ماكس فيبر في الخرطوم: الديمقراطية أم الدولة؟ (2-2)

 


 

 

عبد الله علي إبراهيم
جاءت مينا العريبي رئيسة تحرير مجلة "الناشيونال" بأبوظبي، في لقاء أخير لها مع فريد زكريا بالـ"سي أن أن" بفكرة عن السياسة الأميركية في المنطقة العربية نافعة في تحليل الحرب المشتعلة في السودان. فذكرت مواجهات أميركا الراهنة مع الجماعات المسلحة من غير الدولة (الحوثيين، الحشد الشعبي العراقي، حزب الله) لتقول إن على أميركا أن تقدم في سياساتها الخارجية وجود الدولة-الأمة نفسها على ما سواه. ونفع هذه العبارة للسودان في حربه القائمة عظيم لأنه حتى أكثر المتفائلين يكاد يكون فرغ من أن دولة السودان إلى انهيار قريب.
فليس واضحاً في السياسة الأميركية أنها جعلت من الدولة مركز دائرة سياساتها الخارجية. فبقول الرئيس بايدن إن "السياسة العالمية نزاع بين الديمقراطية الليبرالية والطغيان" وضعت أميركا الديمقراطية في ذلك المركز نجحت في المسعى أم لم تنجح. فاكتفت في التعامل مع هذه الكيانات المسلحة من غير الدولة بالجزرة والعصا. فتسمي الجماعة إرهابية وتفرض مقاطعتها ثم تترك العصا إلى الجزرة في توقيتها المناسب. فكانت فرضت المقاطعة على الحوثيين ثم رجعت عن ذلك في يناير 2017 على عشم استصحابهم في جهود السلام في اليمن
وهنا قد يسعفنا ماكس فيبر، عالم الاجتماع الألماني (ت1920) في النظر إلى النزاع السوداني الذي لم يعد عن الانتقال الديمقراطي في سياسة أمريكا حيالناـ فأكثرنا تفاؤلاً يرى في الحرب القائمة خراب الدولة السودانية.
كان فيبر عرف الدولة الحديثة بأنها "مجتمع إنساني يزعم احتكار الاستعمال الشرعي للقوة الفيزيائية (البدنية) في مجتمع معين". والجيش في مثل هذه الدولة من يقع عليه إدارة هذا العنف المشروع. فحجة الجيش السوداني بشرعيته في الدولة من دون "الدعم السريع" قاطعة حتى لو زعم "الدعم السريع" الشرعية بقانون صادر من نفس الدولة. فترخيص الدولة لـ"الدعم السريع" لاستخدام العنف الفيزيائي بقانون خلال حرب دارفور وغيرها مما يقع في اختصاصها أيضاً. فاستخدام هذا العنف بيد جماعة مثل "الدعم السريع" لا يكون إلا بإذن الدولة. فالدولة، في قول فيبر، هي منبع الحق لاستخدام العنف. وعليه فهي تختلف عن العصابات ووكالات الحماية المختلفة في أمرين: احتكار العنف، من جهة، والحق في تكليف من تراه مثل "الدعم السريع" لاستخدام العنف نيابة عنها. وبهذا يفسد القول الرائج بأن الدعم السريع صنو للجيش لخروجه من رحمه في العبارة الذائعة.
فمطلب الديمقراطية في الدولة هنا يتأخر عن مطلب وجود الدولة نفسها بحسب فيبر. فبتعريف الدولة كمحتكرة للاستعمال الشرعي للقوة على الأبدان أنهى فيبر تقليد من سبقوه لدراسة الدولة ناظرين إلى غاياتها الأخلاقية. فعالم الاجتماع الإنساني مثله، في قوله، معني بحقائق هذا الاجتماع وحقيقة الدولة في احتكارها للسلاح فيه. فليس من شغله أن يقرر أخلاقية هذا التوظيف لشوكة الدولة. فالدولة عنده لا تعرف بغاياتها أي مشروعاتها، بل بالوسائل التي تختص بها من دون سواها، وتتوسل بها للاستخدام القانوني للقوة. والديمقراطية، مهما سبحنا بحمدها، قيمة أخلاقية قد تنعقد الدولة من دونها. فتراود الناس في الدولة، متى وجدت، مشروعات شتى ليست الديمقراطية، أفضل أسوأ النظم، سوى واحد منه. فهناك الدولة الديكتاتورية والشعبوية والشعبية والاشتراكية إلخ، بل والديمقراطية نفسها في الدولة طيف واسع: الليبرالية واللاليبرالية والديمقراطية الاجتماعية والرئاسية والبرلمانية. فالدولة تعريفاً هي الحق في استعمال العنف، فاحتكار العنف قرين بمطلب الناس للنظام. فإذا تعذرت للدولة الشوكة، أو شاركت فيها مثل "الدعم السريع" مناصفة، "تبخر مفهوم الدولة وحلت الفوضى".
لم يعد الانتقال الديمقراطي من حقائق الحرب السودانية في يومنا. وليس وارداً تأمينه بالعودة إلى خطة الإصلاح الأمني والعسكري التي نفذت الحرب من فوهة الخلاف حولها بين الجيش و"الدعم السريع". فـ"الدعم السريع" نفسه يذيع الآن من فوق كسبه في الميدان العسكري أنه يريد جيشاً جديداً يأخذ بالتنوع الإثني والمناطقي في الاعتبار. وهذا نقد شائع عن الجيش للظن بغلبة شمالي النيل والوسط في صفوة ضباطه. ومطلب الجيش إعادة اختراع الجيش بخلاف ما اتفق عليه الدعم السريع بالاتفاق الإطاري في ديسمبر (كانون الأول) 2022 الذي قضى بدمجه في الجيش طال الزمن أم قصر. وهذه الدعوة ليست بعيدة عن دعوة بريمر في العراق في حل جيش البعث وبنائه من أول وجديد. ومتى علمنا أن "الدعم السريع" وجماعات من قوى الحرية والتغيير تطلق على الجيش مسمى "جيش الكيزان"، أي جيش نظام الإنقاذ المباد، اكتمل تطابق ما حل بجيش العراق بما يبيت لجيش السودان.
إن حقيقة الحرب التي تشفق السودانيين والمراقبين للشأن السوداني هي تبخر الدولة وحلول الفوضى. وهي نذر بوسع أميركا تداركها متى انتقلت من مسعى بسط الديمقراطية إلى مسعى يتشبث بوجود الدولة في تعريف فيبر لها وهو احتكارها للعنف الفيزيائي المشروع الذي تفوض إدارته لجيشها. والديمقراطية "ملحوقة" كما نقول. وتحتاج أميركا في هذا التدارك إلى نصح هوارد فرنش، الأكاديمي والصحافي بـ"فورين بوليسي"، بأن توطن نفسها في السياسة الأفريقية التي تتناسل أزماتها من تاريخ قل من أصغي له. ويعني، في قول آخر، أن تشتبك مع العالم كما هو لا كما ينبغي أن يكون.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء