مأساة دارفور … وإشكالية التعتيم الإعلامى
د. حسين أدم الحاج
7 January, 2009
7 January, 2009
helhag@juno.com
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
تمهيد:
فى عموده النشط "حديث المدينة" بصحيفة الرأى العام بتاريخ 9 أبريل 2004م, وفى مقال له بعنوان "دمعة لله يا محسنين", طالعته مؤخراً, علَّق الصحفى الجرئ عثمان ميرغنى على الحوار الذى أجراه حافظ الخير فى الرأى العام مع السيد محمد الغزالي الذي عاد من معتقل «غوانتنامو», وقد نفى السيد الغزالى خلال ذلك اللقاء أن يكون قد تعرض لتعذيب بدني أو نفسي خلال سجنه, وقال إنه قد سُمح لهم بأداء كل الشعائر الدينية وبصورة جماعية بما في ذلك صلاة التراويح في رمضان, وزاد بأنَّ المعتقلين كانوا يتمازحون مع بعضهم من الدول الفقيرة لأنَّهم لا يجدون في بلادهم التفاح والدجاج الذي كانوا ينعمون بأكله في معتقل «غوانتنامو, "وقال الغزالي إنَّ السلطات الأمريكية إعتذرت له عن فترة الإعتقال وبررت لهم الأمر بأنَّ ضربة 11 سبتمبر كانت من الثقل بحيث أملت عليهم مثل تلك الإجراءات", وبأسلوبه الرائع وفطنته المعهودة ربط عثمان ميرغنى بين ذلك من ناحية وبين ما يحدث فى العراق من جهة وبين ما يحدث فى دارفور من جهة أخرى فى مثلث من المناظر المتداخلة كالباروناما الحزينة جديرة بالتأمل والمراجعة, ويقول بأنَّه قد إستدرج تلك الصورة التى أملاها السيد الغزالى حين دار حديث بينه وأحد أصدقائه الذى بادره بسؤال فى الصباح الباكر منفعلا وهو يقول «هل رأيت في نشرات الأخبار كيف يموت العراقيون؟؟».. فردَّ عثمان على سؤاله بسؤال موازى.. "رأيتهم.. لكن هل رأيت أنت أو أي أحد في العالم كيف يموت السودانيون في دارفور؟؟" !!
يا لله! هذا سؤال كبير بقدر حجم دارفور... وحجم العالم كله! ولا يسأله إلاَّ صحفى صادق مع ضميره, محترم لقلمه, مهموم بقضايا شعبه, مترفع عن النفاق وبهرج السلطان, يصدع بالحق, وينهى عن الجور, ويؤمن بقيمة الإنسان وقدسية الروح. وتسلم يا أبو عفان.
لقد إستخدم عثمان ميرغنى قلمه الرشيق ليرسم لنا فاجعة مكتوبة, وليكتب لنا فاجعة مرسومة حين يقول: "صحيح رأيت في فضائية الجزيرة منظراً مؤلما لأطفال في المستشفى يعالجون من الجروح بسبب القصف لكني- أيضا- تذكرت أنَّ أطفال دارفور لا يجدون حتى المستشفى لأنَّ جميع ولايات دارفور ليس بها مستشفى واحد يشبه أسوأ مستشفى في العراق"!! (أ. هـ.). عفواً ومعذرة يا عثمان, لقد ظلَّ البشير ونائبه على عثمان يجادلان بحقيقة التنمية والخدمات فى دارفور متحَدِّين كل متشكك بأنَّ "الحساب ولد"! آهـ.. أى حساب وأى ولد يا هؤلاء؟
ثمَّ يمضى هذا الصحفى الصادق مع قراء عموده, ليضرب على وتر آخر أشدَّ حساسية على النفس حين يقول: "صدقوني لا أريد أن أقلل من الصور المؤلمة التي يراها الضمير العربي لما يحدث في العراق لكني فقط أطالب بأولوية وأسبقية الأحزان.. شعب العراق محظوظ لأنَّ كل فضائيات الدنيا بمختلف لغاتها هناك تنقل كل شئ للعالم.. ومحظوظ لأنَّ له مستشفيات يدخلها الجرحى.. لكن قرى كاملة في دارفور أزيلت من الوجود ولم ترها كاميرا واحدة ولم تذرف عليها عين واحدة قطرة من دمع..!!.. الرجل يصاب ويظل ينزف أمام أسرته كلها وليس في خيالها حتى مجرد صورة مستشفى يمكن أن ينقل لها" !! (أ. هـ.). لله درَّك يا عثمان ميرغنى, لقد أدمعت قلوبنا قبل عيوننا, ويكفيك هذا المنظر المكتوب كى تلخص فيه مأساة دارفور بحالها, هذه المناظر شهدها كل العالم, وشهد عليها بالحق والصدق الدكتور موكيش كابيلا لكن تعامى عنها أهل النظام ومحاسيبهم من الهتيفة وحارقى البخور.
