ماهو أبعد من غازي وعرمان … بقلم: د. أسامة عثمان

 


 

 

"فليكن الخلاف ولتبقَ حرية التعبير مبدءً يحترمه الجميع" كان هذا هو عنوان البيان القصير الذي أصدره الدكتور غازي صلاح الدين، رئيس كتلة نواب المؤتمر الوطني في البرلمان، بعد رد الفعل الذي أحدثه رده من داخل البرلمان على السيد ياسر عرمان رئيس كتلة نواب الحركة الشعبية عند مناقشة السمات العامة لتعديلات في القانون الجنائي بسبب رأي قال به عرمان في إطار النقاش.

 

ويبدو أن الدكتور غازي لم يكن يتوقع التداعيات التي ترتبت على رده الغاضب فأصدر هذا البيان المقتضب بيانا للأمر ودرءا للشبهات وربما تحوطا للعواقب الوخيمة التي قد تنجم عن ذلك الموقف وهذا أمر حسن من حيث المبدأ، ولكن بيان الايضاح رغم قصره قد أثار قضايا كبرى لم تكن ردود الفعل إلا بعض تجلّياتها.

 

بدءا فلنلخّص وجهة نظر كل من الطرفين كما أوردها بيان الدكتور غازي قبل أن نخوض في الأبعاد التي برزت إلى ذهننا عند إثارة القضية: يقول د. غازي- قلت كلاما أوجزه في نقطتين: الأولى موجهة نحو ما فهمته من كلام الأخ ياسر عرمان من أنه يوحي بأن العقوبات الإسلامية تستوجب المراجعة لأنها مهينة ولأنها تخالف الدستور والمتعارف عليه من حقوق الإنسان. والثانية تقول بأن تحريم الزنا ليس شيئا مجمعا عليه بين جميع الملل والثقافات، وأن القانون الجنائي ينبغي أن يستوعب هذه الحقيقة"

 ثم يمضي في تلخيص وجهة نظره قائلا: وقد رددت على ذلك بقولي "إن الإيحاء بأن العقوبات الإسلامية مهينة إساءة ترفضها الجمهرة الغالبة من أعضاء المجلس الوطني، وأن الزنا ممارسة تأباها جميع الأديان، وليس الإسلام وحده، بل أن الثقافات القبلية ترفضه أيضا، وأن سمته تسميات أخرى، مثل (كسر بيت) وقلت أتحدى أن تتقدم قبيلة من قبائل السودان لتقول إن الزنا ممارسة مقبولة أو مرغوبة لديها"

ثم يمضي صلاح الدين، في توضيح رأيه في قضية الزنا باعتباره ممارسة تأباها الفطرة الإنسانية وما لذلك من صلة بفلسفة التشريع وهذا هو السبب الذي جعله يرد بغضب كأنه يعتذر عنه عندما قال "مما يفسّر لماذا عبرت عن رأي بتلك القوة ".

 

وأورد السيد ياسر عرمان في تصريحات للصحف أبان فيها أنه طالب "بألا تطبّق العقوبات الحدية على غير المسلمين، وفقا لما ورد في اتفاقية نيفاشا، وأنه يطالب بأن يتم مراعاة الأعراف والتقاليد لغير المسلمين في وصف الزنا وعقوبته بدفع أبقار وغرامات مالية، ودعا إلى ضرورة مكافحة الفقر قبل الجريمة، وقال "إن العقوبات لا تصون المجتمع، وإن الشرائع دعت للمساواة والعدل قبل العقاب"  ما أوردناه أعلاه هو إذن خلاصة وجهات نظر الرجلين في سياق ما حدث.

 

عبارات عرمان أثارت ثلاث قضايا متداخلة وشائكة أولها أن السودان دولة متعددة الاعراق والثقافات وأن عقد المواطنة وليس الدين أو العرق هو الأساس في تنظيم الدولة وفقا لما جاء في تسوية نيفاشا ونصوصها والدستور الذي تمخّض عنها وبموجب ذلك فإن العقوبات الحدية لا تطبق على غير المسلمين، وإن مفهوم الزنا ليس مجمعا عليه بين أهل السودان بمللهم ونحلهم المختلفة ولقد ظل تاريخ التشريع في السودان مستلهما لذلك منذ بدايات القضاء في الدولة السنارية وسلطنة الفور وعلى عهد الحكم التركي ثم المهدية مرورا بالعهد الاستعماري والعهد الحديث والحوارات المطولة التي دارت عن تطبيق الشريعة في السودان وتعديل القوانين وما إلى ذلك مما يمثل إرثا قانونيا وتشريعيا شهدته قاعات البرلمان في عهود سابقة

 

وما ذلك الجدل إلا بسبب أن السودان ليس كله على دين واحد ومذهب واحد وطريقة حياة واحدة ولقد ظل القضاء باستمرار يستلهم في أحكامه قواعد العدالة والإنصاف والوجدان السليم والعرف وأضيفت «الشريعة الإسلامية» منذ تعديلات قوانين 1974، وإن ظلت الشريعة حاضرة في إطار العرف منذ الدولة السنارية، حيث ظل القضاء خليطا من الشريعة والأعراف القبلية وفي كثير من مناطق السودان تحكم الأعراف القبلية العلاقات وإن تناقضت مع ما ورد فيه نص في الشريعة الإسلامية وهذا الواقع ماثل حتى اليوم لم يبدله قيام الإنقاذ او تطبيق الشريعة وأقرت به اتفاقية نيفاشا التي تعتبر أساس شرعية الحكم القائم الوحيدة تعلو نصوصها على نصوص الدستور إن وقع خلاف.

 

ولقد شهدت بنفسي جلسة قبلية للفصل في منازعة بسبب معاشرة رجل من قبائل العرب الرحّل الذين يأتون في موسم معين لامرأة من إحدى قبائل جنوب النيل الأزرق انتهت الجلسة بتطبيق العرف الشائع في مثل هذه المنازعات، وهو دفع غرامة مقدارها بقرة واحدة لأهل الفتاة، ولم يتساءل أحد إن كان الرجل متزوجا أو غير متزوج ولم يفكر أحد في أن هذا الرجل مسلم والشريعة تسمي عمله هذا زنا أو غيره. ولم يكن ذلك في عهد الاستعمار وإنما في عهد القانون الجنائي الذي يجري تعديله الآن. فالعقوبة ليست لفعل الزنا وإنما للنيل من امرأة من قبيلة أخرى دون اللجوء للطرق المتبعة مما يهدد علاقات التعايش بين المجموعتين ولو واقع هذه الفتاة نفسها أحد أبناء قبيلتها لما انعقدت الجلسة أصلا. ما قول غازي في ممارسات القبائل التي تقتضي أن يخطف فيها الفتى فتاته ويهرب بها ويعود بعد سنوات مع أطفاله منها إلى أهلها ليدفع لهم المهر المقرر من الأبقار وينتهي الأمر.

 

هل ينطبق تعريف غازي على هذه الحالة "الزنا ممارسة تأباها الفطرة الإنسانية لانه نوع من الاختلاس والخيانة"؟ ولقد شهدت في موقع آخر من السودان أن أغاني الحكّامات تحث الفتاة على أن تترك لأبيها راع قبل أن تغادر بيته بسبب الزواج إلى بيت رجل آخر، لأن الطفل الذي تخلّفه وراءها سيساعد والدها في رعي القطيع ويقتضي العرف أن لا يتساءل أحد عن والد هذا الطفل وينسب إلى والد الفتاة وهذه القبائل فيها من يرعى الإبل وفيها من يرعى الأبقار ويعيش بعضها في قلب الشمال الذي يسود فيه القانون موضع التعديل ولو سمح المقام لاستزدنا من الأمثلة وفصلنا أكثر.وبيّنا أن ما قال به عرمان لا يعدو أن يكون ملاحظات رجل من شمال السودان استطاع أن يخرج من مركزية ذاته الاجتماعية ويتجاوز نزعة الاستعلاء وأحادية النظرة ليذكر بأن السودان الذي نحن بصدده سودان الجميع وليس سودان ثقافة واحدة مهيمنة وليس في ذلك ما يدعو للثورة.

 

ولا شك أن الكثير من القراء يمكنهم أن يوردوا عشرات الأمثلة مما يجعل الحديث عن أن القبائل ترفض الزنا وتسميه "كسر بيت" حديثا معمما لا يقيم حجة لأن دكتور غازي لم يبين لنا عن أية قبائل يتحدث وفي أي إطار وهل يفهم الأمر عندهم كما يفهمه هو ويريد أن يعاقبهم بنفس عقوبة المسلمين.

 

وفي إطار التعميم نفسه ذكر د.غازي صلاح الدين أن الأديان الأخرى، وهي عنده المسيحية والإسلام فقط، لأنه كسائر المسلمين يعتقد في أنه ينبغي أن يكون الاعتقاد منزلا من السماء حتى يسمى دينا، وبهذا الفهم لا دين غير اليهودية والنصرانية إلى جانب الإسلام. وقد تسآءلت الدكتورة سعاد الفاتح ذات يوم في مجلس الشعب الرابع على أيام مايو عند مناقشة بعض التعديلات الدستورية عن ما يسميه الدستور «كريم المعتقدات» قائلة "عرفنا المسيحية لكن ما هي «كريم المعتقدات» هذه ولماذا تصرون على تسمية الوثنية «كريم المعتقدات. ". لا شك أ ن الدكتور غازي يعرف أن اليهودية والمسيحية تعرّف الزنا تعريفا يحصره في معنى «زنا المحصن» عند المسلمين وتعتبره خيانة تقتضي نقض الزواج في المذاهب التي لا تسمح بالطلاق ولا تسمي العلاقات بين غير المتزوجين زنا.

 

خلاصة الأمر أن المسألة ليست بالإطلاقية التي أرادها دكتور غازي صلاح الدين، وإن ما نادى به عرمان من مراعاة الأعراف المحلية واحترام التنوع الثقافي في السودان هو امتداد لما نادى به فطاحلة رجال القانون في السودان من عهد أبي رنات حتى خلف الله الرشيد ودفع الله الرضي، وهم، كما عرمان، ليسوا ممن يدعون أن تشيع الفاحشة بين الناس، من ضرورة التوفيق بين مصادر القانون المختلفة بصورة تحقق التوازن بين الشرعي والعرفي والوضعي إذ ليس هنالك من تناقض بين أهداف القوانين باعتبار أن الغاية من تشريع قانون هي حماية الحقوق وتركيز قواعد العدل بين الناس وفق أحكام مرتضاة لا تخضع للهوى.

 

ومما هو ذو صلة بهذه النقطة مما أثاره حديث غازي وعرمان هو كيفية التعامل مع مواطنين في دولة واحدة عندما يكون القانون أساسه دين لا يدين به كل المواطنين فغازي يرى، كالبعض من علماء المسلمين، بأن تنويع العقوبة في نظام قانوني واحد ذريعة إلى الفساد، وعليه فهو يريد أن يخضع المواطن السوداني غير المسلم إلى الحدود وإن كفل لعرمان أن يقول بالعقوبات البديلة دون أن يكفّر بقوله ليس لأن ذلك حق يكفله الدستور أو تنادي به اتفاقية نيفاشا ولكن لأن «من بين علماء المسلمين من رأى ذلك الرأي بناء على ما ورد في الآية 42 من سورة المائدة: فإن جآءوك فأحكم بينهم أو أعرض عنهم» فالمرجعية دائما من داخل الدين الواحد كأنما الحديث عن عقد المواطنة والدستور والاتفاقات مجرد عبارات لا يستبطنها الناس في تفكيرهم وفيما ما يقولون.

 

وربما انطوى حديث غازي القطعي عن حرمة الزنا في المسيحية واليهودية وتحديه أن تأتيه قبيلة سودانية لتقول بغير ما يقول على نوع من الاستعلاء الديني، غير الواعي، إذا أحسنا الظن به. ذلك الاستعلاء الذي تجده لدى كثير من المثقفين السودانيين في شمال السودان لاسيما الإسلاميين من بينهم فهم كغيرهم من المثقفين ربما استنكفوا أن يوصفوا بالعنصرية أو الجهوية ولكنهم لا يتحرجون أن يوصفوا بالتعصب أو الاستعلاء الديني فهو عندهم خلة حسنة وغضب في الله وخط أحمر، أو ليسوا هم من خير أمة أخرجت للناس! وكثيرا ما أخفى الاستعلاء الديني الذي يبدو مبررا عندهم الكثير من أشكال الاستعلاء الأخرى. أمر الحجاج بن يوسف النصارى الذين أسلموا في العراق بالاستمرار في دفع الجزية على الرغم من إسلامهم لأنه قدر أن دخول أعداد كبيرة من النصارى للإسلام من شأنه أن يضعف من موارد الدولة وأنهم لم يدخلوا الإسلام إلا هروبا من دفع الجزية عن يد وهم صاغرون.فتأمل!

 

فغضبة غازي في البرلمان لم تكن مبررة بأية حال إن كان يستبطن حقا أن الاختلاف حق مشروع للآخر وأن المرجعية الإسلامية التي ينادي بها هي مرجعية ضمن مرجعيات أخرى وأن غير المسلم مواطن كامل الأهلية وأن غيره من المسلمين من حقهم أن يكون لهم فهم للدين غير ما يفهم. والاستعلاء الديني ليس وقفا على إسلاميي السودان فحسب. كان إمام مسجد روما الكبير في فترة التسعينيات، وهو شيخ أزهري معمّم، يكرر دائما عدم صحة زواج المسلمين، والمصريين منهم بخاصة لأن ذلك كان شائعا بينهم، من فتيات إيطاليات. لأنهن عنده لسن كتابيات فالكتابية عنده هي تلك القبطية التي رآها في صعيد مصر تلبس الجلباب وتغطي شعرها دائما ولا ترفع صوتها على الرجال وليست كمثل هؤلاء السافرات اللائي تشاهدون في الشوارع كما كان يقول لمن يستفتونه من الشباب المصريين و"يتحداهم" أن يأتوه بإيطالية تغطي رأسها وتلبس الجلباب كمسيحيات الصعيد .وقياسا على ذلك فهو يحرم على المسلمين طعام أهل روما المحتوي على اللحم، وما أشهى الأطباق الإيطالية!، لأن طعامهم ليس طعام أهل الكتاب المعروفين لدى المسلمين لأن أهل كتاب هذا الزمان صاروا لا يحترمون دينهم، فهو الذي يقيم مسيحية المسيحيين والتزامهم بدينهم ولم يشفع لهم أن بينهم بابا الفاتيكان. ولا تحسبن أن ثمة صلة بين موقف شيخ محمود هذا وانحدار د. غازي من أصول ترجع إلى صعيد مصر! فموقف غازي له أشباه كثيرة في السودان وهذا مثال آخر:من السودان: ثارت ضجة في مطلع التسعينيات عندما فرض د. إبراهيم أحمد عمر غطاء الرأس على جميع طالبات المدارس بما في ذلك الطالبات المسيحيات في مدرستي الوحدة والراهبات وغيرهما من المدارس الخاصة وعندما احتج ذوو الطالبات، غير المسلمات «تحدّاهم» أن يأتوه بآية واحدة من الكتاب المقدس تنادي بالسفور! تماما كما «تحدّى» د.غازي القبائل أن تأتيه لتقول له أنها تبيح الزنا . أو َهل من استعلاء يعلو على هذا الاستعلاء؟

 

وما ردود الفعل المنفلتة من تحريض على القتل من على صفحات بعض الصحف وبعض منابر المساجد والدخول إلى قاعة البرلمان بالسلاح إلا امتدادا طبيعيا على «الغضبة في الله» من داخل قبة البرلمان لرئيس أحد الكتل النيابية. ولو قال رئيس الكتلة للنواب ما قال به في بيانه التوضيحي بدءا ودون غضب لما وقع ما وقع ولما احتاج إلا إيضاح.

  

والأولى في نظرنا، أن يثار نقاش جاد في القضايا الحيوية التي لم تحسم بعد في العالم الإسلامي بأسره وهو قضية مواءمة الشريعة الإسلامية طبقا للفهم السائد لها مع مبادئ دستورية أساسية مثل المساواة بين المواطنين أمام القانون التي لا سبيل معها للتفريق بين المواطنين على أساس الدين أو الذكورة والأنوثة وقضية حرية الاعتقاد والدين "لأن التجربة الإسلامية في السودان على وجه الخصوص تتعرض لاختبار غير مسبوق سيتأثر العمل الإسلامي في العالم كله بنتائجه" مع هذا الطموح الكبير الذي اقتبسناه من ورقة لغازي صلاح الدين بعنوان- دعوة لإحياء العمل الإسلامي الوطني - صدرت في عام 2005، عن هيئة الأعمال الفكرية، يجدر إعطاء الأولوية للبحث ومحاولة الإجابة على الأسئلة الحقيقية. فأمام الأصوات التي ارتفعت لقمع عرمان من داخل البرلمان أو خارجه تحديان: أولهما يشترك فيه مسلمو السودان مع غيرهم من المسلمين وهو الإجابة عن إمكانية إقامة دولة إسلامية في إطار الدولة القومية في عالم اليوم، وهو سؤال لم تجب عليه تجربة السودان أو غيرها حتى الآن. والتحدي الآخر أمام مسلمي السودان أو على الأقل من يعتقدون من بينهم بضرورة تعميم أحكام الشريعة الإسلامية هو أن عليهم أن يقروا بضرورة مواصلة ما انقطع من حوار بدأ منذ استقلال السودان عن إمكانية تطبيق الأحكام الشرعية في القوانين في دولة متعددة الثقافات وعليهم أن يقروا بأن أحكام الشريعة التي طبقت في السودان حتى الآن لم تأت لأن أغلبية الشعب قررت ذلك عن طريق البرلمان أو الاستفتاء وغيره من وسائل إقرار الشرعية المعروفة ولكنها فرضت فرضا وفقا للملابسات المعروفة  أو لا يتسآل الناس لماذا تفرض الشريعة في ظل الحكومات العسكرية والانقلاب قهرا ويتعثر إقرارها بالطرق البرلمانية المعروفة ولماذا تظل الشريعة في السودان لا تزال تبحث عن شرعية وهي خيار غالب أهل البلاد كما يقول الخطاب السياسي أو ليس في العودة لاتفاق نيفاشا واعتبار عقد المواطنة هو الأساس إقرارا بأن منطق نهاية التاريخ وأن الأمة قد حسمت أمرها لم يكن إلا أحلاما رغبوية لم تتحقق بعد على أرض الواقع والله الموفّق.

 

د. أسامة عثمان

 

نيويورك

 نقلا عن "الصحافة" بتاريخ 12 مايو 2009

 

آراء