مالذي جرأ علينا هذا المؤرخ؟!

 


 

 

 

جلال الموت وجلال الحقيقة

 

( 1 من 6)

 

mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]

 

 

{ تناقلت بعض الصحف والمواقع الإلكترونية أخيرا مقال المؤرخ الشيوعي المعروف البروفسور محمد سعيد القدال في نقد كتابي (الإخوان وسنوات مايو). وقد أعادت بعض هذه المصادر نشر المقال بدافع التوثيق العلمي، بينما اندفع البعض الآخر بداعي التشنيع علي كتابي في الدفاع عن الحركة الإسلامية، وتشييع آراء  خصمها المبين الراحل القدال. وقد غر هؤلاء أني لم أنشر ردا على ذلك المقال، وغاب عنهم أن عدم نشري للرد على البروفسور القدال لم يكن  سببه العجز أو التردد، وإنما نجم عن اعتبارات إنسانية تعلقت بظروفه، إذ كان في السجن المرة الأولى، فلم أشأ أن أرد على أسير، ثم غيبه الردى بعد قليل من فراغي من تحبير الرد عليه، فآثرت أن أطوي ما كتبت عنه احتراما لجلال الموت، الذي كلنا واردون حياضه. ولكن لما أغرى ذلك أتباعه بالتضافر على نشر مقاله، وتكرار نشره، كان لابد من نشر ردي عليه. وليلاحظ القراء أن الرد ينشر كما كتب يوم أعاد القدال نشر مقاله عني في (الميدان) فلغة خطابي له لم تتغير إذ كنت أخاطبه حينها حيا شاخصا بين الأحياء.}

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

أعاد البروفسور محمد سعيد القدال نشر نقده القديم لكتابي (الإخوان وسنوات مايو). وكنت قد اطلعت على هذا النقد المتهالك في صحيفة  (الميدان) لسان حال ما كان يعرف في الماضي بالحزب الشيوعي السوداني (في حدود منتصف عام 1989م) وقد اخذت أعد العدة لاكتب ردا شافيا عليه، ولكني لم أفعل لأن ذلك كان قبيل تبلج فجر الانقاذ بأيام، ثم علمت ان اهل الانقاذ قد اخذوا القدال وحصروه، مع من أخذوهم وحصروهم من خصومهم الألداء، فقلت ليس من المروءة ان أكتب عن شخصٍ مأخوذٍ أسير. ثم تطاولت الأزمنة حتى نسيت الأمر برمته، فإذا بالقدال بعدوانيته المرة الفذة لم ينس شيئاً، وإذا به يعيد نشر ذلك النقد المسموم الآن!

المنهج أم التوثيق؟!

إن القدال تشتبه عليه قضايا المنهج والتوثيق، ولا غرو ان يشحن القدال نقده لكتابي بمختلف فنون التمحُّل، زاعما أنها من قضايا المنهج، وذلك مع أن المتبصر في هذه الشؤون يدرك أن جميع الأمور التي أخذها القدال على كتابي لا علاقة لها بالمنهج ولا بالنواحي المعرفية، كما زعم في مطلع رده، وسأبين في ثنايا هذا الرد مدى ضعف القدال في قضايا المنهج والتوثيق بل وفي قضايا النظرية الماركسية نفسها.

ولنبدأ حديثنا بما بدأ به حيث قال:" نتناول أولا الجوانب المنهجية ثم الجوانب المعرفية". ونقول ردا على هذا إن الجوانب المنهجية هي ما يتعلق بالنهج التحليلي الذي يتخذه الباحث لاختبار فرضيات البحث والوصول إلى استنتاج منها. وأما الجوانب المعرفية فهي أصول المعرفة ومصادرها وفلسفتها أو ما يعرف بالأبستمولوجيا، وتعني وجهة نظر الباحث الفلسفية، وما إذا كان يعتنق نظرية المعرفة المادية أو الحدْسية الإلهامية العرفانية أو يعتنق المذهب النقدي (الكانتي) في المعرفة أو مذهب السلطة أو يعتقد بصحة الوحي السماوي وعصمته، وما أشبه ذلك من النواحي التي يعرفها الطلاب الذين درسوا الفلسفة نظاميا، وأما القدال  فشأنه شأن آخر، فقد بين بعمله هذا أنه لا يهتم بسوى الانكباب والتحديق في الهوامش والقوائم بعيدا عن الفكر وأصوله!

 فإن ما أخذه علينا القدال في كتابنا (الإخوان وسنوات مايو) يتعلق بالنواحي التوثيقية ليس إلا. وهذا هو كل ما يهمه كمشتغل بالتاريخ، ولكنه لجهله شبه المطلق بمناهج البحث يظن أن الجوانب التوثيقية هي مناهج البحث نفسها، وما هي في الحقيقة إلا الجوانب الشكلية - لا العقلية ولا التحليلية- من جوانب مناهج البحث، وهذا ما نحرص على شرحه وتمييزه لطلابنا الذين ظللنا ندرسهم مناهج البحث منذ اكثر من ربع قرن بحمد الله.

نماذج من النقد:

يتخذ القدال لنفسه طريقة مضحكة في نقد الكتب، فإذا أعد عدته لنقد كتاب لم ترق له فكرته، انهمك في عملية حسابية ساذجة تبدأ بعد صفحات الكتاب أولا، ثم يحسب الفراغات التي بينها، ثم يطرح الثانية من الأولى، ليعد حصيلة هذه العملية كشفا هاما وابتكارا لا يدانيه ابتكار. يبدأ القدال نقده لكتابي (الإخوان وسنوات مايو) بالوصف، فيقول:" يقع الكتاب في ٢٤٨ صفحة منها ٧٠ صفحة فقط هي المتن ومن هذه الصفحات ٢٠ صفحة خالية تماما فيبقى المتن ٥٠ صفحة، وسمى المؤلف بقية الصفحات وثائق. فجاء حجم بعض الفصول خمس صفحات. وما سماها المؤلف وثائق ما هي إلامجرد ملاحق، وييدو أنه لا يعرف الفرق بين الوثيقة والملحق. وحتى الملاحق التي زحم بها الكتاب ليست لها قيمة تاريخية. والصور التي وضعها في نهاية الكتاب ليست أيضا وثائق. على أنه أغفل أهم وثيقة وهي البيان الذي قال إنه صدر من تنطيم الإخوان صباح ٢٥ مايو. والكتاب خالي (هكذا في الأصل! والأصح خالٍ) من الهوامش التي توضح مصادر البحث. وأشار إلى تسجيل كاست نقل منه نصا للترابي، وهونص مهم في مجرى الصراع مع مايو، ولكنه لم يذكر متى سجل الشريط وفي أي مكان وكيف يمكن الحصول عليه وإلا يفقد الشريط قيمته التاريخية، ويصبح الكتاب مجرد تداعيات وخواطر ".

 إن جملة هذه الأشياء توثيقية ليس إلا، ومع ذلك فنحن على استعداد للرد عليها تفصيلا لا إجمالا. وأول ما لا حظته على هذا الشخص الذي فرغ نفسه لاحصاء صفحات الكتاب، وفرز صفحاته الفارغة من المكتوبة، وملاحقة النواحي التوثيقية فيه، أنه يخطئ حتى فيما يظنه من مناهج البحث، فهاهو بوثق لكتابي هكذا: " عرض لكتاب : الإخوان وسنوات مايو، تأليف: محمد وقيع الله، دار الفكر الاشتراكي،1988، عرض: د. محمد سعيد القدال ". والخطأ التوثيقي البين الذي ارتكبه القدال هنا هو أنه نسب كتابي إلى دار الفكر الإشتراكي، مع أن كتابي لم يصدر عنها، ولم يسبق لي أن تعاملت معها قط، وليس سوى التعجل وخبط العشواء ما يجعل القدال ينسب الكتب لدور نشر لم تصدر عنها، وإن في هذا في حد ذاته مما يضغضع الثقة في من ينتحل صفة المؤرخ، ويشكك في قدراته في الكتابة العادية، دع عنك إجراء البحوث التاريخية المتقنة!! وهكذا جاء أول القصيدة - أو أول مقال القدال!- كفراً كما يقولون، فقد ارتكب من يعرِض كتابي ليعرِّض به خطأ أشنع مما أراد ان يبرزه بكتابي، وللقدال العذر كل العذر عندما يرى القشة بعيني  ويعجز عن رؤية الأخشاب المتراكمة على عينيه منذ زمان!

إن مثل هذا الخطأ الذي انزلق إليه القدال في مطلع عرضه كان بإمكاني أن أتغاضى عنه، بما لي من أريحية وإغضاء وصفح كبير. ولكنه طالما شرع يحاسبني بمثل هذا التعنت في الترهات فلأحاسبنه بأسلوبه الذي جاء به، ولا ظلم لمن بدأ الظلم، وكما تدين تدان!

قلة تدقيق القدال:

ولنمض على محاسبة القدال بهذا المقتضى. فهو لا يبالي بأن يرتكب الخطأ الشنيع ثم يسارع الى محاسبة الناس بالباطل، على ما يظنهم اخطأوا فيه. فمع انه يدعي أنه مؤرخ أو باحث في تاريخ السودان الحديث، فإنه لم يدقق في حديثه عن تاريخ الأيام الأخيرة لمحمود محمد طه، وردد فيه بعض الأخطاء التي لا تليق به كمؤرخ. وقد قام أحد الجمهوريين بتخطئة القدال لضعف توثيقه في هذا المجال فقال هذا الشخص يخاطبه:" أنا مثل آلاف السودانيين، معجب أشد الإعجاب بكتاباتك الشجاعة والتوثيقية، وأملك جميع كتبتك تقريبا، وأتخذ كثيرا مما يجيء فيها مراجع لما أقوم بكتابته .. قرأت لك مقالة هي الثالثة من أربع مقالات في جريدة الصحافة السودانية هنا. وقد وجدت أن فيها معلومة غير دقيقة بخصوص تاريخ اعتقال الأستاذ محمود حيث ذكرت أنها تمت بعد إصدار قوانين سبتمبر.. حيث جرى النص هكذا:{واعترض الأستاذ محمود محمد طه على تلك القوانين، واعتقل وأطلق سراحه نهاية العام 1984م} وكنت أيضا قد قرأت هذه المعلومة في كتابك القيم "الإسلام والسياسة في السودان" ... وقد جرى فيها النص هكذا : {أما محاكمة محمود محمد طه فكانت أكثر مأساوية. اعتقل الأستاذ محمود محمد طه بعد إعلان قوانين سبتمبر لمعارضته لها. ثم أطلق سراحه في نهاية عام 1984. فأصدر حزبه ـ الإخوان الجمهوريون ـ منشوراً عاما وزعوه على الناس، قالوا فيه: إن قوانين سبتمبر أذلت الشعب السوداني إلخ.} المعلومة الصحيحة هي أن الأستاذ محمود اعتقل قبل إصدار نميري لقوانين سبتمبر طبعا.. ولكن سبب اعتقال الأستاذ والجمهوريين كان هو كتاب (الهوس الديني يثير الفتنة ليصل إلى السلطة) وقد خرج في 11 مايو 1983، وجرى اعتقال أول جمهوري في يوم 13 مايو ".

هذا هو ما أخذه الشخص الجمهوري على القدال واستدركه عليه، وهذا شأن من شؤون التاريخ المعاصر جداً ومع ذلك أخطأ فيه القدال خطأ فاحشاً! وبهذا المقياس فإذا شئنا ان نتعقب كتابات القدال المختلفة في تاريخ المهدية، وتاريخ الحركة الوطنية، وتاريخ الحزب الشيوعي السوداني، وهي الموضوعات التي كتب فيها، لجئنا له بأمثلة أفحش. ولكن هذا القدال  الذي لا يحرص على توثيق كتابي التوثيق المناسب، وينسبه الى غير دار النشر الصحيحة التي اصدرته، والذي لا يحرص على توثيق تاريخ اعتقال محمود محمد طه، الذي يتاجر فكرياً ومذهبياً بقضيته، له مطلق الشهية ليندفع إلى نقد نواحي التوثيق - وهي غير نواحي المنهجية كما سبق أن اوضحنا- في كتابي الموسوم (الإخوان وسنوات مايو)!

 

 

 

مالذي جرأ علينا هذا المؤرخ؟!

جلال الموت وجلال الحقيقة

( 2 من 6)

محمد وقيع الله

 

 

 

 

زعم القدال أني لا أعرف الفرق بين الوثيقة والملحق، ولم يشأ أن يتبرع لي ببعض (علمه) ليرشدني إلى ماهية الفرق بين الوثيقة والملحق. والحمد لله فإني كنت في غنى عن (علمه) هذا، إذ ليس ثمة فرق يذكر ما بين الوثيقة والملحق.

فمن شاء عدَّهما شيئا واحدا، ومن شاء فرق بينهما. تماما كما لا يوجد ثمة فرق يذكر ما بين مصطلحي المرجع والمصدر، فمن شاء سوى بينهما ومن شاء فرق. ففي الأمر سعة ولا يجادل في ذلك ويماري ويعاظل إلا الأكاديميون المتعنتون الذين لا يهتمون بلباب العلم من أمثال القدال.

 الوثيقة والملحق:

وإذا رجعنا إلى المراجع التي لا يمكن أن يعتد برأي القدال بإزائها، لألفينا

التعريف العلمي للملحق

Appendix

 

 يقول: إنه قسم يحصص في آخر الكتاب تحشد فيه الإحالات المرجعية. بينما

يقول تعريف الإنسيكولوبيديا للوثيقة

Document

:إنها المادة التاريخية التي تحتوي على معلومات لها قيمتها التاريخية عن الأشخاص أو الأماكن أو الأحداث.                                       

وفي التعريف المصطلحي الدقيق يفيد البروفسوران جاك بارزون وهنري كرافت في كتابهما (الباحث الحديث) وهو كتاب في مناهج البحث التاريخي، ومقرر على طلاب الدراسات العليا في الجامعات الأمريكية ما معناه أن الملحق هو: الهامش الإيضاحي الزائد عن حد الشرح الذي يسمح به السياق. فإذا أحس الباحث أنه يستطرد أكثر من اللازم، وظن أن قوله لا يزال مهماً ولكنه يخلخل سياق الكلام بطوله، فقد يحق له عندئذ أن يرسله إلى حيز في نهاية البحث يسميه الملحق، فيريح بذلك نفسه ويريح القارئ.

 

  If in any kind of work your footnote is important but in danger of becoming too long, metamorphose it into an appendix, where you can take all the space you require and more adequately serve both yourself and your reader”. Jacques Barzun & Henry F. Graff. The modern researcher,Harcourt, 1975, P.P.282-283.     

 

 

وإذن فإن أوردته أنا في نهاية الكتاب، وسميته وثائق هو أحق بتسمية الوثائق بموجب هذا الرأي، ولم يكن يتوجب علي - بموجبه - أن أسميها ملاحق، لأن ما جئت به لم يكن من نص كلامي ولا من استطراداتي في الشرح، وإنما هي أقوال آخرين، تصف مواقفهم من الأحداث، وتصف الأحداث التي واجهوها، كما تصف مواقف أعدائهم من الشيوعيين والمايويين، وهي أقوال لها قيمتها التاريخية الكبيرة من وجهة نظري، وقد كان من واجبي أن أوثقها كما هي، وإن لم يعجب هذا القدال،  فقد أثرت أن أعمل بتوجيه كبار العلماء الراسخين في علم التاريخ، ولن آبه لذلك كثيرا ولا قليلا برأي القدال إذا ما خالف هذا الرأي، فرأي القدال بإزائه - في نظري - مرجوح!

 حكم المنهج أم حكم الأهواء؟!

 وأكثر ما يجعلني لا أركن لرأي القدال في هذه الناحية ولا أقبله، هو أنه رأي غير مستقر، وأنه رأي متأرجح مع الهوى،, وإلا فانظر إلى القدال كيف يحكم هواه ( غير المنهجي بالطبع!) في هذه النقطة بالذات.

لقد عاد في هذه الفقرة ذاتها التي عدَّ فيها وثائق كتابي مجرد ملاحق لا وثائق، فذكر أن منشور الحركة الإسلامية الذي أصدرته غداة الخامس والعشرين من مايو 1969م كان وثيقة لا ملحقاً، فقال:" على أنه { أي الكتاب} أغفل أهم وثيقة وهي البيان الذي قال إنه صدر من تنظيم الإخوان صباح ٢٥ مايو ".

 ويطيب لنا هنا أن نسأل القدال: ما الذي جعل هذا البيان بالذات وثيقة، وجعل غيره من البيانات مجرد ملاحق لا وثائق؟ أم أنه مجرد التحكم الذوقي المحض للقدال يصنف به الأشياء كما يشاء؟ وهو التحكم الغث الذي يعود فيسميه مناهج بحث؟! وإذا تبين لنا أن القدال لايعرف على وجه الدقة مدلول مصطلح (منهج البحث) فالآن تبين لنا جليا أنه لا يدرك على وجه الدقة ما المقصود بنواحي التوثيق! 

   والغريب في أمر هذا المؤرخ (القدال) أنه بعد أن أطلق على المنشور صفة الوثيقة عاد فمارى في أمره، وشكك في صحته، وذلك مع أن الإخوان الذين وزعوه ما يزالون أحياء ، حفظهم الله، وهم الذين كتبت الصحف اليومية- التي كان يديرها اصحاب القدال الشيوعيون يومها- عن أمر اعتقالهم متلبسين بتوزيع هذا المنشور.