ولكن عثمان لا يريد أن يتركنا لحالنا وما نحن فيه من فجيعة فيمضى محاولاً غرز الشعور بها فى قلب كل من ألقى السمع وهو شهيد, ويبذره فى ضمير كل من يتمتع بحب الإنسانية, ويستنصح بنفس لوَّامة, فيتساءل: "بالله كم قتل الأمريكيون من العراقيين في الفالوجة؟ وكم قتل من السودانيين في منطقة «بُرام» وحدها قبل أيام قليلة.. هل سمع أحدكم بـ «بُرام»؟؟.. هل تعرفون كم ماتوا وكيف؟ هل تعرفون كيف يموت الذي يظل ينزف لساعات بل أيام دون أن يجد حتى مجرد «ممرض» ليقدم له العلاج..؟؟ (أ. هـ.). نعم يا أخ عثمان, فهناك ليس "بُرام" واحد بل ثلاثة ألاف "بُرام" سويت بالأرض تماماً, واحدة بعد الأخرى, كما وصف الدكتور كابيلا, وهناك المئات من "بُرام" ظلت هانئة طوال دهورها على أطراف الجبال ومنحنيات الأودية وفيافى الخلاء, يأتيها رزقها غدقاً من السماء, لا يعرفون الفرق بين الخرطوم وبورتسودان فكلاهما بالنسبة لهم "دار صباح", أهلها متوكلون وقانعون بما قسم الله عليهم, إلى أن أتاهم رسل الموت بين دواهم الفجر وغسق الظلام وطير أبابيل, فمضوا لربِّهم وهم بين النوم والهجوع, أكثر من عشرون ألف روح, دون أن يحس بهم أحد إلاَّ خالقهم وحده. الله أكبر!
ثمَّ يتوشح الأخ عثمان رداء الحكمة والموعظة الحسنة, وهو من أهلها, فينصح ساخراً, وهو على حق, ويقول: "قبل أن يتلوعلينا أحد درجات القسوة التي يمكن أن يواجهها العرب والمسلمون المعتقلون في «غوانتنامو» هل بالإمكان أن يتلو علينا درجة الـ «لا» إنسانية التي يواجهها المواطن العربي والمسلم في بلده في أصغر معتقل فيه.. ليس بسبب الجرائم السياسية وحدها, حتى «حراسات» التحفظ المبدئية التي يساق اليها المتهمون في مراحل التحري الأولوية «جدا»؟ هي ضرب من السحق البشري الذي يجعل الإنسان العربي محطم النفس والوجدان", (أ. هـ.). وليسمح لنا الأخ عثمان أن نضيِّق هذه الدائرة الوسيعة لنحدد الرؤية ولنحصرها ما بين السودان ودارفور ونقتبسها مساجلة فنقول: "هي ضرب من السحق البشري الذي يجعل الإنسان السودانى عامة, والدارفورى خاصة, محطم النفس والوجدان", فذلك أقرب للفهم والإدراك!
