مأزق الاندماج ومفارقات الانفصال والوحدة في اليمن

 


 

 


Abdelsalam Hamad [abdelsalamhamad@yahoo.co.uk]
تنوية :استميح القارئ عذرا لاعادة نشر هذا المقال الذي ظهر  لأول مرة على مجلة اليسار بمصر. العدد الخامس والخمسون-سبتمبر1994 ص30.قد صادف يوم الخميس الماضي الموافق السابع من يوليو الجاري الذكرى السابعة عشر لدخول قوات علي عبداللة صالح  مدينة عدن –يوم الخميس السابع من يوليو 1994 الذي وسم  نهاية الحرب الاهلية التي أمتدت لسبعين يوما( 27 ابريل الى السابع من يوليو 1994) كابد فيها جنوب الجنوب وفي مكان القلب منه مدينه عدن الاهوال والوبال.عاش كاتب هذه السطور يوميات الحرب مع مواطني عدن الذين انقذوه من الموت ظمأْءً وجوعا.تبدو  لكاتب هذه السطور أن تلك الحرب المشئؤومة التي شنها نظام علي عبداللة صالح  على الجنوب للانفراد بالسلطة هي البذرة الحقيقية لثورة  شباب ساحات التغيير التي تفجرت في الثامن عشر من فبراير 2011 التي قضت على نظام علي عبداللة صالح واحدثت  شرخا واسعا في جدار المجتمع المغلق الذي ظل يحاصر اليمن واليمنيين واليمنيات بآلياته العتيقة الملتوية  لقرون.
-1-
نهاية الحرب الباردة بداية النظام العالمي الجديد
هل خطر ببال أكثر المتشائمين حول مستقبل اليمن السياسي او ذهن اكثر خصوم اليمن حقدا ان ينتهي ذلك المحفل الجليل للوحدة اليمنية التي تمت في 22 ـ 5 ـ 1990 بمذابح ومحارق فاجعة لاتقع عادة بين اكثر الأعداء غلظة وضراوة ناهيك عن الاحباب الاشقاء .إذ يعد كل مانقلته قنوات الأرسال الفضائية نذرا يسيرا من واقع  ماحدث في طول البلاد وعرضها التي تحولت بمشيئة اليمنيين  وارادتهم الحرة الى ميدان للتنابذ والملاعنة والتناحر بتكنلوجيا الهدم والموت.
يبدو ان المفاجأة غير السارة لذلك الفشل الكامل للوحدة اليمنية التي لم تدم طويلا مردها مفارقة أنه قد جرت سنة اليمنيين أيام التشطير القديمة ان يقتتلوا اولا ثم يختمون قتالهم باتفاق جامع يدعو الى وحدة فورية كما حدث في احداث 72ـ و 1979. أما هذه الكرة فإن اليمنيين  أجمعوا  اولا على وثيقة العهد والاتفاق بعد جهد وعمل متواصل طويل ووقعت كل الأطراف على ذلك في محفل اقليمي كبير ثم انتقلوا مباشرة من الاتفاق الى حرب ضروس أذهلت الجميع وأغرقت المراقبين والمحللين في اضطراب وتضارب وفوضى في التصورات والتفسير والاستنتاج. إذ ذهب بعض المعلقين الى ان حرب اليمن التي توقعوا لها زمنا طويلا وجاءت قصيرة وحاسمة تعد ملحقا شفويا لحرب الخليج قامت فيه المملكة العربية السعودية ودول الخليج بدور الممتحن الخارجي وكل ذلك لعقاب اليمن واليمنيين لموقفهم الذي صب في نهاية المطاف في مجرى صدام حسين. وسار العقل التشبيهي الى نهايته المنطقية في تفصيل الملابس وتوزيع الادوار على اطراف النزاع في اليمن لتتطابق مع سيناريو حرب الخليج.
