ذكريات الهروب العظيم والغربة المفتوحة … بقلم: أحمد جبريل علي مرعي

 


 

 

(الحلقة 18)


gibriel47@hotmail.com

توطئة

الغربة ثقيلة على النفس إلا إذا كانت لفترة معلومة الأمد محفوفة بوعود وثمار قريب موعد قطفها. والغربة شرعا هي النفي من الأرض، ولكن في حالة معظم السودانيين كانت طوعا واختيارا. فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.  ورغم كل شيء، فهي خطى كتبت علينا (ومن كتبت عليه خطى مشاها).

لقد اضطررنا للخروج من السودان تحت وطأة الضوائق المعيشية وسعيا لتحسين الأوضاع الحياتية التي تسبب في ترديها ساسة فاشلون وعسكر أغبياء وأساتذة جامعات حمقى ومرتزقة وضعاف نفوس شاركوا في كل الحكومات – الديمقراطية والعسكرية - يجيدون مسح جوخ العسكر وتقبيل أيدي السادة ويعتقدون بأنهم يستطيعون سياسة الناس كما يجيدون تحضير رسالاتهم العلمية.

وكانت المحصلة النهائية أن هذا الثلاثي البائس لم يحسن تدبير أمور البلاد وتصريف أمور العباد ولم يستطع خلال أكثر من نصف قرن من الزمان توفير العيش الكريم لأقل من أربعين (40) مليون نسمة في بلد تكفي موارده لأكثر من مائتي (200) مليون نسمه.

ولم نكن ندري أن الغربة ستتحول إلى ثقب أسود كبير يبتلع كل أعمارنا ويأخذنا إلى ما لا نهاية فتصبح غربتنا غربة مفتوحة على كل الاتجاهات والاحتمالات.

لقد خرجنا كغيرنا من السودانيين الذين ركبوا أمواج الغربة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي والذين ليست لديهم تجارب كبيرة في الغربة قبل ذلك، أو ربما كانوا هم الرواد من أسر لم تعرف ولم تألف الغربة قط.

ومنذ ذلك الحين توالت موجات الغربة واشتد زخمها وتكسرت على شواطئ ومرافئ كل بقاع المعمورة. وكنا كالهشيم الذي يحمله السيل الجارف لا يدري أين يلقى به!!! أو كالقصب في مهب الرياح العاتية المزمجرة التي تقصف بعضه وتترك بعضه (وما تدري نفس بأي أرض تموت).

وخلال هذه المسيرة الطويلة (التي تمطت بصلبها وأردفت أعجازا وناءت بكلكل)، ذاق السودانيون الذين يمموا دول الشرق الأوسط خاصة صنوفا من المعاناة لم يكونوا يتصورونها، وتعرضوا لاستهجان وازدراء من شعوب أقل منهم حضارة، وصبروا على آلام  وتجارب كالحنظل وتبينوا لاحقا أنهم كانوا في سابق أيامهم يعيشون في رغد من العيش الكريم ومحفوظة كرامتهم في وطنهم الكبير ،قبل أن تجتزئه الذئاب وتمزقه أشلاء.

وفي هذه المحاولة أردت أن ألقي الضوء على تجربة غربة بدأت بالهروب العظيم من السودان في أواخر حكومة مايو وامتدت لأكثر من ثلاثين (30) عاما، ولا تزال، ولا أحد يدري أين ستحط هذه الموجه رحالها !!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

استميحكم العذر مقدما إن وجدتم في هذه التجربة ما يعكر صفوكم، وهو أمر لم أقصده. وأسألكم التكرم بالنصح أو بحسب ما ترونه من أفكار وآراء نيرة إن راقت لكم التجربة، فهي تجربة وددت توثيقها ليس إلا. وأنا بانتظار السماع منكم.

