تمر في يوم 14 مارس من كل عام ذكرى وفاة المفكر البارز كارل ماركس. وقد مرت في مارس الماضي الذكرى الرابعة والثلاثون بعد المئة لوفاته. معلومٌ، انه ما انشغل العالم بمفكر في التاريخ الحديث مثل انشغاله بالمفكر كارل ماركس. فباسمه تفجرت ثورات، وتحت راياته قامت دول، بل وانبنت امبراطوريات. امرٌ وصل او كاد الى مصاف ما تم باسم الأديان، او الحركات الاجتماعية الكبرى في تاريخ العالم. وددتُ، وفي ظل العودة الجارفة والباهرة، اليوم، لماركس ولفكره بعد الازمات التي حاقت وتحيق بالعالم الآن، وددتُ ان تنحاز هذه الكتابة الي صف الخروج عما هو مالوف من كتابةٍ حوله. وذلك بان تكون هذه الكتابة عن ماركس الانسان او الكائن الاجتماعي اليومي، أي الطفل الذي نشأ بين سبعة من اشقائه وشقيقاته في إحدى عوائل الطبقة الوسطى في القرن التاسع عشر، الطالب المشاغب، الذي قضى ليلة في الحبس لا لسببٍ سياسي وانما لشقاوة الشباب و"الفتونة"، الشاعر الذي ضل طريقه واسرته غويات أُخر، الحبيب الغيور والاب المحافظ لدرجة التخلف، بالرغم مما اضافته افكاره لقضية التحرر الانساني، والرجل العنصري بحق في بعض من تعامله، كصديقٍ وكعدوٍ، بالرغم من ضخامة اثر افكاره التي احتلت حجر الزاوية في مسيرة الاستنارة عبر التاريخ الانساني المعاصر. إن المعادل لـ "كتابة الخروج عن صف المألوف" او ما معنِيٌّ بها، هو "كتابة السيرة الحميمة" لماركس، كانسان. وهنا يتفق الباحثون والمفكرون بان في ذلك، ومن جانبٍ مغاير، إستكمالٌ لما هو مالوف عنه، اي أن فيه استكمالٌ للكتابة التي حول افكاره، إن كانت في الاقتصاد السياسي أو في الفلسفة، أو في غيرهما. ولد كارل ماركس في الساعات الاولى من صباح الخامس من مايو 1818 ، في الساعة الثانية صباحاً، بمدينة تريا (Trier) في منطقة الراين البروسية سابقاً، والتي تعتبر من اقدم المدن الألمانية. فبالرغم من صغرها كان من الممكن ان تكون "فاتيكان" المانيا، بها مبنى او قلعة بورتا نيقرا Porta Nigra ذات المعمار المتميز، التي شيدها الرومان في القرن الثالث الميلادي. فهي مدينة خلّابة وآسرة، كان لها الاثر الكبير في تشكيل خيال الطفل ماركس. تميزتْ هذه المدينة بصفتين لم تحظ بهما اي مدينة المانية اخرى في ذاك العصر، وهما، انها كانت تعج بدور العبادة المختلفة من كنائسٍ ومعابدٍ واديرة، كما وانها كانت مدينة تجيد صناعة النبيذ. وقد خلدتها اشعارٌ مجيدة في القرون الوسطى، حيث تقول إحداها: "حاضرة تريفس، يا اكثر المدن جمالاً أنت، يا منْ ترعين العنب، مبعث الفرح عند باخوس تمنحين لأهليك النبيذ، واهب العذوبة الطاغية". (باخوس هو إله الخمر في مثيولوجيا الإغريق). وقد كتب احد المهتمين بسيرة كارل ماركس قائلاً، "إنه، وفي شباب ماركس، بل ولقرونٍ طويلةٍ سالفة، كانت وما زالتْ روح "باخوس" تحلق فوق مدينة "تريا"!. (هناك وقوف طويل وحميم حول ذلك في الكتاب). جاء ماركس منسلاً من تاريخ ديني مجيد، حيث يرجع توارث القيادة الدينية اليهودية والكهانة في عائلته إلى نحوٍ من نيفٍ وثلاثمائة عام. فقد كان سلفه الاكبر "مايير بن يزاك" والذي عاش بين 1482 و1565، كبير الاحبار او ان شئت رئيس القساوسة في منطقة فينيس-بادوا، في ايطاليا، وذلك قبل ان تنتشر العائلة على