مأزق العسكر

 


 

 

ما يحدث الآن من إحتقان سياسي في البلاد هو نِتاج لتنصُل المجلس العسكري من بنود الوثيقة الدستورية، وحسب المتوقع أن فريق الفرقاء يتوجس من تكوين المجلس التشريعي حال تسليم المكون المدني للحكم، حينها يمتلك التشريعي صلاحية سن بعض القوانين التي يمكنها أن تُدين بعض المؤسسات الموجودة المكونة للمجلس العسكري، لذلك تنطلق مخاوفهم من أن تكون هنالك قوانين تطالهم في مستقبل العملية السياسية، في كثير من الملفات التي يتصدرها ملف مجزرة الإعتصام.
ومن هذا المنطلق يسعى المكون العسكري إلى الخروج من هذا المأزق متخبطاً في خططه ، مثل تأزيم الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد، وبث الفتن العنصرية في بعض مناطق الهشاشة، بجانب إفتعال السيولة الأمنية التي روّعت معظم المواطنين، بما فيها مسلسلات داعش الإرهابية الوهمية وغيرها، مروراً بأزمة ميناء الشرق التي أمتد تأثيرها على البلاد كافة وعاصمة الفريقين خاصة، وألقتْ بظلالها على عاتق المواطن الذي يتزّيل قوائم اولويات هؤلاء، ونهايةً باعتصام القصر ، ولكن رغم كل ذلك لم يجد العسكر ردة فعل إيجابية من قبل الشعب، تصب في قالب تأييد هذه السيناريوهات الباهتة بمافيها مشهد تِرِك .
المراقب للاحداث الآنية إذا رجع بذاكرته قليلاً إلى بداية تكوين الحكومة الانتقالية، يجد هذا الرفض قديماً وليس وليد اللحظة كما تفاجأ البعض، وضمنياً كان حديث نائب المجلس يعني رفض العسكر لتسليم المكون المدني للحكم، عندما قال: (ليس من المنطق ان تأخذ قوى الحرية والتغيير نسبة 76% من المجلس التشريعي وتتحكم في الناس بمزاجها) ، قطعا هو يُدرك أن هذه النسبة لها الحق في تشريع قوانين ، وبموجبها يُحاسب كل من يستحق الحساب، وأضاف حميدتي مُحذرا (لن نُفرط في أمن البلد لزول إنتهازي مهما يكون مدعوم خارجياً) والمجلس العسكري ليس حزباً ولا يعمل للإنتخابات ولايريد أن يفرض رأيه حتى يتشبث بالسلطة، الآن السؤال الذي يطرح نفسه هو : هل العسكر يُراهن على دعم حزب المؤتمر الوطني وبعض الأحزاب المُهتزة، بجانب بعض الدويلات التى تساند الحكم العسكري، بالقيام على وأد المدنية؟
لا اعتقد ان هنالك إجابة غيرها، ولكن عادة يعتلي تفكير هؤلاء الخبث المسبق ما يجعلهم يجهلون أويتجاهلون ماحدث من تطورات في المشهد السياسي عقِبْ الإتفاق.
وفي الخصوص كرّس العسكر جهوده في التعاون مع الأحزاب الموالية له، عبر إختلاق أزمات سياسية وإقتصادية زادت من معاناة الشعب.
ولكن واقع الحال يفرض على رئيس الوزراء وحكومته الإستقواء بشعوب الثورة، فالمعركة معركة شعب ثائر، تدور تفاصيلها بين النظام السابق الذي يحكم بوجه آخر، وبين مسار الثورة الذي يدعو الى التحول الديمقراطي المدني، إذاً الأمر ليس قضية مطلبية لأقاليم محددة، ولا هو باعتراض علي إتفاقية جوبا التي تم تفعيلها في هذا التوقيت تحديداً، لإثارة الفتنة القبلية في مناطق الهشاشة، بل هو تمرير أجندة معينة لمزيد من التوتر والأزمات التي تُمهد لتفشيل الحكم المدني، ومن ثم الإستعانة بالعسكر حسب مايوحي لهم خيالهم الخصب.
وفي السياق يشير المشهد الراهن إلى أن العسكر أستمّد عافيته من أحزاب الخراب، التي أتاحت له سانحة تقاسمه الحكم مع المكون المدني من قبل، والآن التاريخ يُعيد نفسه، لإرجاع حكم المحاصصات وإدراج ممثلي ذات الأحزاب الهرمة في حكومة العسكر المنتظرة، وهذا هو ديدنها منذ الإستقلال وحتى اللحظة، يدفعون بالعسكر إلى منصة الحكم لحمايتهم، ومن ثم يتفق الطرفان على كيفية تقاسم السلطة والثروة وضياع وتدمير وتجويع الشعب ، هكذا يتكرر مسلسل الحكم في دولة السودان المنكوبة لأكثر من ستين سنة على التوالي.
ولكن مالا يُحسب له عند مُحبي السلطة هؤلاء ومجافي للوطنية، هو واقع تغيير بوصلة الشارع السوداني إلى ثلاثمائة درجة مئوية قبل وبعد ثورة ديسمبر، وماكان يصلح أمس من حزمة مؤامرات سياسية لا يصلح اليوم ولا غداً، لذلك عليهم جميعاً متابعة ومواكبة أفكار تلك الأجيال بشكل خاص، ولكن يبدو أن ذاكرة الساسة والعسكر عادةً تمتاز بالضحالة المُفرطة عكس ذاكرة الشعوب العميقة، والأخيرة لم ولن تنسى أوتتناسى مافعله حكم العسكر الإنقاذي من جرائم أخلاقية واجتماعية وسياسية في حق الشعب السوداني، بالإضافة إلى مجزرة الإعتصام المخالفة لكل قوانين الإنسانية، إذاً بمثل ما هم يفعلون المستحيل والممكن من أجل إزاحة المكون المدني من المشهد السياسي خوفاً من المحاسبة، بالمقابل هنالك من يطالب وبإستمرار لإبعاد العسكر من منبر السلطة نهائياً، ومحاسبة من يستحق المحاسبة دون استثناء، بجانب عمل لجنة إزالة التمكين القانونية في رصد المتورطين في جرائم الفساد التى أنهكت خزينة السودان، بالتالي علي هؤلاء أن يفكروا بشيءٍ من المنطق ويدعون هذا النوع الغباء المزمن جانباً، حتى لايحتمُون من هجير الرمضاء بلهيب النيران.
وفي اطار متابعة الأحداث الأخيرة، أيضا مايدعو إلى السخرية تصدّر قيادي بقوى إعلان الحرية والتغيير إعتصام القصر وهو يهتف مطالباً بإذاعة بيان، ماجعلني أتساءل أي بيان يقصده الهجو في هذا التوقيت، هل يقصد بيان إنقلابي لبرهان ؟ أم خذله التعبير ويقصد قرار حمدوك لحل الحكومة وإعلان حكومة جديدة؟ وهو ذات الهجو الذي كان يطالب بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة لمعرفة أسباب القصور في فض الإعتصام، وجاء ذلك في مؤتمر صحفي حينئذ وتساءل: أين كانت قيادات قوى إعلان الحرية والتغيير أثناء عملية فض الإعتصام ؟ ولم يتجرأ هذا الهجو آنذاك على طرح السؤال الأهم : ماهى الجهة التي قامت أو أمرت بفض الإعتصام؟ مضيفاً أن بعض قوى إعلان الحرية مارست الإقصاء لمكونات الجبهة الثورية، متناسياً أن الجبهة الثورية التي ينضوي تحتها، هى نفسها منضوية تحت كتلة نداء السودان وهى عضو في تحالف الحرية.
إذاً يشير ماأسلفناه عن هجو إلى إمتطائه مركبة العسكر منذ توقيع الوثيقة وحتى الآن، متصارعين على قسمة مقاعد الحكم وقضية الوطن والمواطن آخر أولوياتهم ، هؤلاء هم قائدو مسيرة السبت التي تطورت إلى اعتصام رتب له بغرض الإحتكاك بملونية ٢١ القادمة ، لذلك من الضرورة أن يعي الثوار هذه المؤامرة المكشوفة، ولا يقتربوا منهم أو من القصر نفسه ليس خوفاً من أصحاب الحناجر الجهورة، ولكن لتفشيل مخطط الانفلات الأمني الذي بموجبة سيتم إعلان حالة الطوارئ ومن ثم يتسلق العسكر إلى السلطة، ساعتها يتم تشييع جثمان ملف الحكم المدني والثورة ودفنه في مقبرة نائية.
من جهة مغايرة على معتصمي القصر المضللَّين الحذر من أن تتم التضحية بهم من قبل قيادات الأحزاب المشاركة بالإتفاق مع قيادات العسكر من مؤامرة شبيهة بمجزرة الإعتصام، حتى يتسنى للعسكر إعلان حالة الطواريء، وبعد ان يحدث مايحدث ينزوي الفاعل وتدرج القضية في أدراج المجهول كغيرها من الجرائم ضد الإنسانية، وهنا يصطاد العسكر عصفوران بحجر واحد، باخلاء الساحة السياسية لهم من ضجيج الأحزاب، وبالتالي الأنفراد بحكم البلاد، بالإضافة إلى تمزيق وثيقة الثورة الدستورية وضمان عدم محاسبتهم لاحقاً.
في ظل هذا الواقع الواضح الرؤية يتوجب على المكون المدني دعوة الشعب لإستئناف الحشد المليوني، إستعداداً لحماية مسار الثورة ومطالبها ، كون العسكر يفعلون المستحيل والممكن لتثبيط عزيمة التحول الديمقراطي المدني المتفق عليه مسبقاً، وفي ذات الوقت على الجهات النظامية القيام بواجباتها المنوطة بها بعيدا عن أسوار السياسة.

خالدة ودالمدني
٢٠٢١/١٠/١٨
almadanikhalda@gmail.com

 

آراء