ولكن وقائع ويوميات ونتائج حرب السبعين يوما اليمنية ابانت بجلاء ان حرب الخليج بكل اطرافها وملابساتها كانت بداية النهاية للحرب الباردة التي ذهبت ببوش وشامير مع الأنتخابات الأسرائيلية والأمريكية. أما الحرب اليمنية فقد خطت أولى القسمات البارزة في طريق النظام العالمي الجديد في العالم العربي حيث تتقاطع فيه المصالح والطموحات والنزاعات الجديدة (بعد غياب السوفيت) بين القوى الأقليمية, ودول الأتحاد الأوربي , والولايات المتحدة, واليابان. وان هذه المصالح وتنازعها لم تعد في طي الكتمان, وقد أستطاع الرئيس علي عبد الله صالح ان ينفذ الى حيث يريد ويشاء من ثغرة التنازع بين الولايات المتحدة والقوى الأقليمية من جهة, وبين كل هؤلاء ودول الأتحاد الأوربي  حيث وقفت اليابان في مفارق الطرق موزعة الأهواء والمشاعر , ورقص علي سالم البيض كالريشة المعلقة في الهواء إذ " تخلى عن كل قواعده وتحالفاته آملا في المستحيل في وقت حافظت فيه كل الأطراف المتنازعة الأخرى  على ثوابتها وتحالفاتها وفقا لطبائع الأشياء".
-2-
ياخارجا عن بلاد اليمن لاترجعن
أضحى مدخلا تقليديا مألوفا أن يعتذر الكتاب عن اليمن في مقدماتهم عن نقص المعلومات المتوفرة عن حقيقة الأوضاع الاقتصادية وتعقد البنيات العشائرية وخفاء جوهر واتجاهات النزاع . أما اليمنيون انفسهم فيستطرفون كل ذلك, فإذا كان الآخرون لايعرفونهم حقا فذاك يستخفهم طربا , ويمنحهم قدرا من الحرية في التصرف والسلوك السياسي وغموضا لايخلو من جاذبية يحلو لكل انسان أن يحيط به  نفسه.
يروى عن الأمام أحمد بن يحيى حميد الدين أن قد أصابه الملل يوما, فأستدعى الى مجلسه تركيا أشتعل رأسه شيبا في اليمن, ولم تفارق العجمى لسانه بعد, وله خطرات معروفة عن غرائب اليمنيين وعجائبهم, فإذا الأمام أحمد يستطرف وينتشي بمفارقات التركي عن شوارد اليمن وتجاربه فيها, فطلب منه أن يوجز بصراحة مارأى في اليمن وله الأمان فيما يقول فأجاب : " ياخارجا عن بلاد اليمن لاترجعن, ياداخلا لاتعجبن, قانونها لايكتبن, لايقرأن لايفهمن".
يبدو ان مفاجأت الحرب اليمنية الأخيرة قد اضفت قدرا من المصداقية على عجائب اليمن كما قد وردت على لسان التركي أمام الأمام أحمد لو صحت الرواية أصلا, فقد انهارت الوحدة اليمنية بالضبط في ذات الشهر ـ مايو ـ الذي تحققت فيه, وقد وافق الأنفصال يوم اعلان الوحدة بعد أربع سنين على وجه التحديد, وقد توقع كل المراقبين والذين يديرون الحرب أن يطول امدها فكانت قصيرة نقيضا لكل التوقعات. وقد اطلق عليها الجميع الحرب الأهلية ولكنها كانت نظامية محكمة التخطيط والأداء والتنفيذ. من الاعاجيب أن  حزب التجمع اليمني للأصلاح الأسلامي الذي وقف بصرامة ضد الوحدة والدستور ووصمها بالكفر والألحاد حارب من أجل الوحدة تحت رايات الشرعية الدستورية وألحق بالخارجين عليها لعنة الكفر والألحاد مرة أخرى,أما الأمين العام للحزب الأشتراكي اليمني أكثر المتحمسين للوحدة الفورية الأندماجية والعضو التقليدي  المتطرف  والمتبقي في الجبهة القومية التي رأت في الوحدة اليمنية , هوية للجبهة ثم للتنظيم السياسي الموحد ثم الحزب الأشتراكي والذي ابرم اتفاقية الوحدة مع نظيره الرئيس علي عبدالله صالح ثم دفع  مكتبه السياسي واللجنة المركزية لتأييد خطواته الوحدوية الفورية الاندماجية , فقد أعلن النفصال أولا ثم طلب التأييد من حزبه الأشتراكي فنال بحق جلباب وشارة درويش الوحدة وبطل الأنفصال.