ولكن القدال يقول اليوم في لهجة تشبه لهجة الاستنكار والتكذيب:" البيان الذي قال{ أي المؤلف} إنه صدر من تنظيم الإخوان". وفي مماحكة قحة أخذ القدال يردد:" يقول{ أي المؤلف}  إن المنشور أصدرته الحركة الإسلامية، ولكن المنشورات لا تصدر باسم معمم مثل الحركة الإسلامية وإنما باسم تنظيم معين. ويقول إنه صدر ووزع صبيحة يوم الانقلاب. فهل اجتمع التنظيم صباح نفس اليوم وكتب المنشور وتم طبعه واعداده للتوزيع؟ وماذا قال المنشور عن الانقلاب؟ وهل اتضحت توجهاته في صباح نفس اليوم؟"..

 وهذه أسئلة يجدر بالقدال أن يسألها لمن كتبوا المنشور وهم بعد أحياء وأنا لست فيهم ولم أكن معهم. وقد كان بمكْنةِ القدال أن يستنتج اجابات على هذه الأسئلة إن كان له حس علمي تاريخي سليم، فكان عليه مثلا أن يدرك أن من دأب الحركة الإسلامية السودانية طوال تاريخها أن تتخذ لها أسماء شتى كلها معبر عنها، فالحركة الإسلامية السودانية لا تتعبد للإسم كما يفعل الحزب الشيوعي الذي لا يزال يقدس اسمه القديم رغم تخلي معظم الحركات الشيوعية عن هذا الإسم الكريه.

 وأما عن تساؤل القدال عن امكانية كتابة المنشور في صباح يوم الانقلاب ذاته فكان له أن يستنتج أن ذلك أمر يسير على من يسر الله له أمر التحرير من الإسلاميين النابهين. وأما عن أمر توزيعه صباح يوم الانقلاب فليرجع القدال ان كان مؤرخا حصيفا إلى صحافة تلك الفترة وسيرى شهادتها التفصيلية التي أكدت وقوع هذا الأمر، وبإمكان القدال إن كان مؤرخا جادا أن يذهب ليفتش في تراث المحاكم التي حاكمت من وزعوا المنشور ويقرأ حيثياتها ليعلم التفاصيل. وأما عن فحوى ما قاله المنشور عن الانقلاب، فقد أوردته في الكتاب الذي ينتقده القدال، ولكن يبدو انه لم يقرأه أو قرأه ولكنه امرؤ يستمرئ المراء ونعوذ بالله من المراء!

 هذا وبعد أن كاد القدال أن يكذب أمر المنشور بهذه التساؤلات المتعددة، عاد فعده وثيقة هامة! ولماذا عده وثيقة هامة ياترى؟ هل لمجرد الرأي التاريخي التوثيقي العلمي المحايد؟ كلا! وإنما ليطعن في قدرتي على تمييز الوثائق وترتيبها حسب قيمتها التاريخية.

والحمد لله فإن أهمية تلك الوثيقة لم تكن غائبة عني على الإطلاق، بل إني لشدة احتفائي بذلك البيان وتقديري لقيمته التاريخية الكبيرة فقد ضننت به على حيز الوثائق المودعة في آخر الكتاب وأدرجت أكثره في المتن مع التنصيص.

الحصول على الوثائق:

إن تساؤلات القدال هذه كلها لا قيمة لها في الحقيقة، طالما انه يعود فيحتسب المنشور على أنه وثيقة، فالوثيقة شيئ دامغ. ولذلك فلا قيمة أيضا لتساؤلاته -التي سنرد عليها مع ذلك - بخصوص شريط الكاسيت الذي عده نصا مهما في مجرى الصراع مع مايو، حيث قال:" وأشار{ أي المؤلف} إلى تسجيل كاست نقل منه نصا للترابي، وهونص مهم في مجرى الصراع مع مايو، ولكنه لم يذكر متى سجل الشريط وفي أي مكان وكيف يمكن الحصول عليه وإلا يفقد الشريط قيمته التاريخية. ويصبح الكتاب مجرد تداعيات وخواطر ".

 أرأيت كيف يضفي القدال الأهمية على الأمر الذي يراني وكأني فرطت في توثيقه، وإن كان لا يزيد في أهميته على بقية الوثائق التي أودعتها هذا الكتاب؟ وأما شريط الترابي إياه فيكفي أن أقول أنه موجود مبذول وإنه بصوت الترابي المعروف. وأما متى سجل الشريط وأين سجل فهذه أشياء قليلة الأهمية، ولا تجعل الشريط يفقد قيمته التاريخية إلا في رأي هذا (المؤرخ) المتعنت. وهذا لا يهمني في أي حال.

 واما كيف يمكن الحصول على الشريط فقد كنت أظن أن للقدال خبرة لا بأس بها في جمع الوثائق والمواد التاريخية، وإلا فكيف يسأل سؤالا ساذجا مثل هذا، وهو يعلم أن للإسلاميين السودانيين مركز كبير لإنتاج الأشرطة وتوزيعها، واذا علم هذا فعندئذ تتلخص مهمته في أن يذهب إلى هناك ويسأل عن الشريط، وفي حالة ما إذا لم يجده فيمكنه حينئذ أن يأتيني لأعطيه منه نسخته مجانا إن شاء!

وفي كل حال فإن عجز القدال عن الحصول على الشريط لا يجعل من كتابي مجرد تداعيات وخواطر كما قال. هذا مع ملاحظة  أني لم أصف كتابي على أنه بحث علمي كما زعم القدال، ولم أقل أنه كتاب أكاديمي كما حاول القدال أن يوحي ذلك إلى القارئ. وإنما  هو مجرد كتاب توثيقي عام حاولت فيه أن أستنقذ من الضياع مجموعة وثائق تاريخية قيمة تعبر عن بعض مفاصل تاريخ تلك الفترة المهمة من تاريخ السودان الحديث، وجعلت هذه الوثائق متاحة للباحثين والمؤرخين، وأنا لست منهم، فكتابة التاريخ ليست من صنعتي في شيئ.

وبحمد الله فقد نفدت الطبعة الأولى من هذا الكتاب، مع انها كانت في خمس عشرة ألف نسخة، وهذا أعلى من معدل توزيع الكتاب السوداني والعربي بكثير. وقد استفاد من الكتاب وأشاد به وأشار إليه عدد من الكتاب والمؤرخين ممن أعتز بهم وبشهاداتهم.

ولست أفخر بهذا ولكنه أمر يسرني ويبهجني ويريح ضميري، فقد وفقني الله تعالى لكي أحافظ على تلك الوثائق  الثمينة من وثائق الحركة الإسلامية من الضياع، ووفقني الله تعالى لكي أنشرها نشرا صحيحا بلا  تغيير أو تزوير ، ولذلك لما نقلت عن كتاب (المتآمرون) الذي صدر عن حكومة مايو عقب أحداث الجزيرة أبا في عام 1970م أن من بين المتآمرين على الحكومة شخص اسمه أحمد عبد الرحمن الشيخ، نقلت الإسم على خطئه، عن غير جهل بصحة الإسم، وجاء القدال عن جهل ليصحح لي الإسم على أنه أحمد عبد الرحمن محمد (لا الشيخ)  ولم يفطن إلى أن ذلك الخطأ لم يكن مني وإنما من أصحابه الاستخباريين الشيوعيين الذين كتبوا هذا الكتاب في أيام مايو الأولى!

 إلى ذلك الحد المتحرِّج حافظت على أصل الوثائق، ولم أرتكب في أي جزء منها شيئا مثل ذلك التزوير المنكر الذي أحدثه مؤرخو الحزب الشيوعي السوداني أخيرا في نص منشور قديم للحزب يرجع تاريخه إلى سنة 1972م  قام فيه الحزب بتقويم اتفاقية أديس أبابا، ووصف أحد مهندسيها، وهو منصور خالد بالعمالة للاستخبارات الأمريكية.

 ثم عاد مؤرخو الحزب – بعد أن تحالف منصور مع الحركة الشعبية – فحذفوا ذلك الوصف الشائن من المنشور التاريخي وأعادوا نشره للناس بذلك التزوير. وقد لاحظ هذا التزوير المنكر وأنكره المؤرخ النـزيه البروفسور عبد الله على إبراهيم، وكتب عنه قبل أسابيع، وسماه بـ (خفة اليد الثورية)، ذلك أن هؤلاء الثوريين الماركسيين:" خدشوا مبدأ نهائية النص التاريخي وقدسيته، بغير أن يصرحوا لقارئهم بدافعهم لتلك المراجعة ".. كما قال البروفسور إبراهيم في استنكاره لفعلهم هذا الشنيع، وهو الفعل الشنيع الذي لم يستنكره على رفاقه الشيوعيين المؤرخ الشيوعي القدال لأنه لا يرى القش إلا في عيون غير الشيوعيين!