ويختتم الأخ عثمان ميرغنى نواحه على أهل دارفور نيابة عن القلوب التى ران عليها الصدأ, والأعين التى غشاها الرمد, والآذان التى أصابها الصمم فلا تستمع إلاَّ لهدير اليانكى وتهديدات الكوفى عنانى, فيقول: "للذين أريد أن أبكي معكم على العراق.. لكن أولوية المصائب تلزمني أن أبكي أولا على دارفور.. أبكوا أنتم على العراق بعشر دمعات.. لكن على الأقل إمنحونا دمعة واحدة لدارفور.. أم إنَّ إنسان السودان- دائما- لا بواكي له..!! (أ. هـ.). حقاً, ولقد تساءلنا من قبل إن كان لأهل دارفور بواكى لهم أيضاً!
ليست هذه هى المرة الأولى التى يكتب فيها الأخ عثمان ميرغنى عن دارفور بل ظلَّ يكتب ويدق الأجراس منبهاً ومحذراً, لكن من يستمع؟ وفى مقاله أعلاه يريد الأخ عثمان أن يقول لنا "الأقربون أولى", وإنَّ " ظلم ذوى القربى أشدُّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند". لقد علقت الصحف السودانية أنَّ الخرطوم قد خرجت فى "يوم الغضب" صبيحة إغتيال إسرائيل للمجاهد الشيخ "أحمد يس" مؤسس ومرشد منظمة حماس الفلسطينية, وهم على حق فى غضبتهم تلك نشاركهم فيها بصدق, ونسأل الله للشيخ الرحمة وأن يتقبله قبولاً حسناً وإنا لله وإنَّا إليه راجعون, لكن هل فكرت جماهير الخرطوم فى أن تخرج فى "ساعة غضب" واحدة فقط على إغتيالات الآلاف والحروب والقصف الدموى التى ظلَّت تجرى فى ربوع دارفور وعلى مدى زمنى يناهز العام تقريباً, وهل علموا أنَّ من بين أولئك الموتى, الذين شاركوهم يوماً فى الإنتماء لوطن إسمه السودان, من هم فى مقام الشيخ "يس" يتلون القرآن بالروايات السبعة؟ ثمَّ هل يهون نفس على نفس؟ بمعنى هل هناك "خيار وفقوس" فى لائحة الحزن على الموت, نغضب لهذا ونتجاهل آلاف أخرى فى نفس الوقت؟ لقد حاولت روابط أبناء دارفور بجامعات العاصمة التعبير عن ذلك نيابة عن أهل الخرطوم وكل الشعب السودانى, وخرجت جموعهم هادرة لكن قوات الأمر إستخدمت معهم وسائلها المعهودة فى الإذلال, ثمَّ حاول هؤلاء الطلاب مرة أخرى مساعدة أهاليهم الذين نزحوا لأطراف العاصمة, نيابة عن أهل الخرطوم وعن كل المنظمات الطوعية التى تصف نفسها بالإسلامية, طالبين الأمن والأمان التى أخفقت الدولة فى توفيرها لهم حيث يقطنون, فطاردتهم نفس قوات الأمن وأمعنت مرة أخرى فى إذلالهم بل وقتلت منهم نفراً عزيزاً وكأنَّهم نكرات منكرة, ما أرخص روح الإنسان فى بلادى! هذا ما قصدناه فى مساجلتنا أعلاه يا أخ عثمان "هي ضرب من السحق البشري الذي يجعل الإنسان الدارفورى محطم النفس والوجدان"!
