ما الذي يحجب أشعة ديمقراطية توكفيل عن أفق النخب السودانية؟

 


 

طاهر عمر
18 December, 2023

 

أول شئ أنتبه له توكفيل و أولاه أهتماما بالغا هو أن الديمقراطية لم تكن نظام حكم فقط بل تعني العدالة و المساواة بين أفراد المجتمع و لا يمكن الحديث عن العدالة بين أفراد المجتمع بغير تفسير ما طرى من تغيير على المجتمع بعد الثورة الصناعية و قد نبه المجتمع لفكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد.
بعد خمسة عقود من ظهور الثورة الصناعية ظهرت فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد في حالة المرض و حوادث العمل مثلا أن يفقد أحد العمال يده في حادث أثناء أداءه لعمله و البطالة و بعد أن يتخطى عمره و يصل الى سن المعاش و بالتالي ظهرت فكرة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد كنواة لفكرة الضمان الإجتماعي الذي قد أضحى اليوم في المجتمعات الغربية من الثوابت التي لا تحتاج لكثير إجتهاد لتفسيرها.
الديمقراطية في نظر توكفيل ليست نظام حكم فقط بل إطار فكرة العيش المشترك التي تعطي ظاهرة المجتمع البشري معنى معادلة الحرية و العدالة و هي التي تجعل الفرد متناسق في صراعه مع مجتمعه الذي تحكمه معادلة الحرية و العدالة و داخل مثلث المجتمع و الفرد و الحرية أو مثلث آخر و هو مثلث المجتمع و الفرد و الإنسانية.
أفكار توكفيل في مفهومه عن الديمقراطية التي تعني العدالة و المساواة بين أفراد المجتمع لا يمكن أن تكون بغير فصل الدين عن الدولة و من هنا قد كتب جون إستيورت ميل عن توكفيل بأنه أول من إستخدم كلمة الديمقراطية بمعناها الليبرالي المعاصر و الحديث.
إنتبه توكفيل أن ظاهرة المجتمع البشري تسوقها معادلة الحرية و العدالة كهاجس للفرد في صراعه مع مجتمعه و هو في مسيرة تراجيدية و مأساوية بلا قصد و لا معنى تمسك مشاكلها المتجددة بخناق بعضها البعض بلا نهاية بل منفتحة على اللا نهائي و بالتالي محكوم على الإنسان أن تتجدد أفكاره لمواجهة شرطه الإنساني بلا كلل و لا ملل بعيدا عن الوثوقيات و اليقينيات و يواجه تحدي متجدد و مجتمع متغيّر على الدوام و بالتالي لا تصمد أمامه الحتميات و الوثوقيات و السياجات الدوغمائية التي يزعم اتباع الشيوعية و اتباع الحركات و الأفكار الدينية بأنهم قادرين على تقديم حلول نهائية لها في عالم متغيّر و متشح بالشك و يسوقه عقل التمحيص النقدي.
ديمقراطية توكفيل هي بحث عن فكرة العيش المشترك في ظل مجتمع متغيّر على الدوام لا يعرف أفكار الوضعية و يرفض حتميات الماركسية و وثوقيات سان سايمون و علم إجتماع أوجست كونت و دوكهايم و بعده عندما جاء ريموند أرون بأفكار توكفيل لمحاربة ماركسية ماركس أفكار ريمون موازية لأفكار مدرسة الحوليات و هي ترفع شعار لا لماركس و لا استالين و لا لماو و لا للمسيح لأن كل من مؤرخي مدرسة الحوليات عبر أجيالها و كذلك في موازاتها لأفكار ريموند أرون على دراية بأن فلسفة التاريخ التقليدية قد بلغت منتهاها و أن فلسفة التاريخ الحديثة قد أرسلت أشعة شروقها.
