ماذا بعد إعلان نتيجة التزوير؟ … بقلم: صلاح شعيب

 


 

صلاح شعيب
28 April, 2010

 

 

هناك خلل ما في العمل الجماعي المعارض. هذا الخلل إذا تم النظر إليه بزاوية فهو طبيعي. وإذا تم النظر بزاوية أخرى فهو غير طبيعي. كيف؟ أجل، نحن نعرف أن التنظيمات السياسية محفوفة تاريخيا بخلافات، وإختلافات، في نهج العمل السياسي، وفي رؤيتها التقيمية للقضية السودانية. الحزب الإتحادي مثلا لديه منهجه الداخلي الذي يرى به حاضر، ومستقبل، القضية خلافا لما يرى حزب الأمة. والأمر يتعقد أكثر حين مقاربة حزب التفكير الماركسي بطريقة تفكير ومنهج المؤتمر الشعبي الأصولي، والذي يقاسم الماركسيين مشقة إزاحة صخرة سيزيف بأقل الخسائر.

فضلا عن ذلك فأن لكل تيار آخر أجندة، وأولويات، تختلف عن التيار الآخر. فالحركة الشعبية، مثلا، تتمثل أولوياتها في تحقيق الإنفصال بعد نضوب الأمل، بينما يرى الحزب الإتحادي أن أولويته وطريقته في العمل، على غموضها، هي توحيد السودان برغم صعوبة المهمة، وشقاءها، عند ظروف كل شئ فيها هو ضد حلم الوحدة، حتى المؤتمر الوطني الذي قدم بعض قرابين من الشباب قنع بهذا الأمر.

وهكذا تتباين التيارات السياسية في أهدافها وتصوراتها تباينا يكاد يغني أي ملاحظ لتاريخها عن فائدة تحالف هذه التيارات مجتمعة لحمل النظام القائم على تحقيق شروط التحول الديمقراطي، وبقية المطلوبات. إذن من هذه الزاوية يتعمق الخلل بتعمق الأجندات، والأولويات، وطرق العمل. وربما يذهب المرء بعيدا للقول، على نهج الدارسين لا الصانعيين للتغيير، إن هذا التباين الآيدلوجي عامل مؤثر، وأساسي، في وصول القضية السودانية إلى هذا المنعطف الحاسم. أي أنها تأزمت بتأزم المنعطفات السابقة، والتي فيها حدثت تغييرات راديكالية في بنية الواقع السياسي، والإجتماعي، والثقافي، والتجاري، إلخ. فمنعطفات أنظمة (نوفمبر، ومايو، ويونيو) هي، بشكل أو آخر، جاءت ضمن ثقوب ذاتية وموضوعية لهذه التيارات، بما فيها التيار الذي يستأسد على طريقة حماية الدولة المركزية الآن.

إذا حاولنا تجاوز التاريخ المشترك لهذه التنطيمات المعارضة للسلطة القائمة الآن، وقلنا إنه ما كان ينبغي أن يكون هناك خلل في عملها الجماعي، فإن السبب هو فداحة الأعباء الملقاة على واقعنا ما يتطلب الأمر الوصول إلى حد أدنى من الإتفاق الذي يحمل الحكومة للإستجابة إلى تطلعات هذه التيارات، وهي في خاتم المطاف تطلعات الشعب السوداني ما دام أن هذه التنظيمات تمثل همومه، وتناضل بأسمه.

هكذا كنا نتابع، ونراوح، ما بين القناعة بخلل الهدف المعارض والقناعة بلا خلله. والكاتب بوصفه جزء من تيار التغيير ظل يتابع مثله مثل الآخرين الكيفية التي بها تحاول التيارات المعارضة إحداث التغيير منذ بواكير الإنقاذ حتى الإنتخابات الأخيرة. وآلم الكاتب أن خلل العمل المعارض إنتصر على رغبته الداخلية بأن تتسامى هذه التيارات فوق أجندتها لتواجه المؤتمر الوطني عبر خوض الإنتخابات.