قد حارب الى جانب جيوش الأشتراكي الني يقودها العميد العطاس وبن حسينون والبيض نفسه جيش الانقاذ الذي عبر الحدود قادما من المملكة السعودية  لنجدة البيض والمشكل من شيوخ محميات الجنوب العربي وسلاطينها  والذين جندوا وتلقوا الرعاية والدعم الأدبي والتمويل  من المملكة العربية السعودية قديما لأنقاذ اليمن الجنوبي من براثن الحزب الاشتراكي ضد الجيش الذي يقوده علي عبدالله صالح والذي ظل يحظى لزمان ليس بالقصيربعواطف المملكة وتأييدها.
توجه امين عام الحزب الأشتراكي  أثناء الحرب الى حضرموت ليخاطب قبائل الصيعر وعبيده ومراد لأستنهاضها لتوطيد مشروعه الحضاري  في الدولة الجديدة التي تتوزعها قيادات عشائرية ومناطقية في شبوه وابين . ومنحت عدن لجبهة التحرير التي لم يعد لها وجود كتنظيم في اليمن, وتطابق تشكيل مجلس رئاسة جمهورية اليمن الديمقراطية مع التوزيع المناطقي للجنوب . ثم اضاف مجلس رئاسة البيض الجديد فقرة بتبني دستور الجمهورية اليمنية ووثيقة العهد والأتفاق في دولة انفصالية لاعلاقة لها بالجمهورية اليمنية بل في موقع المواجهة العسكرية معها, ومضى البيض في مفارقاته فأصدر امرا جمهوريا باغلاق مصنع البيرة في عدن, ثم الحقه بامر آخر يحرم فيه شرب الخمر في عموم الجمهورية الجديدة الامر الذي لم يصدره مجلس النواب الذي يضم غلاة الأصوليين.
وتلاحقت عجائب الحرب والنفصال بان تبنى امين عام الحزب الشتراكي رأسمالية اقتصاديات السوق  في بلاد اتفقت كل الأطراف فيه على تنشيط كل القطاعات الاقتصادية: الدولة,والمختلط, والتعاوني , والخاص.
حافظ الرئيس صالح قبيل الحرب واثنائها على تحالفاته وقواعده القبلية والحزبية القديمة واضاف اليها قوى وطنية جديدة ظلت تقف بمنأى عن سياساته متوجسة أو متحفظة أو في المعارضة ولكنها ترى في الوحدة اليمنية صيغة محورية تدور حولها كل قضايا اليمن الأخرى. أما امين الحزب الأشتراكي فقد أجرى مقايضةأشبه بالمغامرة على موائد المقامرة اذ استبدل تحالفات الحزب الأشتراكي التاريخية  في الجنوب والشمال بالاعداء التاريخيين لذات الحزب من رابطة ابناء الجنوب , وجبهة التحرير, والذين دمغوا في عشية الاستقلال 1967 بالخيانة والغدر والتخابر مع الاجانب , ولحق بهؤلاء اصحاب الجمعية العدنية, "واللوبي الحضرمي" الذي لم يخالجه الاحساس يوما بانتماء اقليم حضرموت الى اليمن الكبير. وتخلى امين الحزب الاشتراكي البيض صراحة عن كل القوى الوطنية في الشمال وعن تلك الجماهير في مارب والمنطقة الوسطى والبيضاء والحجرية وتعز وتهامة وصعدة التي وقفت معه وأدلت باصواتها لحزبه في أنتخابات 1993. وقبل ذلك لم يأبه امين الحزب الأشتراكي بالمصير الغامض الذي سيواجه اعضاء الاشتراكي في الشمال الذين سيواجهون موقفا وعليهم ان يدافعوا ويبرروا قرارا لايعرفون عنه شيئا في فوضى الحرب , وجنون العداء و وغياب العقل . إذ كيف يستقيم لهم ان تستجير قيادة الحزب الاشتراكي بخصومها من السلاطين وقادة جبهة التحرير ورابطة ابناء الجنوب وعدن للعدنيين في جيش الانقاذ القادم  من خارج الحدود, وتتحالف معهم وتعلق مستقبلها ومصيرها على قرارات مجلس التعاون الخليجي , والامم المتحدة, وتتعلق بوهم انزال مظلي من الغرب سريع لأنقاذ عدن وفي ذات الوقت تتخلى عن هويتها الوحدوية, وتعلن الانفصال وهي محاصرة بالماء المالح وجيوش علي عبدالله صالح وعلي ناصر محمد والتجمع اليمني للاصلاح؟ تنتظر الاعتراف والنصر والتناصر وكل القوى الوطنية واليسارية من حولها قد سقطت في جب الحيرة والارتباك والاغتراب والعزلة؟
إذا ماذا جرى ؟ ولم حدث كل ذلك, ماطبيعة المجرى الذي اقلعت منه كل تلك التناقضات والنقائض والمفارقات وتبدلات المواقف ؟ لم هرب البيض سياسيا من حلفائه ولجأ الى خصومه؟ لم وقفت دول الجزيرة والخليج مع استمرار الحرب عمليا ولم تمد يد العون للبيض وتخلت عنه؟ لم تقاطعت مصالح الغرب والخليج في حرب اليمن اذ وقف الغرب عمليا مع الوحدة ودول الجزيرة والخليج مع الانفصال واشتركا في قاسم مشترك واحد ان تترك الحرب ووقائعها لتقرر على الارض مصيرها؟
-3-
عبقرية المكان وصراعات الزمان
ظلت اليمن بركنها الجنوبي الغربي ملتقى لطرق اسيا البحرية وافريقيا وشبه القارة الهندية وعلى مدخل البحر الابيض ويمكن الابحار منها عبر طريق الحرير الى الصين , ظلت محورا لمصالح وصراعات الدول الكبرى والقوى الاقليمية الممتزجة بالتطلعات المحلية منذ تاريخ موغل في القدم . قاد نزاع الحضارتين الفارسية والرومانية في القرن السادس والسابع الميلادي الى احتلال اليمن من قبل الاثيوبيين وانفجار بركان الخلافات الدينية بين الوثنية والمسيحية واليهودية وانقلاب توازنات القوى المحلية الفاعلة مما ادى الى اضطراب طرق الملاحة الدولية وانتقالها من البحر الى القوافل البرية وتحول مركزها من مدن الجنوب الى تجار مكة القرشيين في الشمال الذين ابتدعوا تجارة الايلاف متخذين موقفا وسطا في التقاتل بين فارس وروما لتسهل عليهم رحلات الشتاء والصيف والانتقال من الغرب الى الشرق آمنيين برؤوس اموال القبائل العربية التي اضطرت الى حماية طرق تجارة الايلاف لتجني ارباح رؤوس اموالها التي بيد التجار من قريش, فانتعشت الاسواق في جزيرة العرب واضحت لها مواسم ومواقيت معروفة طبقا لدورات الفصول والمحاصيل والسلع الواردة من وراء البحار والخلجان فانتعشت الثقافة وحدت القبائل من حروبها , ودخلت في اتحادات وتحالفات واسعة انبثق في وعيها نزوع بتميزها وقواها اذا تجمعت وضعفها اذا تفرقت . وجاء الاسلام ليصوغ  ذلك النهوض التجاري والوعي بالدور والحضور الفاعل لجزيرة العرب واطرافها  والتمايزالثقافي والديني في انتقال حضاري تجاوز فارس وروما والمسيحية واليهودية والوثنية.  استطاعت مصر في العصر المملوكي الاول ان تزدهر تجاريا بفضل تأمينها لطرق الملاحة في جنوب جزيرة العرب التي تمر عبر البحر الاحمر ثم تنتقل  البضائع الى نهر النيل لتصعد قدما الى مدن البحر المتوسط وشهد النصف الاول من القرن الخامس عشر الميلادي ازدهارا تجاريا في المدن المصرية والشامية ـ بيروت وطرابلس وعكا ودمشق واللاذقية ـ وارتبطت بحركة المدن الايطالية في بدايات عصر النهضة الاوربية , وسددت الدولة المملوكية ضربة ساحقة للاسطول البرتغالي في المحيط الهندي 1452 الذي سعى لكشف طريق جديد للتوابل واللبان والحرير القادم من اقصى الشرق والهند والخليج واليمن يمر برأس الرجاء الصالح مما يكلف تجار المدن الايطالية رهقا ماليا لطول الطريق الذي يدور حول افريقيا بدلا من الممر التقليدي الذي يمر من عدن ثم الى  نهر النيل عبر البحر الاحمر فالقاهرة الى الاسكندرية فالشام فالمدن اليونانية والايطالية.و لكن تقدم الجيوش العثمانية الغازية الى الشرق العربي قد عجل بسقوط الدويلات العربية المتهالكة في الاندلس وانطلاق حركة الكشوف الاسبانية 1492 التي دارت حول افريقيا ثم جزر الهندالغربية الى الاراضي الجديدة الشيئ الذي عزز الوجود البرتغالي في المحيط الهندي وجنوب الجزيرة العربية وقد عمد اجتياح قوات السلطان سليم الاول 1515 محور فلسطين ولبنان ومصر دخول كل العالم العربي الاسلامي في جب عصور الظلام والانحطاط التي خرجت منها اوربا. وهكذا اغلق العثمانيون البوابة الجنوبية الغربية للجزيرة فكانت اشارة للعزلة والسقوط العربي تحت سنابك خيول الخلافة العثمانية قرابة ثلاثة قرون ( 1515 ـ 1798 ) حينما تكشف لسيدة البحار بريطانيا العظمى ان فرنسا نابليون بونابرت قفزت على مصر لتقطع عليها الطريق التجاري الدولي بوضع يدها على منفذي البحرين الابيض والاحمر , خفت بريطانيا سراعا واحتلت جزر بريم اليمنية قرب باب المندب ثم تخلت عنهما بجلاء فرنسا عن مصر 1801 ثم عادت بريطانيا مرة اخرى لتضم عدن الى درة التاج البريطاني(1839 -1967 ) ولتجعل منها واسطة عقد الامبراطورية التي لاتغرب عنها الشمس في الشرق الاقصى وشبه القارة الهندية والخليج العربي ومستعمراتها في شرق افريقيا.
عجزت بريطانيا رغم دهائها البارد ان تستخرج لمدينة عدن مع باب المندب هوية بريطانية بالميلاد او ان تشتريها نقدا بتنازل أئمة الشمال عن يمنيتها ولكنها بذلت كل ماتستطيعه لتبقى في عدن حتى اشهرت حركات الاستقلال السلاح في وجهها بقيادة الجبهة القومية لتجلو  عنها وتعود ادراجها من حيث جاءت.
حينما مخرت الاساطيل السوفيتية مياه البحر الاحمر والمحيط الهندي واشرقت على مضيق باب المندب بعد الاستقلال 1967 . قد كان جليا ان اليمن قد دخلت اتون الحرب الباردة من اوسع بحارها  فانتقل كل الغرب واصدقائه في الشرق الاوسط وحلفائه في اسيا الصناعية الى تاييد صنعاء في الشمال ودعمها بالمال والتكنلوجيا والسياسة وحصار الجنوب لأعادة شيئ من التوازن الذي اختل بدوران عدن في الفلك السوفيتي. عادت عدن بخليجها وبابها الى شئ من اهميتها  السابقة وموقعها الذي تحتله في استراتيجيات الدول الغربية واقاليم النزاع في الشرق الاوسط ولكن في مرحلة جد مختلفة يتشكل فيها عالم جد جديد بعد نهاية الحرب الباردة 1990.