المؤلف

التفاعل مع مجتمع الرياض (1)

في بداية الثمانينات من القرن الماضي سكنت مع سعيد القرني الذي جاء من جنوب المملكة حديثا إلى الرياض في أول عمارة سكنية بناها في الرياض في  حي غبيرة. كنت أسكن في الطابق الأرضي مجاورا لأحد الإخوة اليمنيين ويدعى علي عبد الفتاح وهو من مواطني مدينة تعز في اليمن السعيد. وبعد فترة من الزمن تداخلت النساء وانسجمن كقادمات جديدات إلى الرياض.

وفي إحدى المرات كانت زوجة سعيد القرني تبي (تبغي/تريد) سقي طفلها الدواء. كان لديها خادمة حبشية من الحبشيات اللائي أمضين فترة في السودان. طلبت زوجة سعيد من الخادمة أن تمسك (خشم) الولد حتى تسقيه الدواء. فما كان من الخادمة إلا أن أمسكت بفم الولد. تعجبت زوجة سعيد القرني وقالت لها: ( كيف أسقيه الدواء وأنت تمسكين بفم الولد؟). فالخشم عندنا في السودان هو الفم (وهو أحد الخياشيم طبعا) ولكن هنا في جزيرة العرب يعني (الأنف)!!!

كان جاري علي عبد الفتاح اليمني أميا ولكنك تعجب لو علمت أنه يعمل مقاولا. فقد شيد العديد من المباني.  استغربت ذلك فسألته كيف ذلك؟!! قدم إلي مفكرة كبيرة فيها مقاييس وأبعاد المباني وأنواع مواد البناء وكل الهواتف التي يحتاجها. وما أدهشني حقا أنه يكاد يحفظ صفحاتها عن ظهر قلب. فيشير إلي قائلا: ( افتح هذه الصفحة ستجد هاتف فلان الفلاني.  وتلك الصفحة ستجد  رقم هاتف علان، وهكذا!!!)

علق أحد الزملاء قائلا: ( لو ذهبت إلى البطحاء حيث يتواجد اليمانية في السوق منذ الصباح الباكر وطلبت كابتن طائرة سيقوم إليك أحدهم!!! ) لقد صدق زميلنا، فقد رأينا جدران غرف بعض المباني في غبيرة ليست متوازية إطلاقا!!!  فقد كان صاحب المبنى لا يعلم شيئا عن البناء الحديث واليماني مقتحم لمهنة بكل جرأة، فما المسئول بأعلم من السائل!!!

عمل السودانيون في كثير من المهن المتاحة في سوق العمل السعودي. وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك عدد كبير في ورش السيارات وورش النجارة وورش البرادة واللحام الخ. كما عمل السودانيون في قيادة الشاحنات بين مدن المملكة. وعمل آخرون في المطاعم السودانية المنتشرة في أنحاء الرياض.

وكسب المحاسبون شهرة بالأمانة. فضمت معظم أنظمة الشركات المحاسبية العديد من السودانيين. ولفترة من الزمن كان السودانيون هم عماد المحاسبة في الشركات بالإضافة إلى المصريين الذين يفوقونهم عددا.  هذا بالإضافة إلى وظائف الطب، والقانون، والصيدلة، والترجمة، والزراعة، والبيطرة الخ.

تمتع اليمنيون بتراخيص إقامة حرة ومفتوحة في المملكة العربية السعودية وعملوا في شتى مجالات العمل من تجارة وبنشر (إصلاح إطارات السيارات المثقوبة) ومحلات تغيير زيوت السيارات الخ. قبل أن تساويهم السلطات السعودية مع الجاليات العربية الأخرى فيما يتعلق بالإقامة والكفيل في أعقاب حادثة حرب الخليج الثانية ( إثر اجتياح صدام حسين الكويت عام 1991) التي وقف فيها اليمن والسودان و الأردن وفلسطين وليبيا والجزائر بجانب صدام حسين. أطلق على هذه الدول الست اسم (دول الضد).  واضطرت السلطات السعودية لإخراج جميع اليمانية من المملكة إثر أحداث عدائية.

