(6)
عندما قرأنا عن " الفوضى الخلاقة " في التسعينات ، كنا نعتقد بأنها حلمٌ روائي ، ولم نصدق أنها قصة إعادة هيكلة المنطقة من بعد " سايكوس بيكو " . كان التصور أن يتم القضاء على قوات العراق المسلحة ، وتمّ اغتيال الخبراء العراقيين بالمئات في أوروبا ، ومن بعد كان من المفترض أن تدور الدائرة على سوريا عام 2004 ، ولكن التفجيرات المتلاحقة في طرق العراق أذاقت الحلم الأمريكي المُستبد " الفوضى الحقيقية " ، فتأجل مشروع الفوضى الخلاقة إلى أن حاكت بإرشادها مؤتمرات الحراك الأهلي الحر، وأنبتت فيما أنبتت زهرات " الثورات العربية "، التي كانت تنتظر الشرارة . وهنا كانت السانحة لتطبيق الفوضى الخلاقة الجديدة لهدّ القوات المسلحة السورية ، كمرحلة لاحقة بعد تدمير العراق وجيشه وتسليمه لإيران . وكان جيش مصر على موعد بالتفتيت بعد تسلم الإخوان المسلمين حكم مصر ، وبدأت بانقلاب نوفمبر 2012 ، وحاز " مُرسي " حينها على السلطة التنفيذية والتشريعية . وتفاجأت أمريكا بانحياز القوات المسالحة المصرية لثورة الشعب في 30 يونيو 2013 ، وبقي جيش مصر وفشل المُخطط لتصفيته ، و تعدت مصر المصير الصعب . ولم تصدق أمريكا ، ولم تزل تدعم الإخوان المسلمين لعلهم يعودون ليحققوا الأمن لإسرائيل . من أجل منْ تمت تصفية القوات المسلحة العراقية ؟
ومن أجل منْ يلعبون على ذوبان القوات المسلحة السورية كلوح الثلج في الحر القائظ ، سنة وسنتين وثلاث وأربع ...؟
أليس من أحد يتشكك في إذابة الجيش السوري بفعلٍ مُخطط ؟ ، أعلى من صوت الحريات التي يطالب بها الشعب ، ومن ثمة اللعب على قضية تمويل الأسلحة ، نوعيتها ولمنْ تُرسل ، وهل وقعت في يد " داعش " ، وتم تمديد الصراع ؟
أليس غريباً أن تهب النيران من كل صوب ، والدولة الصهيونية تنام في العسل !!.