د. حسب الرسول عباس البشير استشاري مالي واقتصادي – الخرطوم drhasabo@yahoo.com أجد في كتابات الأستاذ معتصم أقرع المتعددة ما يستحق النظر فكتاباته تعكس، فيما أرى فهما جيدا لكل القضايا التي يكتب عنها في مجالات الاقتصاد الكلي لا أرى مثله في الكثير من الكتابات التي تسود الفضاءات الصحفية والعامة هذه الأيام وبخاصة حول أسباب وحلول الازمة الاقتصادية التي تخنق البلد واقتصاده. وبالعنوان الأخير حول مالات نظام النقد الاجنبي الجديد كتب مقالا في الصحيفة الالكترونية " سودانايل" حول توقعاته لمستقبل النظام الجديد لآلية سعر الصرف اختتمه بقوله: ( لا يعني واقع السياسات الاقتصادية الحالي وخياراته المحدودة انه لا يوجد حل لمعضلة نظام الصرف. من الممكن جدا ادارة صرف العملات الاجنبية بصورة ناجحة وعلمية تحقق استقرارا في الأسعار وتفسح المجال لتنمية اقتصادية ممكنة ولكن ذلك يبدا بادراك ان سياسة سعر الصرف لتنجح لا بد ان تكون في اطار حزمة كاملة ومتسقة داخليا من السياسة المالية والنقدية. كما انها تتطلب شرط سياسي انسب , والي جدية تضع كل جوانب السياسة الاقتصادية ( وليس سياسة الصرف وحدها) في ايدي وطنية مؤهلة فنيا ومهنيا). أن تبني ما يعرف بنظام "الآلية" الحالي والذي يشير اليه الأستاذ أقرع يمكن تفسيره، بحسب رؤيتي، على أنه إتجاه لتحرير لسعر الصرف لعل الحكومة قد لجأت اليه تحت عباءة (الآلية) لان التحرير الصريح غير مقبول سياسيا. ولعل الآلية قصد منها أن تحاكي( to mimic ) حركة السوق. وفي تقديري أن التوجه نحو تحرير سعر الصرف أمر جيد في كل الأحوال حيث أن قمع الأسواق أيا كانت هذه الأسواق أمر غير مجد ولا مفيد ولا بد أن تجربتنا الذاتية قد علمتنا ذلك. فالمواطن السوداني يواجه أثر ارتفاع أسعار الصرف الحرة في كل مشترياته والإدعاء غير ذلك هو هروب من الحقيقة. وقمع الأسواق له آثار سيئة أخرى تتمثل في خلق تشوهات في كافة جوانب الاقتصاد القومي. وبالتالي كلما كبرت خطى السياسة نحو التحرير كلما كبرت واتسعت خطى اقتصادنا نحو التعافي، ولكن معالجة سعر الصرف وحدها لا تكفي بالطبع في ظل تعدد الاختناقات السياسية والاقتصادية التي يواجهها البلد. ولذلك فان تحليلنا هنا جزئي يتعلق بقضية إدارة نظام الصرف وسوق العملات. أما الحديث عن نجاح سياسة سعر الصرف فان سعر الصرف فتحدده قوى العرض والطلب والتي هي بالتالي انعكاس لسلوك الحكومة والقطاع الخاص والاقتصاد الكلي وتأثير ذلك على قوى العرض والطلب. لذا فان أي محاولات مصطنعة وتحكمية للتدخل بتحديد أسعار الصرف لا يسندها واقع فان مآلها معلوم. أنا على يقين تام بأن اتاحة الفرصة للأسواق لتعمل بحرية هي السبيل الأنسب لتحقيق الفعالية والكفاءة في تخصيص الموارد الاقتصادية نحو استخداماتها المثلى، كما اننا بالتدخل في الأسواق ومحاولة كبح الأسعار بالتحكمية الإدارية لن تحل المشكلة بل ستعطل احداث التوازن بين العرض والطلب في سوق العملات بل وفي كل الأسواق ذات الصلة . وكما ذكرت فان المنطق الاقتصادي قد اثبت في الماضي وسيظل يثبت في المستقبل أنه أقوى من التدخلات الإدارية ودوننا تجارب روسيا والصين والهند وبقية الدول الاشتراكية والتي عادت كلها وسمحت لعودة اقتصادات السوق لتلعب دورها في تخصيص الموارد لاستخداماتها الأمثل بعد سنين طوال من تجريب النمط البديل الذي لم تكن نتائجه الى تأخر في وتائر نموها وتنميتها. وعندما ينفلت أي سوق من الأسواق فقمين باهل الحكمة فحص الامر بروية وعقلنة أساليب العلاج. وفي هذه الحال التي نحن بصددها لا بد أن يتفق الجميع بان الخلل انتجته سياسات الدولة غير المنضبطة ماليا من صرف إداري غير منتج أضافة الى سياسات الدعم الخرقاء التي اهدرت موارد ضخمة لدعم للخبز والمحروقات وغيره من السلع والخدمات والذي يذهب جزء كبير منها لغير مستحقيه وكانت نتائجه ما نرى من انفراط في معدلات التضخم وتدني لسعر الصرف. ولكن ما الحل؟؟ الحل، نتفق مع الأستاذ الاقرع، يجئ في " اطار حزمة كاملة ومتسقة داخليا من السياسة المالية والنقدية" ولكننا لا نتفق معه على توفر ظرف سياسي انسب لإنفاذ هذا الحل. فتأجيل الإصلاح لا يؤدي الا الى مزيد من تفاقم الازمة. وأنا لا أعير الحديث، والذي يتكرر دوما ويظل يورده الكثيرون كأحد مسوغات تأخير التصحيح، عن أهمية توفر احتياطيات من النقد الأجنبي كشرط مسبق لنسمح بالتصحيح أن يحدث. وذلك لعدة أسباب : أولها باننا لا نرى أملا في توفر الدعم الدولي ولا الإقليمي أو القاري المنتظر والذي سيملأ خزائن الدولة احتياطيات سواء كان ذلك قروضا أو هبات أو أي نوع من أنواع التدفقات، فلذلك فمن غير الحكمة أن نؤجل التصحيح في انتظار السراب. وثانيها اننا إذا أيقنا بانتهاج سياسة تحريرية للأسواق بما في ذلك سعر الصرف فإننا، كما هو معلوم، لا نحتاج للاحتفاظ باحتياطي لمعالجة سعر الصرف والاحتفاظ به عند حد معلوم ولكن نتركه ليجد قيمته تلقائيا. وهذا من محاسن سعر الصرف المحرر والمعوم، حيث أن الاصحاح في أسواق العملات يحدث يوميا. ولكن المطلوب لاستقرار سعر الصرف وبقية المؤشرات الاقتصادية بل واستقرار جميع الأسواق بحصافة هو توفر إدارة سياسات مالية ونقدية تعالج الأمور المالية بالحصافة وتضع الحكومة نفسها تحت نفس المعيار الذي يلزم القطاع الخاص وحتى القطاع الاسري به بالانضباط والانفاق من ما تملك من موارد. وفي هذه الحال يكون الاحتفاظ بالأرصدة النقدية ليس لغرض استعمال هذه الرصدة لوضع سعر الصرف عند المدى المرغوب فيه اقتصاديا او اجتماعيا، بل يكون الدافع للاحتفاظ بأرصدة العملات الحرة لمقابلة احتياجات التجارة الدولية وفي هذه الحال لا يشترط أن يكون هذا الرصيد لدى البنك المركزي بل يمكن توفره لدى المصارف التجارية. وأخيرا فاننا لا بد أن نتفق على أننا نحتاج للتصحيح بأسرع ما يمكننا لا سيما وان الطبقات الفقيرة من مجتمعاتنا خاصة الريفية تدفع الثمن في كل الأحوال وسيكون المستفيد الأول من التصحيح هو من لا صوت لهم . بل لا بد ان ننوه هنا الى أن اختلال أسواق العملة وما صاحبه من محاولات لتخصيص الموارد بالسبل التحكمية البديلة كان بابا كبيرا للفساد وسيظل. لذلك فمن المرجح ان تكون مآلات هذه السياسة إيجابية اذا سمح لها الاستمرار وإتاحة الفرصة لعملية التصحيح والتي تقمع الاستهلاك وتشجع الإنتاج والتصدير. أن المهدد الرئيسي للسياسة الجديدة وللآلية هو كما ذكرت عدم الانضباط الحكومي بالصرف غير المنتج وخوف السياسيين من آثار ارتفاع سعر الصرف على الاستهلاك على الرغم من أن المجتمع ظل يواجه نتائج اختلالات سوق النقد وسيظل يواجهها سواء سمحنا لعمليات التصحيح ان تحدث أم لم نسمح. وإذا كان ثمة رهان، فهو على أن التدخلات السياسية هي التي ستجهض مضي هذه السياسات التحريرية نحو غاياتها الإصلاحية يوم أن تكون كلفتها السياسية عالية خاصة أذا ما تفاقم الضغط الشعبي على الحكومة من القطاعات الحضرية، أما أهلنا في الريف فلا بواكي لهم في كل الأحوال. وكما هو الحال في السودان دائما: فانها السياسة وليس الاقتصاد ما "يشنقل الريكة"، إذا صح استخدام المثل.