وأوشكت السلطات السعودية على إلحاق السودانيين باليمانية لولا أن شفعت لهم برقية رفعتها مجموعة من الجالية السودانية في الرياض إلى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، عليه رحمة الله، بعد أن نصحت المجموعة السفارة السودانية وعجزت في إقناعها،  في أوائل تولي حكومة الإنقاذ الإسلامية دفة الحكم في السودان بانقلابها في 30 يونيو 1989،  وأشارت عليها بألا تقف معادية لأحد الطرفين.

استلمت حكومة الإنقاذ السودان من حكومة الديمقراطية الثالثة(1986-1989) وهو في حالة يرثى لها بسبب تدهور الأحوال الفظيع في الأيام الأخيرة لما يسمى بانقلاب مايو (1969).

فبعد الانتفاضة ( رجب /أبريل 1985) استلمت حكومة الديمقراطية الثالثة سودانا مريضا من حكومة انقلاب مايو. وكعادة الحكومات الديمقراطية لم تفعل شيئا سوى الجعجعة والمشاكسة المعتادة بين الحزبين الكبيرين (الأمة والاتحادي) المؤتلفين كالعادة.

ولم يمض على حكومة انقلاب الإنقاذ سوى سنتين أو أقل من توليها السلطة ولما تزال الأحوال سيئة، فليس من الحكمة والسودان بتلك الحالة السيئة أن تدخل في نزاعات إقليمية دفع الشعب السوداني ثمنها لاحقا عندما ضرب عليه حصار من دول إقليمية وقوى الاستكبار.

فكلا الطرفين المتنازعين، الكويت والعراق، عربي ومسلم. نصحت المجموعة السودانية التي رفعت البرقية إلى الملك فهد السفارة السودانية بأن تتخذ من الآية التاسعة (9) والعاشرة (10) من سورة الحجرات ( المدنية وهى من خواتيم ما نزل من آيات الذكر الحكيم التي حوت الكثير من آداب التعامل الشخصي والجماعي  للأمة الإسلامية )نبراسا في تعاملها مع الفريقين حيث يقول المولى عز وجل: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10))

أوعزت حكومة الإنقاذ بقيام المظاهرات في السودان مساندة لصدام حسين، رحمه الله، الذي يبدو أنه وعدها وعودا براقة فتحت شهيتها لهذا الصدام أو أعطاها فأجزل العطاء، فصكت آذانها عن سماع النصائح.

هتفت جماهير حكومة الإنقاذ هتافات مسيئة للسعودية ندمت عليها فيما بعد. فقد كانت المظاهرات تردد: ( يا صدام من الخفجي للدمام) و (يهود يهود آل سعود) وغيرها من الهاتفات القبيحة.

كما سلطت حكومة الإنقاذ لسانها السليط (الرائد يونس محمود " الآن اللواء أركان حرب" )
الذي أكثر من السباب والشتم. وطال شتمه حتى الملك فهد،عليه رحمة الله، فسماه بالفهد المروض.  ودفعت حكومة الإنقاذ ثمن هذا الشتم لاحقا  حين سعت بكل جهدها للاعتذار وتفعيل العمل الدبلوماسي مع السعودية والكويت.

ولاحقا رأينا المسئولين في حكومة الإنقاذ يحثون وزير خارجيتهم الغر  على مشاوير مكوكية بين الكويت والمملكة العربية السعودية حتى حفيت قدماه مريقا الكثير من ماء وجهه وماء وجه السودان  قبل أن تسامحهم الكويت والمملكة العربية السعودية!!!

وبرغم ذلك نجح وزير خارجيتنا  في مسعاه -بعد حصار على السودان دام أكثر من عشر سنوات  -وفي تفكيك أصابع الحصار. ويبدو أن نجاحه قد زاده ثقة أكثر مما ينبغي. فقد رأيناه لاحقا يهرول مسرعا لحل مشكلة لبنان. رحم الله إمرء ا عرف قدر نفسه!!!!