واذا كانت عدن بموقعها الاستراتيجي والمواهب الطبيعية التي يتمتع بها ميناؤها وقدرتهاان تتفوق على كثير من المناطق الحرة اذا توفرت لها الارادة والادارة والتمويل هي الثروة الحقيقية لليمن قبل البترول  والغاز الطبيعي والثروات المعدنية التي تبشر بآفاق واعدة , فإن الوحدة اليمنية التي تمت22 ـ 5 ـ 90  كمصالحة وطنية وتاريخية بين نظامين يختلفان في البنية الادارية والرؤية السياسية والتوجهات الاجتماعية قد تبنت الديمقراطية القائمة على التعددية والتداول السلمي للسلطة وتأهبت لفتح افاقا رحبة لمجتمع ودولة حديثة ومؤسسات وتنظيمات مدنية الشيئ الذي اثار رعبا لدى بعض دول  الجوار وحذرا وتحفظا لدى البعض الاخر لما تتمتع به اليمن من ثروة بترولية ومعدنية واعدة ورقعة جغرافية واسعة متنوعة المناخات قياسا بدول الخليج الصحراوية. وأكثر من ذلك كثافة سكانية في اليمن  تصل الى 14 مليون مع تجربة حضارية عميقة خبرت الوثنية والمسيحية والاسلام وتعرفت على الرأسمالية والاشتراكية حديثا. ويتمايز اليمنيون كأفراد بتجارب ثرية تم استقاؤها من كل بلاد العالم التي هاجروا اليها. وهكذا اضحى اليمن الموحد بتجاربه السابقة مصدر قوة وتهديد متوهم وحقيقي اضافة للقسمات العسكرية الصارمة التي تطبع الشخصية اليمنية وجعلت منه شعبا محاربا من الطراز الاول سيما وقد اسهمت مناخات الحرب الباردة والمواجهات العسكرية الدائمة بين الشطرين الى توفر وتكدس كل انواع الاسلحة لدي الدولة والقبائل والمواطنين. وهكذا اضحت الوحدة اليمنية والديمقراطية التعددية والمنعة العسكرية رافد  قوة لليمن ومصدرا يمكن ان يتسرب منه الخطر ( وهما وحقيقة) لاقليم الجزيرة والخليج وقد زاد موقف اليمن الخاطىء من حرب الخليج الطين  بله واضافت حدة التوترات ذات العلاقة بنزاعات الحدود الى كل ذلك موقفا يكاد يكون موحدا لأقليم الجزيرة والخليج من الوحدة اليمنية بأن لاتبقى موحدة  اما بأعادتها الى سابق تمزقها وتشطيرها أو بدفعها  الى هاوية الحرب لتدمير آلياتها الحربية وقاعدتها الاقتصادية وقوتها البشرية وافلاسها ماليا ومن ثم تندفع تلقائيا الى احضان التبعية والاذعان لذات الدول التي تهددها الوحدة اليمنية.
لذلك فقد كان قرار الحرب اليمنية يصب في مجرى ماتسعى اليه دول الجزيرة والخليج مع تباين في الدرجة بين موقف كل دولة على حدة لأسباب تبدو متباينة . اختلفت مصالح الدول الصناعية الكبرى من الوحدة اليمنية طبقا لضخامة او ضىآلة استثمارها ومواقعها في سوق اليمن التجاري ونفوذها الصاعد والنازل ولكن الولايات المتحدة تمثل الموقع الاول في الاستثمارات البترولية والنفوذ السياسي ومع ذلك فإن موقف الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوربي واليابان يسير للمفارقة في اتجاه مضاد لدول اعلان دمشق اذ تتطلع الى استقرار اليمن السياسي واستمرار الوحدة اليمنية على ان يصبح الشريك الاستراكي فاعلا وعلى قدم المساواة في الحكم مع المؤتمر وكل ذلك حتى لايضطرب الممر المائي الدولي فتختل موازين القوى وتهتز اعصاب الصناعة الغربية وتحكم الفوضى فينتقل النفوذ الايراني من مضيق هرمز الى باب المندب الى الصومال والسودان ومصر وشرق السويس  وبالعكس لتجتاح عمق الجزيرة والخليج. صحيح ان الغرب قد دعم الوحدة اليمنية لضمان الاستقرار في المنطقة بدون تكلفة الشرطي الغربي ولكن حينما اندلعت الحرب عثر فيها الغرب على ضالته بتدمير آلة الحرب السوفيتية واستبدالها بآلة تحيي موات سوق السلاح الغربي وسانحه ايضا بالتخلص من مدرسة المشاغبين القدامى وعلى راسهم البيض. وإذا كان اليمنيون يفعلون ذلك بأيديهم فإن الصيغة التي تناسبهم هي العبارة السوريالية التي اضحت متنا سياسيا ـ ان الولايات المتحدة لاتؤيد وحدة او انفصالا بالقوة ـ
-4-
لماذا فشلت الوحدة اليمنية؟

الوحدة التي تحققت بالرضا والاختيار عبرت عن العجز في مواصلة غاياتها وبقائها في المقام الاول باندلاع الحرب الكاملة التي اشتركت فيها كل الاسلحة والقوات من الجانبين وغرق الجنوب في مستنقعها ولم يسلم الشمال من غاراتها الجوية وصواريخها والدمار الكبير الذي لحق بالبشر واللاقتصاد والبيئة والتكنولوجيا العسكرية لكن السؤال الحارق : لم فشلت الوحدة رغم الزخم الاحتفالي والحماس الجوهري لها في الجنوب و الشمال؟.
يبدو ان صيغة الوحدة الاندماجية لم تك تلائم خصائص مجتمعي الشمال والجنوب ولا يتسق مع التباين بين مستوى السكان في بنية الدولتين السابقتين وقد قفزت الوحدة فوق حقائق التباين والتمايز المناطقي في الجنوب و العشائري والمذهبي والتراتب الاجتماعي التقليدي في الشمال اذ كانت همدان حاشد وبكيل فاعلة في الشمال كقوة عسكرية وعشائرية فإن ردفان ويافع والضالع فاعلة في الجنوب كقوة عسكرية وقبلية وحزبية بعد استبعاد ابين وشبوة في معارك يناير 1986.
إذا كانت الوحدة في امس الحاجة الى نظام اداري ومالي وتعليمي وسياسي يراعي خصائص البنية الاثنية والمذهبية والمناطقية ولا يغفل التباين بين السهل والجبل والساحل,والتراتب الاجتماعي التقليدي الذي ظل فاعلا منذ قبل الاسلام وحتى اليوم دون ان تكون غاية المراعاة تكريس البنية او تفجيرها بالقوة بل بفتح الراكد المغلق وتحويل المجتمع الابوي بالتدريج والاصلاح والثورة الى مجتمع مدني يقوم على التمايز القائم على العمل والانتاج وليس على رابطة العسيرة او المذهب او المنطقة , وان تكون التنمية المحلية ومشاركة السكان في التخطيط  والادارة وفصل الثروة عن السلطة وفصل الثقافة والدين والمؤسسات والجمعيات التعاونيةوالعلمية عن الدولة ووصلها بالمجتمع لحمة النظام الاداري والمالي والسياسي وليس بالضرورة ان صيغة الوحدة كنفدرالية او فيدرالية أو إقليمية ولكن لا ان تقوم على فصل المال عن السياسة ومراعاة الخصائص البنيوية التي تسمح في المستقبل بفتح المجتمع المغلق ونقله من العشائرية العسكرية والمناطقية الى مجتمع معاصر.
يقال أن وفد التفاوض على صيغة الوحدة القادم من الشمال قد طرح الصيغة الفيدرالية والكونفيدرالية ولكن البيض رفض كل ذلك مفضلا صيغة الوحدة الاندماجية ذات الطابع المركزي والواحدية المالية والادارية الثقافية  مما دفع بمشاعر القادمين من الاطراف البعيدة لحل قضاياهم في المركز النائي ان تتحول تدريجيا الى الاحساس بالغبن والتبعية والاخفاق. وهكذا لعبت صيغة الوحدة الاندماجية دور المعهد الذي يقوم بتدريب اكثر المواطنين بعدا من مركز الادارة والمال الى العزلة والانفصال.