صور مشابهة:
وبمثلما إستدرج عثمان ميرغنى تلك الصورة التى أملاها السيد الغزالى وأخضعها فى قالب "عراقى-دارفورى" مشابه من حيث المظهر والجوهر فقد إستدرجنى ذلك أيضاً لإخضاعها فى "قالب إسرائيلى-دارفورى" متطابق من حيث التشابه, نعم فى "قالب إسرائيلى-دارفورى", ولا يهمنى إن قفز على عنقى من يتهمنى بالخيانة, كما إستعاذ بذلك الأخ عثمان ميرغنى نفسه فى مقاله أعلاه حين أشار إلى "أنَّ مجرد محاولة فعل ذلك تمنح شهادة «عمالة» مستعجلة على عادة الضمير العربي الذي يستسهل الألقاب والخيانة". ما علينا, لكن أرجوهم قبل أن يفعلوا ذلك أن يتذكروا أنَّ وزير إنقاذى ما زال يتمتع بالجلوس على كرسيه الوثير قد تنادى علناً, وفى مؤتمر عام, قبل أشهر قليلة بضرورة الإعتراف بإسرائيل حتى يتسنى للحكومة الخروج من المأزق الأمريكى! (هكذا), وإلى هذا الحد, وفى عاصمة اللاءات الثلاثة!, ما أسهل رفع الشعارات, فلقد صدقنا ذات يوم أنَّ أمريكا قد دنا عذابها! وعلى العموم أدعوكم إلى تأمل هذه الصور المقارنة, والأخرى المغايرة, من حيث التشابه أو التضادد ما بين الواقعين الإسرائيلى والدارفورى وأترك الحكم النهائى على القارئ:
* فى إسرائيل يتم قمع الفلسطينيين أصحاب الأرض... وفى دارفور يتم قمع المواطنين من الأهالى أصحاب الأرض!
* فى إسرائيل يتم قلع أشجار الزيتون وتدمير المزارع... وفى دارفور يتم قلع أشجار الفاكهة وحرق المزارع!
* فى إسرائيل تتم مصادرة موارد المياه... وفى دارفور يتم تدمير مصادر المياه ودفن أو تسميم مياه الآبار!
* فى إسرائيل يتم القصف الموجه بأشعة الليزر... وفى دارفور يتم القصف العشوائى بطائرات الأنتينوف ومدرعات الهليكوبتر!
* فى إسرائيل يتم تدمير المبانى بتفجيرها ودكَّها بالبلدوزرات... وفى دارفور يتم تدمير المنازل والقرى بحرقها وتسويتها بالأرض!
* فى إسرائيل يتم تهجير الفلسطينيين من أراضيهم ونزعها... وفى دارفور يتم طرد المواطنين وإجبارهم على النزوح من أراضيهم إلى أطراف المدن والبلدات الكبيرة أوعبر الحدود إلى معسكرات اللاجئين بقصد الإستيلاء على الأرض!
* فى إسرائيل تتم الإغارة على اللاجئين فى معسكراتهم وقتلهم... وفى دارفور يتواصل هجوم الجنجويد على اللاجئين فى معسكراتهم عبر الحدود وقتلهم ونهب حيواناتهم!
* فى إسرائيل يتم إغتيال الفلسطينيين عن طريق القصف الجوى وعلى مرأى من العالم... وفى دارفور يتم حصد الأبرياء والشيوخ عن طريق القصف الجوى بعيداً عن أعين العالم (أم غُمتى)!
* فى إسرائيل يتم إستنكار ما يحدث من بعض جماعات السلام... وفى دارفور يدخل الإستنكار فى قائمة الممنوعات!
* فى إسرائيل تعترف الحكومة ما تقوم به وتدافع عن أفعالها... وفى دارفور تتجاهل الحكومة ذلك, وتنكرها, وتغضب إن كشف عنها آخرون!
* فى إسرائيل رفض طيارون قصف الفلسطينيين فإعتبروا ذلك "حرية رأى"... وفى دارفور رفض طيارون قصف القرى وإبادة الأبرياء فلفقوا لهم تهمة مؤامرة إنقلابية وإتهموهم بالعنصرية وتم القبض عليهم وفصلهم من الخدمة العسكرية تمهيداً لمحاكمتهم!
* فى إسرائيل تتحدث وكالات الإعلام عن أى تجاوزات بحق الفلسطينيين... وفى دارفور تقف الحكومة بالمرصاد لكل جهاز إعلامى يتجرأ لنشر ما يحدث من تجاوزات بحق الدارفوريين, فلقد:
(1) أوقفوا صحيفة الأيام لعدة أشهر لنشرها خبراً عن مذبحة بزالنجى ولم يسمحوا لها بالعودة إلاَّ مع إقتراب موعد إنعقاد مؤتمر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بجنيف!