كما دخلت حكومة الإنقاذ في بواكير أيامها في عداء سافر مع الجارة مصر ويقال بأنها كانت وراء المحاولة الفاشلة لقتل الرئيس المصري المخلوع أثناء زيارته لأثيوبيا ( 1995) فدفعت ثمنا غاليا أيضا.  ويقال بأن الثمن الغالي هو التخلي عن حلايب أو عدم فتح هذا الموضوع في ذلك الوقت، نظير التطبيع مع مصر!!!

دفعت مجموعة المغتربين التي تقدمت بالعريضة لسلطات المملكة العربية السعودية ثمنا غاليا أيضا. فمعظم أفرادها لم يتمكنوا من دخول السودان خلال خمسة عشر (15) عاما. فقد وضعتهم السلطات السودانية في القائمة السوداء، أيام التعذيب في بيوت الأشباح.

كما دفعت حكومة السودان ثمنا غاليا عندما ضربت أمريكا عليها حصارا اقتصاديا شديدا تسبب في ضنك العيش خلال عشر (10) سنوات عجاف ذاق فيها الشعب السوداني وحكومة الإنقاذ الأمرين من جراء تلك الخطوة غير الموفقة. ولا تزال الدولة السودانية بعد أكثر من عشر (10) سنوات أخرى تعاني الأمرين مع دول الاستكبار وتناضل لرفع اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب وفك حلقات الحصار الاقتصادي المضروب عليها.

عدت إلى السودان بعد خمسة عشر (15) عاما في إجازة سنوية. ركبت سيارة الأجرة وأخبرته بوجهتي. كانت المفاجأة أني لم أعرف الطريق إلى منزلي. فعندما تركت الحارة الخامسة عشر بالثورة المحاذية للحارة الأولى قبل خمسة عشر عاما كانت معظم ساحاتها فارغة لم يبن أحد فيها منزلا. ولكن بعد المباني التي تم تشييدها لم استطع معرفة موقع بيتي، واسقط في يدي. فماذا أقول لسائق سيارة الأجرة!!!

دخلت في حوار داخلي مع  نفسي ومن دون أن أشعر سائق سيارة الأجرة بارتباكي. قررت أن أسأل الأطفال عن بيت إحدى الحلبيات (زوجة شقيقي) لأن شكلها سيكون ملحوظا أكثر. ونجحت الخطة ووصلت سالما إلى "بيت الجاك" (والعهدة على التشكيلى المبدع إبراهيم الصلحى أطال الله عمره وبرنامجه الرائع " بيت الجاك" إبان حكومة نميري) .

ذكرتني هذا الورطة قصة أحد السكارى الذي ركب سيارة الأجرة وأبلغ السائق عن وجهته، مثلي تماما. ولكن عندما وصل قريبا من وجهته لم يستطع أن يدل السائق إلى بيته، فطلب من سائق سيارة الأجرة أن يسأل الأطفال الذين كانوا يلعبون الكرة عن منزل السيد فلان الفلاني(اسمه).

ولكن عندما نظر الأطفال داخل السيارة رأوا السيد فلان الفلاني بجلالة قدرة داخل السيارة، فقالوا للسائق: (ما يا هو راكب معاك). رد عليهم السيد فلان الفلاني قائلا: (أنتو مالكم ومالي سواق التاكسي قال ليكم وين بيت فلان الفلاني وروه البيت وبلاش لماضة!!!)

كان سعيد يعمل معقبا (مراجعا) لبعض الشركات في الجوازات على وجه التحديد. فيأخذ جوازات وإقامات الموظفين والعمال منذ الصباح الباكر إلى مبنى الجوازات في شارع الوشم جوار مبنى مؤسسة المعاشات العامة قبل أن ينتقل إلى مبناه الجديد على طريق الملك فهد. كان سعيد القرني يعاني كثيرا في تعبئة الأرانيك (الاستمارات) فيمضي معظم ساعات الليل يدون المعلومات.

