(ليون الإفريقي) .. أمين معلوف .. التخييل والكتابة فوق الكتابة (2/2)

 


 

غسان عثمان
16 November, 2022

 

ghassanworld@gmail.com

"نحن نساء غرناطة حريتنا عبودية مستترة، وعبوديتنا حرية بارعة". الرواية ص(15).
حينها كانت المدينة تحتضر في صمت، تتآكل من أطرافها بفضل الدسائس، هذه المدينة التي ولد فيها (ليون) باشرته بالطرد والعُزلة، ففي ثنايا السقوط تذهب العائلة إلى فاس المدينة التي تعاني هي الأخرى من صراع هوياتي، إذ فيها اليهودي والعربي والمسيحي، فيها أديان الله تعيش مع بعضها دون علاقة روحية أو سلام، بل كل طرف يتمسك بتناقضاته لا يُخرجها إلا عند الأزمات. إن الهوية التي تقوم الرواية عليها متوحشة، مثلَّها الوزان في كل مكان ذهب إليه، في فاس اكتشف ملكاته في التدين، واختار اصدقائه الدائمين، في إفريقيا كانت الممالك السوداء أهدته عروسه، ورغم أنها مسترقة إلا أن الرجل تقبلها بل وأحبها، هذه السيدة المُهداة ستكون عربون حياته الجديدة في مهربه، كانت تحتفظ بالوزان تحت رحمة أنوثتها، إنها رهينة تومبوكتو في يد الوزّان، رهينته الحرة.
النقيض وهيمنة التراث على العقل العربي:
شخصية "أبي خمر" نقيض شخصية الشيخ "استغفر الله"، هنا كذلك يأخذنا معلوف إلى صراع العلم والدين؛ الدين السطحي في خطب الشيخ استغفر الله، فالاسم يحمل دلالة ماكرة ، فكل شيء حرام طالما لا نجد لها مماثل في عوائد المسلمين، هي العقلية المتحجرة التي ترفض كل جديداً ظناً بأن الأمر قد حسم وكل شيء جاهز للاستعمال، وما المصيبة التي تطرأ إلا بسبب الخروج عن (الكتالوج)، هي الاستقامة التي مثلها سلوك الشيخ استغفر الله، أما الطبيب أبي خمر فهو صورة بن رشدية.
أما في مصر كان المماليك يلفظون آخر انفاسهم والترك يولوحون برايات النصر، فهذا وقتهم يستلمون فيه الزمن الثقافي الإسلامي من يد المماليك، وقد أبدع معلوف في تصوير حالة القاهرة التي زارها بطله، فهي لا تكن الكثير من الحب لسادتها المماليك، لكن ذلك لم يمنعها من الإعجاب ببطولة طومان باي وهو ينافح لأجل بقاء دولته في أهم منارات الشرق. وفي تركيا التي حمل ليون معه خبراته يقدم لنا معلوف الإمبراطورية وهي تتمدد. إن الانتقال الذي جرى في مصر بعد سلسلة من التحولات من الفاطميين والأيوبيين ثم المماليك وآخرهم الأتراك بقيادة سليم الأول، تكشف لنا عن غياب فكرة الشعب في الثقافة العربية، إذ كل ما دونه المؤرخون اتصل فقط بالسلطاني، وغابت كل ملامح الشعب، أما معلوف فقد آلى على نفسه بالعمل مؤرخاً إنسانوياً يعلو بدرسه السردي على معنى التاريخ الرسمي، وهذا هو عمل الروائي أن يؤرخ للمخفي والمقموع، هي غرناطة مدينة التناقضات، تتعايش فيها الطبقات بقهر السلطان، فاس تتكاثر فوق نفسها، فيها الديني المغلف بالتصوف، وفيها الطوائف تحتمي بنفسها، وفيها المنبوذون وقطاع الطرق وأصحاب اللهو.
أما مصر المكثفة الإنسانية، بلد تستطيع فيه التناقضات أن تعقد تسويتها الخاصة، لا مجال للعصبية إلا بقدر الانتماء إلى الطبقة، ولذا فقد حاربت مع طومان باي، ولم تحزن كثيراً لمقتله البطولي، إن مشهد إعدام طومان ورد في الرواية كما تقدمه الكتب التاريخية، لكن الحرفة عند معلوف تبدت في بيان الفضاء الذي جرت فيه المقتلة، يقولك: "تعالت آلاف الغمغمات وكأنها دوي يزداد زلزلة في كل لحظة: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.." ... وكان لفظ "آمين صرخة ممدودة خانقة ثائرة، ثم لا شيء، وران الصمت، وبدأ العثمانيون أنفسهم مشدوهين، وكان طومان باي هو الذي حركهم بقوله: "أيها الجلاد، قم بعملك!"- الرواية صفحة 347.