 

 

مالذي جرأ علينا هذا المؤرخ؟!

جلال الموت وجلال الحقيقة

( 2 من 6)

محمد وقيع الله

 

في الحلقة الماضية ناقشنا ادعاءات القدال التي اوردها عن المنهج والتوثيق واتضح لنا انه لا يفقه كثيرا في امر المنهج أو امر التوثيق، وأنه يركز تركيزا مفرطا بلا موجب على (شكليات) مناهج البحث العلمي، ومع ذلك فهو لا يقدم تعريفا محددا للمصطلحات التي يتشدق بها من مصطلحات (شكليات) مناهج البحث العلمي كالوثيقة والملحق.

وفي هذه الحلقة نناقش بعض ما اخذه القدال على محتويات كتاب ( الإخوان وسنوات مايو)، ونناقش بعض افكار القدال، قبل ان نعود في الحلقة السادسة والأخيرة لنناقش مستوى فهم القدال لقضايا المنهج، لاسيما منهج التحليل المادي الماركسي الذي يعتنقه ولا يفقهه. ولنبدأ  بحديثه عن مثقفي الحركة الإسلامية السودانية.

مثقفو الحركة الإسلامية السودانية:

 أخذ علي أن علي أني قلت في كناب ( الإخوان وسنوات مايو): "إن الحركة الإسلامية  السودانية تتبنى الجانب العملي بعيدا عن الإعلام الكثيف والبرامج المكررة، وحتى في الجانب الفكري فإنتاجها قليل للغاية، هذا مع ملاحظة أنها ربما كانت تضم أكبر عدد يمكن أن تضمه حركة اسلامية أو اجتماعية من المثقفين في كل عالمنا العربي أو الإفريقي ".

وعقب القدال  على ذلك قائلا:" أما ما قاله عن تبني الحركة للجانب العملي إلخ، فإن ممارسة الإخوان السياسية منذ مطلع ثورة أكتوبر وحتى يومنا هذا، تدحض هذا الزعم. أما الجزء الأخير من الفقرة فهو مليء بالتناقضات. فإذا كانت الحركة تضم أكبر عدد من المثقفين، فكيف يكون انتاجها الفكري قليلا؟ هل لأن مثقفيها كسالى؟ أم لأن القضايا التي يفرزها الصراع الاجتماعي غير جديرة باهتمامهم؟ أم هم في الأساس ليسوا بتلك الكثرة؟ أم ان الحركة لا تعتمد على الدراسة بل على الغوغائية والتهريج؟ وكيف عرف الكاتب أن الحركة تضم أكبر عدد من المثقفين بالنسبة للحركات الأخرى في العالم العربي والأفريقي؟ هل أجرى مقارنة مع تلك الحركات؟ إن مثل هذه الأحكام الفطيرة لا تناسب كتابا للنشر "

إن القدال بطبيعته النفسية المستفَزة العدائية غير المنضبطة لا يقبل ان يسمع شيئا إيجاببا أبدا عن الحركة الإسلامية السودانية، ولهذا السبب فإنه لن يهنأ له عيش طوال حياته، فسمعة الحركة الإسلامية السودانية في الأساس سمعة طيبة وحميدة على المستوى المحلي والعالمي، وإن  كان أكثر الإعلاميين المحليين والعالميين قد اكثروا من التهجم والدس عليها.

وأما بخصوص ما نحن فيه من حديث المستوى الثقافي والفكري لنخبة الحركة الإسلامية التي تحكم السودان الآن فدعنا نعرض عن رأي القدال الاستنكاري غير المنصف، ولنستمع إلى وجهة نظر محترمة لمفكر عالمي كبير هو البروفسور مراد هوفمان، خريج جامعة هارفارد، والسفير الألماني الأسبق في المغرب، والداعية الكبير من دعاة حوار الحضارات حاليا

إن مراد هوفمان يشهد الآن للحركة الإسلامية السودانية بمثل ما شهدت لها به في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. يقول البروفسور في هذا:" إنني لا أعرف أي بلد فقير آخر في العالم تتمتع قيادته الصغيرة المثقفة بثقافة عالية جدا كما هي الحال في السودان".. ص 270 من كتابه ( الإسلام في الألفية الثالثة)  الذي صدر بالعربية في عام 2004م.

وكفى بهذه الشهادة الصادرة عن مراد هوفمان شرفا للحركة الإسلامية السودانية، وكفى بها دليلا يدحض تخرصات القدال المنبعثة عن عن الحقد والكراهيته السوقية للإسلاميين، سودانيين كانوا او غير سودانيين، وكفي بها دليلا يؤيد ما سبقنا اليه بهذا الخصوص قبل اكثر من عشرين عاماً من الزمان.

واما ما أثاره القدال عن قلة الانتاج الفكري للإسلاميين السودانيين فلا ينفي تمكنهم من شؤون الثقافة كما زعم القدال، فهذا تعليل سهل بسيط، أو تبسيطي كما يقال في هذه الأيام، ولا تلجأ لمثل هذه التبسيطات إلا العقول المحدودة المكدودة أو التي يعميها الهوى والضغن كما هو في حال القدال.

ولقد كنت أقرب إلى منهج العلم وإلى الصواب عندما أكدت على ثقافة الإسلاميين الكبيرة، ثم انتقدتهم على قلة إنتاجهم العلمي والفكري، فوصفت الظاهرة أولا بحيادية تامة، كما يتطلب ذلك العلم الشريف، ثم بحثت عن التعليل المناسب لقلة انتاج الإسلاميين للدراسات العلمية والفكرية، فأشرت إلى نزعتهم العملية لا النظرية في حركتهم الإسلامية التي تفوقت ولا تزال تتفوق على صعيد الواقع أكثر مما تتفوق على الصعيد النظري، وقد انتقدت تعالي الإسلاميين السودانيين على حمل القلم وتحمل تبعاته في اكثر من لقاء صحفي أُجري معي.

 الاخطبوط الشيوعي:

وإذا انتقلنا من الحركة الإسلامية الى خصمها الحزب الشيوعي، فقد نعى علي القدال أن وصفت ذلك الحزب بانه كان اخطبوطا، وقد أطلقت عليه هذا الوصف لأنه كان يتمدد في النقابات والإتحادات وفي القوات المسلحة وأجهزة الأمن والأجهزة الإعلامية.

 وقد كان الحزب الشيوعي  يخترق الأحزاب والتكتلات السياسية الأخرى. وما رأي القدال اذا قلت له إن هذا هو رأيي حتى اليوم في الحزب الشيوعي السوداني. فهذا الحزب ما يزال اخطبوطا له ثمانية أرجل.

 حيث تجد له رجلا في كل حزب، فرجل في الحركة الشعبية بجنوب السودان، ورجل في جبهة الشرق، ورجل في حركة محمد نور في الغرب، ورجل في حركة تحرير النوبة بشمال السودان، ورجل في حزب الأمة، ورجل في التجمع الوطني، ورجلان في الحزب الاتحادي الديمقراطي!!.

 وإنني  لمستمسك اشد الاستمساك بوصفي للحزب الشيوعي بأنه كان وما يزال اخطبوطا فظيعا. ولولا ذلك لما تمكن من التخطيط لعدة انقلابات عسكرية فشلت كلها بحمد الله، ونجا الله تعالى السودان منها، وإلا لذاق ما ذاقت افغانستان من ويلات العذاب بسبب استيلاء الشيوعيين عليها في السبعينيات، ولولا ذلك لما وجدت آثار هذا الحزب المدمرة في جميع حركات التمرد والارهاب والتخلف بالبلاد!!

والغريب أن القدال جاء  في مقال آخر له ليوافقني على هذا وصف الحزب الشيوعي بأه اخطبوط، مما يدل على عدم اتساقه الفكري وعدم موضوعيته على الاطلاق، فهو القائل :"وبمناسبة الحديث عن التأهيل التاريخي، يخطر على بالي موقف الحزب الشيوعي بعد ثورة أكتوبر 1964. فقد خرج الحزب من فترة الدكتاتورية العسكرية نجماً ساطعاً في سماء السياسة السودانية. فشارك في حكومة أكتوبر، واكتسح دوائر الخريجين، ونافست جريدته الميدان الجرائد المستقلة، وبرز عبد الخالق بقدرات كارزمية. واندفع بعض قادته نحو السلطة دون أن يمتلك الحزب التأهيل التاريخي ". أليس ذلك هو وصف الاخطبوط بعينه؟! وإذا كان الامر كذلك فلماذا لم يأخذ القدال على شيعته الشيوعية انخراطها في الانقلابات العسكرية المتوالية التي انتحروا ونحروا بها أكبر قادة الحزب؟!

وفي قلة استبصار واضحة وهوس نقدي فادح قال القدال عني في هذا السياق  :"ولكن يبدو أن الكاتب مصاب بلوثة الشيوعية ". وهنا أحمد لله تعالى أن جعل قلم القدال غير الحصيف يزل زلة كبرى فيصف عقيدته الشيوعية بأنها مجرد لوثة! وإنها والله تعالى كما قال!!

وأقول له إني ولله الحمد لست مصاباً بلوثة شيوعية، فقد حرصت منذ نشأتي الأولى على  حماية عقلي من كل ما يمكن ان يلوثة، وكنت منذ صباي الباكر قد عاهدت نفسي على صيانة عقلي من أمرين اثنين يضران بالعقل الإنساني أشد الإضرار. أولهما: الخمر وثانيهما: الشيوعية.

ولا عجب في قرن الشيوعية بالخمر، فكلا هذين الداءين العظيمين، في اعتقادي لوْث يلوُث العقل، ويخامره، ويحجب عنه سبيل الرشاد.

 

التأهيل التاريخ الإسلامي:

وقد سأل القدال نفسه ثم أجاب. سأل أولا فقال:" نأتي للسؤال الثاني وهو: كيف تمكن حزب الجبهة من البقاء في السلطة قرابة 18 عاما وربما امتد أجلها؟" وقد أجاب عن سؤاله فقال:" تكمن الإجابة على السؤال في طيات المنهج الذي اتبعه في العمل السياسي وفي قدراته كحزب لا تأهيل تاريخي له ولا قاعدة جماهيرية واعية يرتكز عليها. . كنت أعتقد مثل كثيرين غيري أن بقاء الحزب في السلطة لن يستمر أكثر من أسابيع وربما أشهر، وأنه مثل لوح الثلج الذي يذوب من تلقاء نفسه. وكان سبب ذلك قصر النظر والثقة المبالغة في قدرات الحركة السياسية، وكأن تلك الحركة تعمل بالدفع الآلي ".

وهذا اعتراف جميل من شخص كان يدعي حتى الآن أنه (مؤرخ) يعرف أسباب الأحداث التاريخية، وعوامل تعاقبها، وتأثير بعضها في بعض، فهاهو يعترف الآن على نفسه بقصر النظر، والتمسك بالاعتقادات الساذجة بأن الحركة السياسية السودانية تسير بقوة الدفع الآلي (لا الديالكتيكي!)

ولكنا نقدر هذا الاعتراف من القدال على نفسه بالسذاجة والقصور، وذلك بالرغم من أنه لم يأت مدفوعا بدوافع بالرجوع إلى الحق والرضوخ له، ولا حتى طلب معرفة الحقيقة، ولم تكن معرفة الحقيقة صعبة في هذه الناحية، كما لم تكن الإجابة على السؤال الذي جعله محورا لمقالاته الأربعة (الإنقاذ بعد 18 عاما) صعبة إلى هذا الحد. ولا شك أن ما قاد القدال إلى التردي في هذا الخطأ والامتناع عن الخروج عنه هو الهوى لا غير، فقد جره هواه إلى افتراض أمور غير صحيحة منذ البدء.

فقد افترض أن الجبهة الإسلامية لم تكن تمتلك التأهيل التاريخي والشعبية الكافية. وهذا افتراض خاطئ فالحركة الإسلامية كانت تكتلا بالغ القوة والتأهيل لاستلام السلطة. وقد كانت قد بلغت سن النضج بانصرام اربعين عاما من العمل السياسي اليومي المتصل حتى استلمت السلطة، وكانت قد انتشرت في القطاع الحديث المؤثر في مجريات الامور العامة  كما اتضح من ادائها الجيد في انتخابات 1985م حين نالت دوائر الخريجين، وكانت اكثر الاحزاب السياسية من حيث نيل الأصوات في مدن العاصمة المثلثة، وكانت تسيطر على الحركة الطالبية التي تنتج الزعامات السياسية، وكان لها وجود مؤثر في النقابات المهنية وفي الجيش.

 إذن فقد كانت الجبهة الإسلامية مكتملة التأهيل السياسي حين قامت بالانقلاب في عام 1989م. إن هذا ما يستطيع أي محلل سياسي متجرد أن يقوله يقوله، ولكن القدال لا يستطيع أن يقوله قط، وذلك لسبب بسيط، هو أنه يكره الحركة الإسلامية كراهية عارمة، ومن هنا تتأثر قدراته العلمية بأهوائه الذاتية، التي لا ينبغي أن تتدخل في هذا الأمر. وهذا ما يدعونه في لغة مناهج البحث بالتحيز    

 (Bias)

وهو ما نحذر طلابنا حين ندرسهم مناهج البحث من التورط فيه، ونحضهم على ممارسة الموضوعية، والتحلي ما أمكن بالحياد والاعتدال، ومجانفة اثم التعصب، وتجنب حشر القضايا الشخصية، والالتزامات الحزبية والتنظيمية، حين يخوضون غمار البحث العلمي الصحيح.

 

 

 

مالذي جرأ علينا هذا المؤرخ؟!

جلال الموت وجلال الحقيقة

( 4 من 6)

محمد وقيع الله

 

 

 

لأن البروفسور القدال مصاب إصابة مميتة بالتحيز العقلي، فإنه يأتينا بهذا الخلط التحليلي العجيب، الذي يتحدث فيه عن القوى التي تصنع الإرهاب العالمي، أو ما سماه بالمثلث اللعين، الذي أضلاعه هي: " الولايات المتحدة الأمريكية، إسرائيل، والهوس الديني".

 واذا عرفنا ان تعريف القدال للهوس الديني يشمل اي استخدام للدين في المجال العام، لأدركنا على الفور انه يضع الحركات الاسلامية جميعا لا سيما الحركة الإسلامية السودانية التي يشرق بعداوتها ليل نهار، في إطار هذا المثلث اللعين، سواء بسواء مع الضلعين العتيدين امريكا واسرائيل!!

واذن فيكون اعداء البشرية واعداء الحضارة المعاصرة – طبقا للقدال- هم الأمريكيون والإسرائيليون والإسلاميون على التوالي. وأما حركات التمرد العنصرية التخريبية التي  ينتجها الحزب الشيوعي  السوداني ويشجعها ويقودها ابناؤه السابقون والحاليون، فهي حركات لا تشغل القدال ولا تستحوذ على اهتمامه لأنها لا تصل الى مستوى الكارثة التي تدمر حضارة عصرنا (الرسمالية!)

الماركسية لا تعترف بالحضارة كوحدة تحليل:

والكاتب الشيوعي محمد سعيد القدال لا يعرف ان النظرية الماركسية التي يدين هو  بها منهاجا وفكرا لا تعترف بالحضارة كوحدة تحليل، ولا تعترف بوحدة تحليل اخرى غير الطبقة الاقتصادية على المستوى القومي، أو النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي على المستوى الدولي.

 وفي هذه  الحال فاذا أراد القدال ان يتحدث عن مستوى تحليلي عالمي فلا يسوغ له - من  منطلق ماركسي - الا ان يتحدث عن النظام الرأسمالي العالمي. وفي هذه الحال فلا يحق له – من المنطلق الماركسي إياه - ان يبدي مشاعر الشفقة والقلق على مصائر ذلك النظام الاستغلالي الطفيلي الذي يمتص ثروات الشعوب الاخرى، قائلاً:" يكاد المرء يجن وهو يرى ويسمع ويقرأ عن القتل والدمار الذي يجتاح عالمنا اليوم "!

 وبعدما فرغ القدال من حشد شهادات ساذجة ضد الولايات المتحدة،  خلاصتها ان الولايات المتحدة دولة غنية، وأن شركاتها تسيطر على التجارة الدولية وتساعد الدول التي تنتهك حقوق الإنسان، أقبل على بلاد الحرمين الشريفين، ومهوى قلوب المسلمين، ليستنكر حالة الصحو الديني فيها وليشجب حركة سوْق الناس الى الصلاة وقال:" خرجت من كنف المملكة السعودية الأفكار التي تشكل مرتكز الهوس الديني، مثل تكفير عمل النساء، وتكفير من يقول بكروية الأرض، ومن يقول بالاشتراكية، وجحافل المطوعين الذي يسوقون الناس للصلاة كالسوائم، والحجاب المفرط. كما احتضنت ومولت الحركات الدينية المعارضة في بلادها وهيأت لها ملجأ تستظل به. فهي تشهر سلاح الإلحاد في وجه كل من يختلف معها سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الفيزياء. وعندما زاد تدفق البترول زاد سعار الهوس الديني وزاد الارتباط بأمريكا ".

تضخيم الظواهر الصغيرة:

 إن المملكة السعودية والسعوديون لهم أقدر على الدفاع عن انفسهم بأنفسهم، ولا يحتاجوني لكي أدافع عنهم، فلأتركنهم يدافعون عن انفسهم بانفسهم، ولكني أدافع عن الإسلام، وأدافع عن منطق العقل والبداهة الذي اعتدى عليه المنطق التحليلي الماركسي الذي اصبح منطقا ساذجا عندما استخدمه هذا القدال.

وإلا فليخبرنا هذا القدال من هو الذي كفر عمل النساء في السعودية؟! هل هنالك شخص واحد، عالم أو غير عالم، سعودي او غير سعودي قال؟! بهذا ليعطنا القدال اسم شخص واحد، عالم أو غير عالم، سعودي او غير سعودي قال بهذا.

 ان القدال عندما يسوق هذه الدعاوى المفتراة المنكرة فانه يسوقها وكأنها قد صارت ظاهرة كبرى عمادها طائفة مهولة من الناس يقولون بها. وهذا غير صحيح البتة  وما زلنا نتحدى القدال ان يبرز لنا اسم شخص واحد قال بهذا لا اسمين اثنين ولن يستطيع!

أما حديثه الأشد نكارة عن الصلاة وسوق الناس لها كالانعام، فهو حديث شخص لا يحترم أديان الناس ولا سلوكياتهم ولا أعرافهم القويمة.

 ففي ديننا الإسلامي يجب على الناس أن يسعوا الى المساجد متى ما سمعوا النداء، ويحق لولي الأمر ان يجبر الناس على الصلاة.

وتتفق مذاهبنا الإسلامية الأربعة على ان لولي الأمر أن يعزِّر تارك الصلاة بتعزيرات مختلفة قد تصل الى القتل حتى ولو لم ينكر شرعية الصلاة. فليس من الارهاب في شيئ إذن ان يؤمر الناس بالذهاب الى الصلاة، وهم في العادة يذهبون طواعية متى سمعوا النداء، ومن تباطأ لكسل أو هوى او استخفاف حث على الذهاب الى الصلاة، ومن تلكأ زجر، ومن تهرب فقد تلحقه عصا المحتسب الإسلامي بحق، لأنه  شخص يريد ان يشق عصا الطاعة ويشق الصف المسلم ويماري في أولى مقتضيات الدين العملية.

 وفي هذا يقول الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }الحج41. فأولى واجبات الشكر على التمكين في الارض أن تقيم الصلاة. وهذا مما يشرف ولاة الأمر في البلاد السعودية أن يلزموا الناس بإقام الصلاة في الجماعة، وكم اتمنى ان يأتي اليوم الذي نرى مثل هذا في سودان الانقاذ وما بعد الانقاذ!

إن الناس لا يساقون إلى الصلاة سوق السوائم كما عبر القدال عن ذلك بلفظ بذئ مسئ مؤذ لضمائر المسلمين ودينهم، وهو لفظ يجب على القدال أن يعود ويعتذر عن تلفظه به، لا اقول ان كان في قلبه مثقال ذرة من ايمان، بل ان كان في قلبه مثقال ذرة من احترام لعقائد الناس.

وأما حديث القدال عن الحجاب المفرط، فما شأن  هذا الماركسي العتيق المتجمد والحجاب، مفرطا كان أو غير مفرط، وما شأن الحجاب او النقاب مفرطين كانا او غير مفرطين بالإرهاب؟!

 أهذا منطق تحليلي لأستاذ جامعي يحترم حرمة العلم او العقل او الذوق او المشاعر او الآداب الاجتماعية للشعوب؟!

ما هي علاقة الحجاب بالإرهاب؟

إن الحجاب او النقاب شأن نسوي بحت، ولم تبرز لنا اي دراسة اجتماعية علمية إحصائية جادة أي صلة تبعية بين الحجاب والإرهاب، حيث لم يذكر لنا أي باحث محترم قبل هذا  القدال ولا بعده أن الحجاب يسبب الإرهاب، ولكن هذا  القدال بسبب من كراهيته المفرطة لأي مظهر اجتماعي إسلامي يشن هجومه هذا المفرط على الحجاب، ولا يريد ان يرى مظهر الحجاب في شوارعنا الإسلامية على الإطلاق، حتى ولو انتهت ظاهرة الارهاب التي يتظاهر بالشكوى منها في كتاباته في هذه الايام، فهو لا يريد بكتاباته هذه إلا ان يحارب جميع مظاهر الصحو والالتزام الإسلامي المجيد، وهيهات!

 

 

مالذي جرأ علينا هذا المؤرخ؟!

جلال الموت وجلال الحقيقة

( 5 من 6)

محمد وقيع الله

 

 

 

تحدثنا في الحلقة الأولى من هذا المقال ادعاءات القدال التي اوردها عن المنهج  والتوثيق واتضح لنا انه لا يفقه كثيرا في أي منهما.

وفي الحلقة الثانية ناقشنا بعض ما اخذه القدال على محتويات كتاب (الإخوان وسنوات مايو)، كما ناقشنا بعض افكار القدال الجانبية.

 وفي هذه الحلقة نناقش مستوى فهم القدال لقضايا المنهج، لاسيما منهج التحليل المادي الماركسي الذي يعتنقه ولا يفقهه. ولنبدأ  بحديثه عن تاريخانية القرآن ولا تاريخانية الماركسية.

تاريخانية القرآن:

لقد أخذ القدال معظم حديثه عن تاريخانية القرآن عن محمد أركون، الذي أخذ جله من دهاقنة المستشرقين من تلاميذ اليهودي المجري إجناس غولدريهر، الذي اراد ان يطبق المنهجية التي يتعامل بها الغربيون مع نصوص التوراة والإنجيل، في تعامله مع القرآن والحديث، وانتهى من أبحاثه المشبوهة إلى ان كل احاديث النبي، صلى الله عليه وسلم، منتحلة ومكذوبة عليه، وأن جميع آيات القرآن نسبية تاريخانية رمزية لا مطلقة الصحة ولا صالحة لكل زمان ومكان كما يزعم المسلمون، وأن آيات القرآن ينبغي ان تخضع للنقد التاريخي، لتوضع في إطارها الذي يقيدها في الماضي الذي جاءت فيه وإليه.

هذه المنهجية النقدية التاريخانية التي تعامل بها العلماء الغربيون مع نصوصهم(المقدسة) يريد أمثال القدال أن ينقلوها إلينا لكي يعاملوا بها القرآن الكريم، وبهذه المنهجية المشبوهة يريدون ان يقنعوا المثقفين أن القرآن الكريم هو مجرد اقوال تاريخية تتعلق بالماضي لا بالحاضر، وأن احكامه تنحصر في حالات معينة خاصة، وبالتالي فهو بالتالي مادة خصبة للدراسات الأنثروبولوجية الطريفة، التي تتناول ثقافات الناس وتشريعاتهم وأحوالهم في الماضي البعيد.

 ولحسن الحظ فإن هذه الأمة الإسلامية فقد زودها تراثها الفكري والتشريعي الأصولي الإسلامي، بما عالج هذه الدعوى (التاريخانية) وحسم مادتها منذ قديم الزمان.

يقول شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية الذي تصدى لدعوى التاريخانية من قبل أن يثيرها من احتطب القدال من ترهاتهم من المستشرقين وأتباعهم:" قد يجئ هذا {الإدعاء} كثيراً، ومن هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لاسيما إن كان المذكور شخصا كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله، وأن قوله: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ }المائدة49، نزلت في بني قريظة وبني النضير، ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين.

فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، هذا ما لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق {أيها القدال!} والناس إن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه، فلم يقل أحد إن عموميات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال إنها تختص بنوع ذلك الشخص، فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ.

 والآية التي لها سبب معين، إن كانت أمرا أو نهيا، فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كان خبرا يمدح أو يذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته ".

 وإذن فإن العبرة هي بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يريدنا التاريخانيون أن نفهم القرآن الكريم، فنحن نفهمه من أئمة الدين المخلصين الورعين، لا من أصحاب العلم المغشوش، من أمثال المستشرق المجري اليهودي إغناز غولدريهر، والجزائري المتفسخ محمد أركون، وتابعهما السوداني القدال.

ولا تاريخانية رأس المال:

وهذا القدال الذي يرى ان نصوص القرآن الكريم نصوص تاريخانية نسبية غير مطلقة الحكم، يؤمن إيمانا دوغمائيا عتيقا بأن النظرية الماركسية نظرية مطلقة الصحة والحكم، وأنها تصلح لكل زمان ومكان.

ولذلك فإنه عندما كتب أطروحته عن (السياسة الاقتصادية للدولة المهدية) راح يطبق أحكام النظرية الماركسية الكلاسيكية حرفيا على الأوضاع الاقتصادية لفترة تاريخية مختلفة  تماما عن التاريخ الأوروبي، كفترة الثورة المهدية، وقد فعل ذلك بتطرف شديد، حيث انتهى من دراسته الى ان آيديولوجية الإمام المهدي وفقهه (أوشعاراته كما قال!) ليس لها أثر في اقتصاديات الدولة المهدية!

وقد حاول القدال بجهد بائس، أن يؤكد في هذا الكتاب على مطلق الصحة وتمامها في نصوص النظرية الماركسية التقليدية، التي تقول إن الإقتصاد هو الذي ينشيء الآيديولوجيا لا العكس.

 ولذلك فقد ذكر في خاتمة كتابه قوله: " تبدو السياسة الاقتصادية للدولة المهدية أكثر جلاء إذا فحصناها خارج إطار الشعارات العريضة التي أطلقتها، مثل الجهاد ضد أعداء الله، ولا تعاون مع الكفرة، والقضاء على الترك وخلافها. فمن جانب كانت تلك السياسة تعبيرا عن تيارات العصر المتقدمة وقواها الاجتماعية، فقد كان السودان يمر في تلك الفترة بمرحلة انتقال من نظام اقطاعي وشبه اقطاعي إلى مرحلة سابقة لنمط الإنتاج الرأسمالي، وفي تلك المرحلة تلعب التجارة دوراً متقدماً في النشاط الاقتصادي، وفي تراكم رأس المال التجاري. فهي المرحلة التي تتسم بالنشاط المتزايد للتشكيلة التجارية، وهي سمة المرحلة الوسيطة هذه. فالسياسة الاقتصادية للدولة المهدية لا يستقيم أمر دراستها خارج هذا الإطار ".

 إن انسياق القدال مع التقسيمات النظرية الماركسية للتاريخ (الأوروبي بطبيعة الحال!) هو الذي ورطه في القول بهذا الادعاء والزعم غير المسبوق بوجود نظام اقطاعي في السودان، وهو أمر لم يحدثنا عنه أي مؤرخ جاد (أو غير جاد!).

 فنظام الإقطاع نظام اقتصادي نشأ لظروف خاصة في أوروبا في فترة تاريخية معينة، ولم ينشأ في الشرق المتخلف، ولم ينشأ بشكل خاص في السودان.

وهنا يمكن القول إن الماركسية صحيحة - في إطارها التاريخي - عندما تتحدث عن وجود النظام الإقطاعي الإقطاعي في أوروبا. ولكن هذا الحديث ينبغي أن يقتصر على أوروبا وحدها. لأن ماركس قصر تحليلاته على البيئة الأوروبية التي عاش فيها، ولم يدر بخاطره أن تلميذاً من تلاميذه، شديد التقديس له ولأقواله،  يدعى محمد سعيد القدال، سيظهر في السودان،  سيتطرف في فهمه لأقواله إلى هذا الحد، حيث يقوم بإضفاء الأوضاع والظروف التاريخية وأنماط الإنتاج الخاصة بالإقتصاد الأوروبي، في العصور الوسطى، على سودان القرن التاسع عشر، ويقوم من ثم بتفسير أحداث الثورة المهدية، التي هي حركة دينية في الأساس، ويفسر فقهها الاقتصادي، الذي هو فقه ديني في الأصل، من منطلق مادي ماركسي بحت!

وأرجو أن يرجع القراء إلى كتاب القدال العجيب هذا  حتى لا  يتهموني بالشطط في نقده، فقد كنت به رحيماً، وكان هو أقسى على نفسه مني، عندما أعلن في مقدمة كتابه أنه استهدي في تأليفه إياه بكتاب كارل ماركس المسمى بـ (التكوينات الاقتصادية السابقة للرأسمالية) ، وكتاب (التطور اللامتكافئ) للمفكر الماركسي المصري سمير امين، وكتاب (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط ) للمفكر الماركسي السوري الطيب تيزيني، وكتاب (النـزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) للمفكر الماركسي اللبناني حسين مرة، وكتاب (الثورة المهدية في السودان) للمفكر الماركسي السوفيتي سميرنوف!

 وهذه كتب مادية ديالكتيكية ليس من شأنها أن تعينه على فهم ظاهرة خارج سياقها العقائدي الصحيح كالثورة المهدية، التي يعرف الجميع أنها ثورة دينية استنبطت أحكامها وآليات فعلها من فقه الإمام المهدي وإلهاماته ومناماته؟! 

كارل ماركس ومعركة الجزيرة أبا:

وماعسى أن تفيد كتب تلاميذ ماركس هذا القدال بعد أن عجز كارل ماركس نفسه عن تفسير الثورة المهدية استهداء برؤيته المادية الديالكتيكية؟!

 فقد قيل إن كارل ماركس وزميله فريدريك إنجلز صعقا عندما وصلت اصداء معركة الجزيرة ابا في عام 1881م الى لندن. وقيل ان ماركس خاطب إنجلز معبرا عن ضرورة أن يعيدا النظر في تحليل دور الدين في عمليات الصراع ضد الرأسمالية، لأن معركة الجزيرة ابا ابانت عن ان الدين يمكن ان يكون عاملا ايجابيا في الصراع ضد الراسمالية، ولا يصير مجرد افيون تخدر به الراسمألية الشعوب المستغلة والمستعمرة. ولو صح ما نقل عن الفيلسوفين الشيوعيين الكبيرين فانه يمكن ان يعد دليلا على اعتراف منهما، او من ماركس على الأقل، بخطأ توصيف الدين على انه اداة تخدير  للشعوب، ونص كلام ماركس يقول عن الدين إنه "  قاعدة المجتمع العامة للتعزية والمواساة والتبرير ". 

ومنه يستطرد ليقول: " إن البؤس الديني هو تعبير ليس إلا عن حالة البؤس الحياتي الحقيقي واحتجاج عليه. وهو ملاذ المخلوقات المستضعفة، وقلب لعالم لا قلب له، وروح لأوضاع لا روح فيها. وبالجملة فإن الدين قد أصبح أفيوناً للشعوب "!

راجع:

Karl Marx, 

Collective Works, Progress Publishers, Moscow,1975, p. 175. 

وقد زعم ماركس أن مهمة نقد الدين ينبغي أن تتصدر كافة الأولويات الفكرية والنقدية في العمل الشيوعي. وهذا هو الامر الذي يثابر عليه  فيما يبدو القدال اليوم.

وافترض ماركس ان المجتمع الإنساني يكون مرعباً حقاً عندما يكون مجتمعاً متديناً، كيف لا وقد استلبت صفات الإنسان الحقيقية منه لصالح الإله.

وزعم ماركس انه لا يوجد علاج للإنسان ولا للمجتمع ككل إلا باستئصال شأفة الدين من الجذور. ولذلك قال: " إن إلغاء الدين كوسيلة زائفة لإسعاد الإنسان، هو الوسيلة الحقيقة لإسعاد الإنسان. إن هذه الدعوة لإلغاء الدين إنما هي دعوة للبشر لتحطيم أوهامهم حول أحوالهم الخاصة والعامة، وإن تحطيم هذه الأوهام إنما هو في الحقيقة تحطيم أيضاً للحالة المرضية التي التي تنشئ في خواطرهم تلك الأحلام. ومن هنا فإن أول الواجبات يتمثل في تعرية اسباب تغريب الإنسان في صورها وأشكالها العلمانية وذلك بعد أن أكملنا الآن تعرية أسبابها الدينية". راجع هذا النص بتمامه في كتاب:

 

T.B. Bottomore, Karl Marx: Selected Writings in Sociology and Social Philosophy, Penguin Books, 1963,p.41

 

وقد ذكر ماركس ان  صلاح المجتمع – بعد شفائه من داء التدين! – لا يتأتى إلا عبر العودة إلى حالة الطبيعة الإنسانية الأولى، وهي في نظره حالة تأليه الإنسان لنفسه. فالإنسان هو مركز الكون وإلهه الحقيقي، فإذا ألغى الإنسان من خاطره فكرة الإله المصنوع، فإنه يعود إلهاً أصيلاً متصفاً بكل صفات القوة والقدرة والفاعلية النافذة، فلا يستطيع أحد أن يستضعفه،ولا يحتاج حينئذٍ إلى دين مخدر يذهب عنه مؤقتاً آلام الاغتراب والظلم.

هذه الاوهام والتخرصات الماركسية هزتها وهزمتها فيما يبدو معركة الجزيرة أبا، وربما كان ماركس قد انتوى فعلا مراحعة افكاره وتعديلها ولكن المنية اخترمته بعد قليل من ذلك التاريخ كما هو معروف.، وبقي القدال يردد أفكاره القديمة المشكوك في صحتها ويحاول أن يفسر أحداث الثورة المهدية وفقهها على هداها !

 

 

 

مالذي جرأ علينا هذا المؤرخ؟!

جلال الموت وجلال الحقيقة

( 6 من 6)

محمد وقيع الله

 

للبروفسور القدال إفادات نظرية متخبطة جدا حينما يتحدث عن الديمقراطية، فهو عندما يتكلم عنها يتكلم كماركسي نسي ماركسيته أو تناساها، ثم يتذكر ماركسيته فيعود ليستدرك ما قال. أنظر إليه مثلا حين يقول:" إن إجراء الانتخابات ليس حلا سحريا، فلن تأتي الانتخابات بالحلول السحرية وإنما هي وسيلة تفتح الطريق لإيجاد الحلول التي تواجه المجتمع". إن الشطر الأول من هذه المقولة  يمكن أن نضرب عنه صفحا، لنفحص شطرها الثاني الذي يزعم أن الانتخابات يمكن ان تكون وسيلة لإيجاد الحلول التي تواجه المجتمع. فهل هذه مقولة ماركسية صحيحة، أو هي مقولة تتفق مع جوهر النظرية الماركسية؟!

هل الديمقراطية ممكنة؟!      

 إن كارل ماركس كان يقول بزيف الديمقراطية، وعدم جدواها، وتنافيها مع مبدأ الصراع الطبقي الذي كان يدين به ويدعو إليه. فالديمقراطية - بنظر ماركس- غير ممكنة قبل الثورة، إذ لا تعدو ان تكون آنذاك أداة لتكريس سطوة الطبقة الرأسمالية الحاكمة وقهرها، فالناخبون ليسوا جديرين بمعرفة مصالحهم أبدا، لأنهم ضحايا عملية غسيل المخ الهائلة التي مارستها وتمارسها فيهم البِنيتين الدنيا العليا للمجتمع الرأسمالي. ولا يمكن أن يكون للديمقراطية أدنى جدوى إلا في المجتمع الشيوعي (المستقبلي) الذي يتملك فيه العمال جميع وسائل الإنتاج، ويزول عنه تأثير الوعي الزائف الموروث من حقبة المجتمع الرأسمالي.

وطبقا لآراء ماركس هذه فإن الديمقراطية لا تجدي ممارستها إلا عند أبناء الجيل الثاني أو الثالث من المجتمع الشيوعي الموعود. والطريف أن ماركس سمى هذا الضرب من الديمقراطية التي نادى بها وبشر بها بدكتاتورية الطبقة العاملة!

ولكن يمكن للمرء ان يحترم كارل ماركس في هذه الناحية، لأنه كان أمينا، ومتسقا مع نفسه، برفضه للتجزئة البراغماتية الانتهازية للفكر والنظرية، فالديمقراطية - كما أنبأنا ماركس- لا محل لها ولا احترام لها في الفكر الشيوعي الأصيل، ولكننا عند هذا القدال فكرة حسنة: " ووسيلة تفتح الطريق لإيجاد الحلول التي تواجه المجتمع ". فمن أين أتى القدال بهذا الكلام الذي خرج به على منطوق النظرية الماركسية وصادم به مقدماتها ونتائجها؟!

والغريب أن القدال عندما يحاول أن يكون محللا لشأن العملية الديمقراطية الانتخابية ينسى تأثير العامل الاقتصادي في الموضوع. يقول القدال:" إن الناس لا تذهب لتدلي بصوتها وكأنهم آلات. إن الإدلاء بالصوت الانتخابي عملية معقدة تحكمها عدة عوامل. وبالنسبة لبلد مثل السودان فإن تلك العوامل متعددة ومتشابكة، وقد لا يوجد مثلها في البلاد الأخرى. أولها المناخ السياسي السائد الذي يلقي بظلاله على الناخبين. وثانيها الأوضاع الإقليمية والعالمية التي لها أثرها المباشر وغير المباشر. وثالثها المناورات السياسية، ولكنها محكومة بالعاملين السابقين، ومحكومة بالقاعدة الاجتماعية التي تحكم مجرى العملية الانتخابية ونتائجها، مما يجعل تأثيرها محدودا وليس مطلقا ".

وههنا يحق للقارئ أن يتساءل: أين العامل الاقتصادي الذي تشدد الماركسية على أنه العامل الأساسي في كل شيئ؟ هل نسيه القدال وغفل عن أن يدرجه هنا ولو كعامل ثانوي متأخر؟!. ولماذا ذكره القدال عقب انتخابات 1985م وفوز الجبهة الإسلامية القومية الكاسح بدوائر خريجيها وقال إن العامل الاقتصادي كان هو السبب الأساسي في فوز الإسلاميين بتلك الدوائر؟!

ويا ترى هل كان القدال يفكر ماركسيا في تلك الأيام في الثمانينيات، ثم فترت حماسته للتحليل المادي الماركسي الآن، ويئس من جدواه تماما، وإن لم ييأس بعد من جدوى الانتماء للحزب الشيوعي السوداني، بقيادة المتجمدين على الماركسية التقليدية من أمثال التيجاني الطيب، وسليمان حامد، والديناصورات التي تتربع على قمة قيادة الحزب الهرم!

وبعد أن أغفل القدال في مقام التحليل الإشارة إلى تأثير العامل الاقتصادي في الانتخابات، رجع من أن يشعر واستشهد في خاتمة مقاله - وليس في الجزء التحليلي منه - وذكره بدون أدنى مناسبة مهمة، وبشكل مبهم، وذلك عندما استشهد بقول لعبد الخالق محجوب جاء في:" إن الديمقراطية اللبرالية في السودان تقف حجر عثرة في طريق التطور الرأسمالي وتشكل عقبات أمام الاندفاع السريع لخلق مجتمع مختلط من الرأسمالية ومواقع التخلف. والتنمية في طريق الرأسمالية تقترن بالعنف في السودان ". وعقب القدال عليه قائلا:" هكذا انهارت التجربة الانتخابية الثانية ولم يمض عليها سوى بضعة أشهر رغم الأغلبية البرلمانية ".

 وإذا كان ذلك صحيحا فلماذا لم يذكره القدال وهو يباشر تحليل أسباب اخفاق الديمقراطية منذ البدء؟!

ومرة أخرى يبرهن القدال على أنه كاتب غير حصيف. إذ عاد فأدان ممارسات الأحزاب بعد ثورة أكتوبر قائلاً :" لم تحفل الأحزاب بأن الديمقراطية لا تلغي الاضطهاد الطبقي، ولكنها تجعله أكثر وضوحا. وكلما كان نظام الحكم ديمقراطيا، أصبح العمال أكثر قدرة على رؤية صور الشر في الرأسمالية. هذا ما قاله لينين قبل أن تندثر أقواله مع انهيار الاتحاد السوفيتي وتغيير اسم مدينة لينينغراد إلى بطرسبيرج ".

 (معليش نأسف على انهيار الإتحاد السوفيتي، وعلى تغيير اسم مدينة لينينغراد وعودتها إلى اسمها الأصلي بطرسبيرج!) .. ولكن نرجو أن يدلنا القدال- المشهور بولعه بالتوثيق! - على المرجع الذي وجد فيه هذا القول للينين. وأن يدلنا على مفهوم لينين للديمقراطية وتعريفه لها، وإن كان ذلك الفهم اللينيني متفقا مع الفهم الماركسي أم لا؟ 

وذلك لأننا نعرف أن ماركس لم يكن ير أي فائدة للعمل الديمقراطي على الإطلاق، وهذا هو الفهم المنطقي الذي يتفق ويتسق مع بنية النظرية الماركسية بشكل عام.

وبعد ذلك نقول إن مغزى هذا القول المنقول عن الزعيم الفكري والسياسي فريدريك لينين، هو نفسه مغزى قول عبد الخالق محجوب، وهو تعبير عن أهمية العامل الاقتصادي في تحريك الأحداث والتحولات في التجارب الديمقراطية، وهذا ما يبدو أن القدال يؤمن به. فلماذا إذن غفل عنه أثناء التحليل المتسرع وغير المتعمق وغير الناضج وغير الصحيح الذي قام به في شأن العوامل المؤثرة على الانتخابات الديمقراطية في السودان؟؟

 إن الإجابة الصحيحة تقول: إن القدال يبدو هنا شبيها بالصادق المهدي، عندما يسرد العوامل والأسباب في ست أو سبع نقاط، اعتباطا كما ترد على الذهن، وذلك قبل ان يقوم بعملية تحليل علمي متأنٍ  كامل شامل، يستخرج بعدها هذه العوامل والأسباب، التي لا يشترط دوما ان تأتي ستا أو سبعا!! فهذه منهجية صحفية، أو  لعلها شبيهة بمنهجية الونسة والنقاش السياسي العشوائي عند الطبقة الأرقى من طبقات العوام، والطبقة الأدنى من طبقات مفكري هذه الأيام!!

 

آراء