اما  قيادة الحزب الاشتراكي التي لم تطرح منذ البداية  الوحدة والاشكال المتعددة لأنظمتها لتنظيمات الحزب الاشتراكي القيادية والقاعدية ولم تطرحها أيضا  لمؤسسات المجتمع وتنظيماته لمناقشتها بوضوح وعلى نطاق واسع فقد كانت على  عجل من أمرها فقد فضلت المزايدة على الاندماج بدلا من مناقشة كل البدائل الاخرى لصيغ الوحدة لأنها كما يبدو  كانت تعاني من وطأة الاحساس بالعزلة والانهيار بعد معارك 13 يناير الدامية واشتراك بعض القيادات التي بيدها قرار الوحدة في تصفية مؤسسي الحزب الاشتراكي بيدهم. وقد اضاف تضعضع الاتحاد السوفيتي وقراره بتصفية وجوده الى تهافت القيادات الجنوبية على صيغة الوحدة الاندماجية. ويبدو ان تصفيات 13 يناير والانهيار المفاجئ للاتحاد السوفيتي قد اقنعت بعض قيادات الحزب الاشتراكي ـ وهي تفضل الوحدة الاندماجية ـ ان تلك ايضا صيغة مناسبة للخلاص من النظام الاشتراكي في الجنوب الذي اضحى يرمز لماضي وشخصيات بغيضة لديهم على الاقل كل تلك الحوارات التي جرت داخل الذات قد عجلت في نهاية المطاف ومن نفس الشخصيات بنهاية الوحدة على فوهات المدافع. صحيح ان الوحدة اليمنية قد قامت على التعددية والتبني النظري للتداول السلمي للسلطة ومع ذلك فقد كانت هناك ثنائية في المرجعيات التي بيدها القرار رغم الاتفاق على مجلس النواب كمرجعية مركزية , فقد حافظ كل من الجيش الشمالي والجنوبي على وجودهما كمرجعيات حقيقية اذا طرأ تنازع حول السلطةـ اضافة الى القبائل المسلحة والميليشيات التابعة للاحزاب ـ  وفجأة قفزت المرجعية العسكرية في الشمال والجنوب لتدفع بالاطراف السياسية المتنازعة لتفضيل خيار الحسم العسكري ولم يك مجلس النواب او الجمعية الوطنية التي لم تنعقد سوى شكل مهمش وتابع .
وكان لحداثة تجربة الديمقراطية والثقافة الشمولية للاحزاب التي استقتها من الفكر الاسلامي او الماركسي او الفكر الغير مكتوب للتصورات العسكرية , أن احزاب الائتلاف قد دخلت في خلافات حقيقية حول الدولة والثقافة والتعليم وتوزيع الثروة وليس في اجندة اي حزب او برامجه ان يتحول من الحكم الى المعارضة ومن ثم كان لأي خلاف ان يؤدي الى الصدام المسلح.
وقد اضاعت قيادة الحزب الاشتراكي تلك اللحظة التاريخية التي تجمعت حولها كل القوى الوطنية ووقعت وثيقة العهد والاتفاق في عمان وبدلا من البدء فورا بعودة الحكومة الى صنعاء لتطبيق الوثيقة بالتدريج طبقا للتنازلات التي تقدمها الاطراف المعنية ومواهب الحركة الوطنية في السير قدما الى أعلى خطوة خطوة ابتسر السيد علي سالم البيض كل ذلك بالتعسف والتراجع والتخلي عن الوثيقة والحركة الوطنية التي اغتربت وضاعت ومن ثم فتحت الابواب لتدخل منها الخيارات والحوارات التقليدية التي تقوم على اشهار السلاح والتفاني.

د. عبدالسلام نور الدين

لماذا فشلت الوحدة اليمنية ؟




 

آراء