(2) قفلوا مكتب قناة الجزيرة بالخرطوم وتم إعتقال مديرها وأودعوه السجن لبثها برنامجاً من أربعة حلقات بعنوان "الحريق" عن مآسى دارفور!
(3) أصدروا قراراً رسمياً لكل أجهزة الإعلام بالإمتناع عن تناول قضية دارفور!
(4) إنتقدوا تغطية الإعلام العالمى لأحداث دارفور!
(5) ضاقت صدورهم ببيانات المنظمات العالمية والأمم المتحدة فإتهموها بالكذب والتدليس والنفاق!
فى إسرائيل كل شيئ بالواضح وفى وضح النهار (والواضح ما فاضح) أما فى دارفور أو السودان فكل شيئ فى السر وفى جنح الظلام, ولم يدرك هؤلاء أنَّ "السترة والفضيحة متباريات" إلى أن إنكشف كل ما حدث لمتنفذى النظام العالمى الجديد فإذا بهم فى هذه "الجقلبة" ومحاولة دفن الحقائق وطمس الأدلة!
صراع الحكومة فى اللجنة الدولية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة:
حكومة الإنقاذ, ومنذ إستيلائها على السلطة قبل نحو خمسة عشر سنة, ظلَّت لا تخرج من صراع مع المجتمع الدولى إلاَّ وتدخل فى غيره ولسبب بسيط هو سياساتها تحديداً. واليوم مهما تحاول الحكومة أن تحتفل بنجاتها من شرك إدانتها (وهى عملية نادرة) فى مؤتمر اللجنة الدولية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. والتى إنتهت مؤخراً بجنيف, إلاَّ أنَّ وصول القضية إلى تلك المراحل المتقدمة, وما ستعقبها من ردود فعل دولية قاسية فى طور الإعداد, تعتبر إدانة لها فى حد ذاتها, ولذلك يتعجب المرء عندما يطالع عنوان الخبر فى الصحف السودانية فى صيغة مثل "السودان ينتصر في لجنة حقوق الإنسان بجنيف بأغلبية كاسحة" أو "واشنطن تفشل في فرض قرار يدين الخرطوم" (الأنباء 23/4/2004م), إذ نعتقد بداية أنَّ إيراد عنوان الخبر بتلك الصيغة يتضمن ضبابية وتمويهاً للحقيقة التى لا يستطيع أركان النظام تقبلها, أو حتى الإعتراف بها, متمثلة فى أنَّ محاولة الإدانة, حتى وإن لم تحدث, تظل لا تشكل إلاَّ محطة واحدة فى سلسلة حلقات الإدانة الدولية المتصلة بالقضية, والتى وصلت مستوى التهديد بالتدخل المباشر عبر القوة العسكرية لإنقاذ حياة الأبرياء من الهلاك ومن أعلى جهاز دولى يحكم سلوك العالم, السكرتارية العامة للأمم المتحدة ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية (طرفى النظام العالمى الجديد), ولذلك لم يصدق أهل النظام (ولا نقول الشعب السودانى) أنَّهم نجو من طوق الإدانة بالفعل خاصة وأنَّ وزير الخارجية دكتور مصطفى عثمان إسماعيل نفسه قد إستبق مناقشات المجموعتين الأفريقية والأوربية بتصريحات لم ينح فيها إحتمال إدانة الحكومة وإخضاعها للبند التاسع متوقعاً أن يفوز الموقف الأوربي بأغلبية ضئيلة، وقد حاول سيادته تهوين الأمر على أنصاره, فيما لو كانت الإدانة قد تمت, بوصفه لها أنَّ الخسارة فيها تعد مكسباً!, وأنَّ فوز المقترح الأوربي قد يقوي موقف الحكومة بكسبها دعم المجموعة العربية والأفريقية والآسيوية والإسلامية مما يعد في حد ذاته جرحاً في المشروع الأوربي! (الأضواء 22/4/2004م), نعتقد أنَّ هذا التفسير يحمل إعترافاً مبطناً بثبوت التهمة ومن ثمً توقع الإدانة, بجانب أنَّه لا يمثل إلاَّ لي لعين الحقيقة وذر الرماد فى العيون, وهى سياسة درجت عليها الحكومة منذ بواكير أيامها. ولعلَّنا نجد, من جهة أخرى, أنَّ وكالات الإعلام الأجنبية قد إتصفت بموقف متوازن فى إيراد نفس عنوان الخبر أعلاه إذ أوردته قناة الجزيرة فى موقعها بشبكة الإنترنت بصيغة "السودان يفلت من إدانة أممية بسبب الوضع في دارفور" (الجزيرة نت 23/4/2004م), وهى فى ذلك تلتزم الحقيقة وتعطى للعنوان دلالات أعمق من عبارة "السودان ينتصر", فقد يكون النصر فى بعض الأحيان معبقاً برائحة الهزيمة وطعم الإنكسار, كما هو الشأن فى مآلات هذه القضية.