علمت بمعاناة جاري سعيد القرني فقدمت له اقتراحا بأن يعمل رحيمي طارق مكي معه ويساعده في تعبئة الاستمارات في المساء،  ويقوم هو بمهمة التعقيب فقط. ولاحقا (تكفل) سعيد القرني رحيمي طارق مكي.

أثرى سعيد القرني في فترة الطفرة الأولى وامتلك عددا من المحلات التجارية والمباني والمساكن في الرياض وفي ديرته (دياره) في جنوب المملكة وذهب مع رحيمي طارق إلى تركيا لاستجلاب بعض الطهاة والعمال إلى مطعمه – مطعم الغزال - في غبيرة. الجدير بالذكر أن مهنة (التعقيب) كانت من المهن التي شملتها (السعودة) لاحقا.

أخبرنا أحد الزملاء المصريين متهكما  بأن السعودة شملت حتى حديقة الحيوان. تساءلنا كيف ذلك؟ فقال بأن التمساح أعيد إلى النيل وأدخل مكانه ضب سعودي!!!

كان بعض السعوديين، ولا يزالون، يأكلون الضب (أشبه بالورل ولكن ليته "ذنبه" أعرض) وكذلك الجربوع وهو نوع من الجرذان الكبيرة الحجم كتلك المتواجدة في جبال النوبة بالسودان والتي تأكلها بعض  قبائل النوبة بنواحي كردفان  أيضا (كذلك في الأثر أن المصطفى صلى الله عليه وسلم عافه لم يأكله عندما دعي إليه).

كما كان السعوديون يخرجون في رحلات برية لاستخراج الفقع (الكمأ) في مواسم معينة. ويخرجون في الربيع إلى روضات قريبة من الرياض العاصمة حيث العشب والأزهار والجو اللطيف وينصبون خيامهم لأيام في ذلك الجو الرائع. وكانت (الصمًان) التي تقع في الناحية الشمالية الغربية من الرياض والتي كان عنترة بن شداد قديما يرعى الإبل في نواحيها إحدى مواقع التخييم. كانت رحلات التخييم كثيرة في بادئ الأمر ثم تناقصت كثيرا في بداية القرن الحادي والعشرين.

طلب ابني البكر "راشد" ( الآن طبيب بشرى بفضل الله ) من أحد بائعي الضبان (جمع ضب)، وليس الذباب كما تعني الكلمة في السودان ( وتعنى كذلك النحل عند قوم آخرين)، أن يدخل معه إلى الشقة. فقد أعجبه ذلك الضب المربوط بخيط ويجري أمام صاحبه. وأم راشد من النوع الذي يصاب بهلع عند رؤية الضب السوداني (السحلية أو الوزغ أو أي شيء من هذه الشاكلة). ولدهشتها فوجئت بالضب عند باب الشقة فطار صوابها!!!

كان للضبان سوق من ضمن معروضات سوق الديره، التي كانت تشمل الحمام وغيره من الطيور المختلفة، بجوار مواقف السيارات أمام الشارع المؤدي إلى مجمع المحاكم في شارع طارق بن زياد في الرياض.

سقط يوما أحد الضبان من شاحنة داتسون (نصف نقل/ بك أب) في الطريق العام، فقفز على إثره أحد البدو. وبدأت المطاردة في الشارع العام. و لا يمكن أن تتصور الزحام الذي أحدثه ذلك الضب والبدوي والذي كاد أن يتسبب في حوادث مرور عديدة!!!