ولتبيان الأمر أكثر فأن هناك ثأرات، ومكايدات، وغبائن، و(غيرات) تاريخية تضرب تيارات التغيير سواء إجتمعت في عمل حكومي، أو معارض، وحتى إن لم تجتمع ستظل هذه المثالب السياسية كامنة. وعلى الناحية الثانية هناك مستحقات وجودية وسياسية تفرض ـ من الناحية النظرية ـ على هذه التيارات أن تتوحد من أجل التقوي ضد غول الإنقاذ الذي يريدها مفترقة ليبتلعها، واحدة إثر الأخرى، أو مجتمعة.

محاولة البعض للقول، بناء على فشل تحالف جوبا، إن لا فائدة لتوحيد العمل المعارض، والأحزاب التي تركبه هي بهذه الحمولات التأريخية الضارة، ليس من النقد البناء في شئ. فالأحزاب في كل الديمقراطيات، والديكتاتوريات، تختلف، وتأتلف، ولا تعدم التباينات الفكرية الحادة، وأنها تفشل أحيانا في حل القضايا حين تدير حكومة ما، وتفشل أحيانا حين تنسق لمقاومة الديكتاتورية. وأحزاب السودان ليست بدعا في أمر إختلافاتها، وتكتيكاتها، ما دام أنها أحزاب، حيث تتقاطع التصورات السياسية جذريا، وتختلف البرامج والقناعات الوجودية، والسياسية، والتركيبية. وفي ظروف السودان الذي ليس هناك ما يجعله بلدا غير متخلف يكون جنس الأحزاب من جنس هذا التخلف، التخلف على مستوى البرامج، والأفكار، وأحلام الشخصيات القائدة، وتخلف العضوية، بالإضافة إلى تخلف أوضاع المدن والريف.

الإخوة الجمهوريون لديهم تصورات مبدئية حول التغيير. فهم يرونه داخليا قبل أن يكون خارجيا، بمعنى أن لا صلاح للفرد إلا بصلاحه وتقواه أولا، وأخيرا. ويستطردون أن التغيير الذي تحتاجه المجتمعات المسلمة، عموما، يبدأ من الفرد حتى إذا إستقامت نواياه، وشكمت مطامحه، غاصت شروره، وإستبانت أوضاعه، وإنعدلت طبيعة الأنظمة التي تحكمه تبعا. وهذه القناعة تتقاطع مع الآية الكريمة: (إن الله لا يغير بقوم حتى ما يغيروا ما بأنفسهم). كل هذه المبدأيات النورانية، والآي المحكمة، والأحاديث العرفانية، مفهومة في إطار أن جزء من كفاح الفرد ينطوي على هذه الإستقامة الروحية. ونتفق مع هذا القول، وأكثر من ذلك نتفق أن هذه القيم التي تحض على نكران الذات هي التي أوجدت المجتمعات المتقدمة، وإلا عاثت في الفساد، وتقطعت بحادثات الحروب الأهلية،، ثم صار واقعها أقرب إلى واقعنا الذي تتخاطفه مطامع القادة، وضعف همة المقودين.

ولكن العمل السياسي، مع نبل تلك القيم النورانية، لا ينتظر صلاح الفرد حتى ينصلح طرديا. الناس في المدن المكدسة بالهاربين من الريف البعيد يدركون قيمة، وإهمية، وضرورة، إنصلاح حالهم الداخلي بينما أن الواقع العصي يضغط بناحية عجالة تحقيق إحتياجاتهم العملية، ويريد الناس، أيضا، أن يجدوا عونا من السياسيين الذين يحققون لهم بعض التطلعات التي لا ترتجي التسويف المثالي. إضافة إلى ذلك فإن هناك ضرورات يومية يكد الإخوة الجمهوريون لإنجازها، ولا أخالهم ينتظرون إنصلاح واقع الناس حتى يحظوا بهذه الإحتياجات. فحسبهم أن يسعوا كفاحا لنيلها، وهكذا هم الناشطون في العمل السياسي، والمفترشون لهجير النزح. إنهم يكدون مع أخوانهم الجمهوريين صباح ومساء لتغيير أوضاعهم الحياتية. وإذا وجدوا في قارعة الطريق الرجل الحكيم الذي يقنعهم بالتخلي عن مطامع الذات فإنهم سيحاولون قدر الأمكان تمثل نصح هذا الحكيم الذي يعجز أن يوفر لهم عشاء زغب الحواصل، أو الأمن للوصول إلى معسكرات النازحين بسلام.