من جانب آخر يجب علينا أن ننظر لطبيعة ذلك الصراع الذى خاضته الحكومة, مستنصرة بالمجموعات الأفريقية والعربية والإسلامية والآسيوية, من زاوية المستقبل, فهذه المجموعات كلها, وحتى ولو تضاعف عددها, سوف لن تستطع أن تنال شيئاً من قدرة الطرف الذى ناكفوه بغير علم أو معرفة بحجم الكارثة التى حدثت فى دارفور, ممثلة فى الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبى, واللتان, ويا للغرابة, تعتمد عليهما الحكومة السودانية إعتماداً مطلقاً فى حلحلة قضاياها المعقدة, وتستكين لأحكامها فى نيفاشا, بل وتستعين بهما حتى فى إطعام شعبها الجائع المشرَّد, فكيف بها تصارعها اليوم ثمَّ تمد لها يديها غداً لإغاثتها؟ لقد شدد القائم بالأعمال الأمريكى بالخرطوم جيرارد غالوشي في محاضرة مغلقة مع إدارة وأساتذة جامعة الخرطوم فى شهر مارس الماضى على أنَّ بلاده مع وحدة السودان وقال بالحرف «نحن لا نريد تقسيم السودان إلى شمال وجنوب ولو كنا نريد ذلك لفعلناه منذ وقت بعيد»! (الشرق الأوسط 23/3/2004م) فهل يقرأ مهندسو الدبلوماسية السودانية مثل هذه الإشارات بوعى وعقول مفتوحة, خاصة من ناحية المستقبل القادم, والذى قد يحمل مناصرو سياسات مادلين أولبرايت وسوزان رايس إلى دهاليز البيت الأبيض مرة ثانية, وما يتضمنه ذلك من سياسات قد تنحو بقوة لفصل البلاد التى تتهيأ بالفعل لذلك الإحتمال, فلو تمكن الديمقراطيون من الصعود للبيت الأبيض فى ظل تداعيات ما يحدث بالعراق والحسابات المؤجلة مع الحكومة السودانية منذ عهد كلينتون فماذا ستفعل الدبلوماسية السودانية حينذاك؟
إنَّ الحكومة يجب ألاَّ تزن الأمور بمعيار المنتصر والمهزوم, وأن تبتعد قدر الإمكان, كما قلنا سابقاً, عن إتباع سياسة المناكفة و"الفتوات" فليس لديها ولا لشعبها القدرة على ذلك, وأخيراً يجب أن تعلم إنَّ الإنتصار الحقيقى يتمثل بمدى رفعة هذا الشعب الذى أنهد كاهله من عذابات سياساتها الجائرة وظلمها المطلق بغير حق, مثل الزيادة الأخيرة فى أسعار البنزين دون مبرر مقبول أو حتى مجرد الإعلان عنها, فيجب عليها إحترام هذا الشعب الذى ظل يقبع فى الدرك الأسفل من الإنحطاط, فهو الآن فى القعر ليس تحته تحت!.