كانت هجمة الجاليات الأجنبية قوية على أهالي الرياض ومنطقة نجد عموما. فهم لم يعتادوا التعامل مع هذه الجموع الغفيرة من الأجانب. ونتيجة لذلك شاب تعاملهم جفاء وغلظة وحالة من الشك في كل شيء؛ على عكس المنطقة الغربية ( مكة المكرمة شرفها الله وجدة والطائف ) والشرقية( الدمام ، الظهران, الهفوف والجبيل وغيرها من مناطق إنتاج النفط السعودي حيث يوجد منذ الربع الأول للقرن العشرين الميلادي الكثير من الأجانب الذين عملوا في صناعة البترول ومشتقاته ) التي اعتادت التعامل مع الأجانب منذ وقت طويل. فكان التعامل حضاريا ومختلفا في تلك المناطق عن تعامل أهل الرياض ومنطقة نجد عموما.

كما كان أهالي الرياض والمنطقة الوسطى يطلقون على أهالي المنطقة الغربية لفظ (طرش البحر) أي الذين أتى بهم البحر ( غثاء البحر). ويعتبرونهم غير أصلاء وليست لهم قبائل داخل جزيرة العرب. ومن هذا المنظور التصنيفي الطبقي يعتبرونهم أقل درجة منهم. وهو سر التوجس وعدم سلاسة التعامل المتبادل بين أهالي المنطقة الوسطى و المنطقة الغربية. كما كانوا يطلقون على سكان المنطقة الشرقية اسم (الشيعة) أو (الروافض).

هذا بالإضافة إلى الظلال التاريخية بأن أهالي المنطقة الوسطى هم الذين فتحوا المنطقة الشرقية والشمالية (عرعر والجوف وتيماء وصولا إلى تبوك على مشارف الأردن ) والحجاز والجنوب (جيزان، نجران ، محايل عسير ، خميس مشيط ،الباحة وأبها وغيرها  ) وأكملوا بها إنشاء المملكة العربية السعودية. وأن السلطة  والملك متمركزان في المنطقة الوسطى وأن بقية المناطق ما هي إلا رعية.

حدثني أحد الضباط السعوديين الحجازيين في إدارتنا – إدارة التعاون والمساعدات العسكرية الخارجية  في وزارة الدفاع والطيران السعودية- وهو من أصول ليست بعربية ولكنه مولود في الحجاز ويتحدث لهجة أهل الحجاز، بأنه كان يعاني كثيرا من جيرانه في سكن عمائر الضباط في شارع الملك عبد العزيز من الضباط السعوديين القبيليين (من أصول وقبائل عربية معروفة في المملكة، أي سعوديي الأصل والمنشأ). فلا يزورونه ولا يلقون إليه بالسلام ويتحاشون رؤيته ويتفادونه كثيرا.

فإذا كان ذلك هو الحال في تعامل السعوديين مع بعضهم البعض فكيف بنا كوافدين من أفريقيا السوداء، التي تعني كل السوء في نظرهم!!!  نتيجة لذلك تعرض السودانيون في المنطقة الوسطى، من ضمن الجاليات الأخرى، لكثير من الإهانات والاستخفاف والازدراء.

ففي إحدى المرات – من عام 1982 - عندما كان  رحيمي طارق يقود سيارتي الكريسيدا الجديدة  موديل 1982 في شارع غبيرة الرئيس، والذي لم تكتمل المحلات التجارية على جانبية بعد وكذلك التشجير في وسطه، سمع تعليق أحد الماره مندهشا ومستكثرا أن يقود سوداني سيارة كريسيدا جديدة: (شوف السوداني سايق كريسيدا!!!).

سبب التعليق أن طارق كان من المجيدين للي العمامة على رأسه. فلا تكاد تفارقه إلا نادرا. فقد كان عرب نجد يلبسون (الشماغ ذي اللون الأحمر والأبيض ) أو (الغترة البيضاء ) إلا قليلا منهم.  وكان بعض البدو حتى ذلك الوقت يمشطون شعورهم في شكل جدائل طويلة. لذا كانت العمامة وبشكلها السوداني التقليدي تدل على السوداني فقط ولا أحد غيره.