هكذا الحياة، تقوم على مبدئيات جوهرية، وتقوم أيضا على إحتياجات آنية لئيمة. وبنو آدم تتقازفهم أمواج المثال الشفاف، ومغريات الواقع الممكن. وبين هذا البرزخ وذاك يحاولون الإعتدال بقدر الأمكان. وهكذا هي أحزابنا، بالضبط. لديها، مهما إختلفنا معها، مثلها، وقيمها، التي تريد أن تقعدها على مستوى الواقع. ولكن للواقع اسسه ما فتئ يسير بغير هدى الآيدلوجية والقيمة الموحية، وما برح يؤثر على حامل الآيدلوجية نفسه، وأحيانا يغريه لقنص الكسب الذاتي، وليس الجماعي، كما فعل فتحي شيلا، وتيسير مدثر، وجلال الدقير، ونجيب الخير، والقائمة طويلة، ومسيخة.

مبدأ المعارضة السياسية في الأنظمة الديكتاتورية هو أن يتحقق النظام الديمقراطي أولا إذا كان وجوده يعطي الأحزاب المتحالفة لهذا الهدف الفرصة لتحقيق برامجها. ولكن للأسف ظل هذا الهدف محل شد وجذب إلى أن جاءت الإنتخابات لتشكف لنا أن الأجندة المختلفة هي قاصمة الظهر التي جعلت الحركة الشعبية تشرق في أهدافها. وجعلت، أيضا، الحزب الإتحادي، والمؤتمر الشعبي، والتحالف (جناح عبد العزيز خالد) لم يتخذوا موقفا إلا وهو أبعد عن الحكمة السياسية، وأن الحزب الشيوعي، وحزبي الامة (جناح الصادق، ومبارك) وحزب البعث وأحزاب أخرى تمترسوا دون المشاركة في الانتخابات. وبعيدا هناك تدافع المستقلون، والمايويون، للتنافس في الدائرة الرئاسية والدوائر الجغرافية. وأبعد هناك يجلس المسلحون قبالة المدن!

الآن نحن أمام واقع جديد لن يكون كسابقه على الإطلاق. فالمؤتمر الوطني أعلن نتيجة تزويره على الملأ غير عابئ بأي شئ بينما لم تتضح بعد الكيفية التي تتعامل بها كل هذه النثارات المعارضة مع الموقف، حيث في قريب النفق ستنفلق كرة السودان إلى دولة جنوبية، وأخرى شمالية. فهل في موقف كهذا ينطرح سؤال مبدأ المعارضة، أو معارضة المبدأ حتى نجتر سؤال (إصلاح الفرد أولا أم الدولة؟).  

ليس هناك من نصح يمكن أن يسديه المرء للسلطة، فمتى أرخت آذانها لنصيحة كاتب لا يملك خنجرا حتى؟. إنها لا تعترف إلا بمن يرفعون في وجهها السلاح، أو الذين يريدون أن يقاسموها الكيكة نفاقا، فتأمل بالله. ولكن نصحنا لقادة وناشطي بلادنا أن لا يعارضوا مبدأ ترميم تحالف جوبا، بكل تخاذلات عضويته. فلا شئ يخيف السلطة إلا تجمع إرادات الذين يعارضونها. لقد كان التحالف تجربة محكومة بخللها الطبيعي، وغير الطبيعي. ومع ذلك شكلت صداعا دائما للمؤتمر الوطني لم يتجاوزه إلا بعد تباين المواقف. ومن أدرانا، فربما ينتج التحالف في مستقبله عملا معارضا يستفيد من أخطاء الماضي، ويملك هذه المرة مفاتيح اللعبة السياسية بكل إحتمالاتها. 

 

نقلا عن الحقيقة

 

 

salah shuaib [salshua7@maktoob.com]

 

آراء