حسن الوزان هو من وشَى بنفسه، واستسلم للاختطاف، فصديقه عباد والذي كان يتولى إقلاله إلى تونس مع نور زوجته وابنهما بايزيد، هنا يمسك معلوف بذكاء شديد بأداته السردية، فبعد استراحة قصيرة بين الصديقين وهما يهمان بالسفر، تحدث عملية الاختطاف: "وما هي إلا ساعة حتى خرجنا بدورنا مرحين شبعانين سعيدين بالمشي على طول الشاطئ فوق الرمل المبلول وتحت قمر متألق. وما كدنا نجتاز ببضعة من أكواخ الصيادين حتى رأينا فجأة ظلالاً تمتد أمامنا.." الرواية صفحة 357 – وهنا جرت عملية الاختطاف، إن دلالة اختطاف الوزان تحمل في طياتها تجليات صراع الهوية، هذا العربي غير العربي، المسلم يُذهبُ به إلى معقل الحضارة الغربية ليلعب دوراً جديداً سفيراً تارة، ومحتفى عند البابا، ينقل لنا من هناك تناقضات الحضارة الغربية وهي تأكل نفسها بسبب من حروب دينية عمادها اختلاف المذهب، فلوثر الثائر في ألمانيا يسعى لتهديم المعبد من جديد بدعوى الهرطقة والخروج عن جادة المسيح، لوثر المصلح الفانتازي ممثلاً في تلاميذه الذي درسوا على يد الوزّان، روما تحتضر ومطلوب من ساردنا أن يقدم خدماته هذه المرة من الضفة الأخرى، هذه السفارات المتعددة لحسن الوزان يربط بينها شيء واحد، وهو واقعيته الشديدة مع وظائفية واحدة لا تحمل أي هم رسالي، وهكذا هو الإنسان الكوني يعمل في ظل فضاء غير محدود..
ويتم اختبار الوزان، فالرجل كلما ولى وجهه احتقب زمناً ثقافياً في عنقه ولم يخيب الظن، ألم تكن نهاية الأتراك المتوقعة بيد بايزيد، يقول: "سوف يزعزع بايزيد بن علاء الدين عرش العثمانيين في يوم من الأيام. فهو وحده القادر، بوصفه آخر الأحياء من سلالته، على إثارة قبائل الأناضول، وهو وحده القادر أن يجمع حوله المماليك الجراكسة والصفويين الفرس للقضاء على السلطان التركي المعظم. هو وحده. إلا إذا خنقه جواسيس السلطان سليم"- الرواية صفحة 312.
من منفى إلى آخر روح هذه الرحلة الوزانية، فحسن بن محمد الوزان يعود من جديد إلى جذوره المصنوعة، ولكن هذه المرة في معيته مقابله الهوياتي ابنه، وفي وصيته له تنتهي الرحلة المعقدة والمجدولة في رأس الصراع الهويوي ورمزه المؤنسن حسن الوزان، يقول له هاك خلاصة المعنى من المعركة الوجودية التي خضتها، وأنت بُني تحمل نقيضي الذي أتصالح معه ببقايا واقعيتي التي أحملها سلاحاً ضد الأزمات "مرة جديدة يا بُني يحملني هذا البحر الشاهد على أحوال التيه التي قاسيت منها، وهو الذي يحملك اليوم إلى منفاك الأول، لقد كنت في روما "ابن الإفريقي"، وسوف تكون في إفريقية "ابن الرومي"، وأينما كنت فسيرغب بعضهم في التنقيب في جلدك وصلواتك، فاحذر أن تدغدغ غريزتهم يا بُني، وحاذر أن ترضخ لوطأة الجمهور! فمسلماً كنت أو يهودياً أو نصرانياً عليهم أن يرتضوك كما أنت، أو أن يفقدوك" الرواية صفحة 451، هكذا كانت نهاية الإنسان الكوني حسن بن محمد الوزان.
إن رحلة ليون الإفريقي رحلة العقل العربي بتناقضاته، واقعيته وسحريته، رحلة هي التعبير الأسمى عن صراع الهوية في الثقافة العربية، صراع بدأ منذ اللحظة الأولى التي انطلقت فيها جيوش المسلمين تغزو العالم، تركبه وفق إرادات متعارضة، والوزّان صاحبنا خاض كل حروبه السلمية وغيرها، بسلاح واحد وهو السرد للذات، إن مساحة التخييل في هذا العمل واسعة ومثيرة للإعجاب حقيقة، إذ لم يقع معلوف في فخ الكتابة التاريخية بنمطها المباشر، بل أن شغله السردي هو كتابة فوق الكتابة، إذ اتخذ من اللحظة التاريخية المشتغل عليها في كثير من المرويات، اتخذها حالة جديدة، لقد استطاع أن يحل المشكل النقدي في كثيره حول علاقة الرواية بالأدب، إنه التخييل الذي يهتم بحياة الناس العاديين، فالعلاقة التي ابتناها وقام بتركيبها بشكل سردي فريد تجيب عن التساؤل، وإجابته واضحة وهي "أن الأدب لا يعدو كونه حالة كتابة فوق الكتابة".

 

آراء