طول دول اوربا القروسطية. لم ينقطع توارث الكهانة في سيرة العائلة ولم ينحدف إلا عند وصوله لوالد كارل ماركس، أي هنريك (هيسكل) ماركس، ذلك المحامي المتأثر بانعكاسات نتاج وثقافة عصر التنوير، حيث اصبحت ريادة العائلة الدينية لدى اخيه الكاهن او الحاخام صمويل ماركس. تنصَّر هيسكل ماركس، ليصبح هنريك ماركس، ونصَّر معه بقية افراد اسرته!. (وتلك قصة اخرى توقفنا عندها بالتحليل في الكتاب). ويشير احد مُتَعاطي سيرة ماركس ايضاً الى ان ماركس كان قد تحاشى التطرق الي هذه السيرة الدينية الطويلة الوطيدة لعائلته، والتي كانت حتى على مستوى مدينة "تريا" ترجع سيرتها في القيادة الدينية اليهودية والكهانة، وحسب المخطوطات اليهودية الموجودة، الى العام 1657، أي قبل مولد كارل ماركس باكثر من قرنٍ ونصف من الزمان!. كان هنريك ماركس و هنرييت ماركس، والدا كارل ماركس، يتفقان حول تميز ملكاته الخفية، والتي لم يظهر ما يوكدها، حتى وهو في المرحلة الثانوية. فقد كان طالباً متوسطاً وعادياً ما عدا بعض اللمحات النَّامةِ في كتاباته النصية!، والتي استرعت إنتباه واحدٍ من اساتذته!. وصفه بعضٌ منهم في تلك المرحلة بانه لم يكن مهتماً بما هو اكاديمي!. ولكن والديه كانا على يقين من نبوغه، وعلها تلك كانت حاسة الوالد تجاه "الجنى"، والتي ترى ما وراء الحجب!، كانا يصفانه بـ "الطفل المحظوظ"!، بل ان والده كان يعتقد "تحبباً" في انه "مسكون" أو "مقرون"!، وذلك لذكائه. وكان يرى ان ذلك سيؤهله ليقتفي أثره، كمحامي، بل وليكون ً أكثر ذيوعاً منه، كما وان والدته، والتي كانت على حظٍ قليل من التعليم، تعتقد بان ذكاءه سيجعل منه رجل اعمال ناجح ومالك لثروة عريضة. وهو إعتقادٌ لازمها طويلاً، ولكنها وبعفوية صادقة لخصتْ حسرتها في عدم تحققه في قولها عندما تناهى اليها خبر إنشغال إبنها ماركس بالكتابة والإعداد لمؤلفه الشهير "رأس المال"، حيث قالت: "لو عمل كاريل راسمالاً بدلاً من الكتابة عنه".(كانت تنطق اسمه "كاريل" عوضاً عن "كارل"، لانها لم تكن تجيد اللغة الالمانية، وانما لغتها هي الهولندية). لا احد يدري ما كانت ستقوله تلك الام التي خاب املها في "الابن الكبير"، لو انها حضرتْ الزلزلة التي تبعت نشر ذلك الكتاب "العجيب"!. توفت والدة ماركس في عام 1863، وكان أن نشر هو مؤلفه في العام 1867. لم يحقق ماركس لا رغبة ابيه ولا توقع امه، اي انه لم يفعل لا هذا ولا ذاك. بل، وحتى في إيابه من رحلة الشعر التي كان عازماً على الذهاب فيها لنهاياتها لم يرجع منها بغير بعض الاشعار، ولكنه، وعلى اية حال، ظفر بحبيبته التي اصبحت زوجه واماً لاولاده، ألا وهي السيدة "جيني فون ويستفالين"، تلك المرأة ذات الجذور الأرستقراطية، التي لازمته ورافقته بصدق في رحلة الحياة الصعبة التي عاشها واسرته، وطويلاً، تحت ظلال المسغبة. إن اهم الجوانب الانسانية لماركس تكشفت من خلال علاقته برفيقة حياته "جيني"، ومن خلال علاقته، كأبٍ وكصديقٍ، ببناته. وتلك هي الجوانب التي يجب ان تكون جزءاً اصيلاً من مادة الكتابة المغايرة في شأن الاحتفاء بحياة كارل ماركس، وفي ذكرى وفاته. _______________________________________. (*) مقتطف من كتاب تحت النشر، بذات العنوان. يصدر في الولايات المتحدة.