استهجن بعض عرب نجد لبس العمامة رغم أن آباءهم وأجدادهم كانوا يلبسونها. (فالعمائم تيجان العرب) وقد انتشرت مع الغزو الإسلامي ولبسها الصحابة رضوان الله عليهم. أما العقال الذي أصبح زيا قوميا عند أغلب دول الخليج  فهو (حبل) مستخدم عند كل البدو في الدول العربية (وحتى عند بدو  السودان) يضعونه على رؤوسهم عند امتطاء الإبل ويأخذونه أولا عند إناخة البعير ليعقلوه  به عند نزولهم منه.

فالعمامة منتشرة من الصين شرقا مرورا بكل البلدان  المنتهية أسماؤها بالمقطع الأخير (تان)، مثل باكستان، أفغانستان، وكازاخستان  ومعظم دول جنوب روسيا وكذلك إيران وتركيا إلى صعيد مصر، وليبيا وتونس والجزائر و المغرب العربي غربا.

وحتى داخل جزيرة العرب هناك مجموعات لا زالت تلبس العمامة. فالعمامة منتشرة أيضا في الحجاز واليمن وعمان وبقية دول الخليج العربية. فهي إرث  إسلامي تاريخي تليد وإن استغربته عرب اليوم.

في أوائل الثمانينات من القرن العشرين وفي سوق الديرة  وسط الرياض جوار (المصمك وهو القصر الشهير والمعلم البارز في الدولة السعودية ) كانت إحدى السودانيات تتسوق. انتهرها أحد المطاوعة (رجال الحسبة)  قائلا: (غطي يا سودانية)؛ أي غطي وجهك. ويبدو أنه وجه إليها الكلام بصورة فيها حدة وجفاء وغلظة، كعادة المطاوعة آنذاك. نظرت إليه السودانية وهي غاضبة ثم قالت: ( أنا ما غطيت من الرجال الزينين، أغطي منك أنت يا أبو طريحه!!!)

لم يفقه المطوع شيئا مما تقول. ولو أنه علم مرادها لعلم مقدار استهجانها له وقلة قدره في نظرها. فقد أرادت السودانية بأنها لم تغط من الرجال الذين يضعون العمائم (لأن الرجال الحق في نظرها هم من يلبسون العمائم فقط) فكيف تغطي من شخص هو أقرب إلى النساء منه إلى الرجال ويضع على رأسه طريحه (تصغير طرحة) كالنساء تماما!!!

كان السعوديون يتهكمون علينا وأننا نطوي أمتارا عديدة على رؤوسنا. وهم محقون فالعمامة تراوحت أطوالها خلال تاريخها الطويل. فكانت العمامة الكبيرة  في العصور الغابرة وفي عهدي الدولة الأموية والدولة العباسية تدل على علو منزلة من يلبسها.  وكانت أحيانا تصنع من الحرير والديباج وتزان ببعض الجواهر والأحجار الكريمة في مقدمتها. ثم هناك العمامة المتوسطة والعمامة الصغيرة. وقد قال الحجاج بن يوسف الثقفي سفيه وثبير ثقيف كما وصفه سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما  لأهل العراق متوعدا :

أنا ابن الجلا  وطلاع الثنايا      متى أضع العمامة تعرفوني

كان ذلك التعليق على رحيمي طارق من أحد الماره  أفضل حالا مما قاله أحدهم عندما شجر الكلام بينه وبين أحد السودانيين: ( شوف العبد السوداني!!!) كاد ذلك التعليق أن يتسبب في مأساة لا يعلم مداها إلا الله لو أن ذلك المترجم، الذي يعمل في وزارة الدفاع والمشهود له بقوة البنية، لحق بالشخص الذي فر هاربا من أمامه.


 

آراء