و من هنا جاء سؤالنا في عنوان المقال ما الذي يحجب أشعة ديمقراطية توكفيل من أفق حقول رؤية النخب السودانية؟ و من هنا نقول للنخب السودانية عندما نتحدث عن الديمقراطية نقصد الديمقراطية الليبرالية أي ديمقراطية توكفيل بعيدا عن ألاعيب فلول اليسار السوداني الرث في حديثهم عن الديمقراطية التعددية إلا أنهم يقصدون تخفيهم تحت شعار الشيوعية المقنّعة و لا يختلف عنهم أتباع الحركات المسلحة سواء كانت دارفورية أو أتباع مالك عقار و أردول و حركات شرق السودان.
ربما يختلف عنهم جميعا عبد العزيز الحلو في حديثه عن العلمانية و فصل الدين عن الدولة و هو الأقرب الى فهم التحول في المفاهيم فيما يتعلق بفكرة الدولة الحديثة و ممارسة السلطة و ليس المحاصصة كما رأينا تكالب قحت و بسببها أفشلوا مسيرة أعظم ثورة سودانية و شعارها حرية سلام و عدالة و هو شعار يقارب فهم توكفيل الى أن الديمقراطية ليست نظام حكم و حسب بل تعني تحقيق الشرط الإنساني في بعده بالسنيين الضؤية عن إلتباس أفكارهم أي النخب السودانية الفاشلة فيما يتعلق بالمحاصصة و هي تختلف بالكلية عن مفهوم ممارسة السلطة وفقا لتغيّر المفاهيم و تحولها و كذلك في إطار مفهوم الدولة كمفهوم حديث لأن هناك فرق كبير بين المحاصصة في السلطة و ممارسة السلطة كمفهوم حديث.
الحاصل اليوم في الساحة السودانية نتاج تخلف النخب و تأخرها عن مسيرة البشرية الفكرية بقرن من الزمن و هو موروث لدي النخب السودانية منذ أيام أندية الخريجيين و بعدها مؤتمر الخريجيين و لكنهم كانوا ذوي مناهج ضعيفة فلا رابط بينهم و حركة تطوّر الفكر في العالم الحي حيث كانت حينها مدرسة الحوليات ترصد و منذ ذلك الزمن البعيد أن ماركسية ماركس ما هي إلا فكر عابر و مؤقت نتاج إضطراب الزمن و تمفصله لكي يفرّق بين نهاية و بداية فلسفة التاريخ التقليدية و فلسفة التاريخ الحديثة.
و الغريب حتى لحظة كتابة هذا المقال ما زال الشيوعي السوداني الذي لا يؤمن بفكرة الدولة من الأساس و خلفه فلول اليسار السوداني الرث متسلحيين بأفكار ثورة الشباب في فرنسا في وقت واجهها فلاسفة كثر و أثبتوا ضعفها و هي متمثلة في فكر فلاسفة ما بعد الحداثة منذ عام 1968 و حتى يومنا هذا نجد كثير من المفكريين السودانيين يتحدثون عن فرنسا سارتر الى اليوم في وقت قد أصبحت فيه فرنسا توكفيلية منذ أواخر ثلاثينيات القرن المنصرم و بعد هذا كله نجد أن الشيوعي السوداني يتحدث عن تحول ديمقراطي و هو أصلا لا يؤمن بفكرة الدولة من الأساس.
في وقت لوّث فيه الشيوعيون السودانيون حقول رؤية نخب سودانية تحسب أنها في دائرة اليسار الرث لا تعرف حتى اللحظة أن الديمقراطية الليبرالية ليست نظم حكم فحسب بل قد أصبحت بديلا للفكر الديني الذي ما زال الشيوعي السوداني يهادنه في علمانية محمد ابراهيم نقد المحابية للأديان و كله بسبب ضعف المنهج وسط أتباع الحزب الشيوعي السوداني و أصدقاء الحزب و طبعا بسبب أن هناك غياب تام لفكرة العقد الإجتماعي المتمثل في فلسفة كانط و عبر أفكار الكانطيين الجدد و هناك غياب تام لأفكار منتسكيو في علم إجتماعه و حتى نظرية العدالة لجون راولز كآخر إحياء لفكرة العقد الإجتماعي و الغريب فيها إحياء لأفكار كانط و فكرة فصل الدين عن الدولة و كانت في عام 1971 و صادفت لحظة بداية الثورة الخفية التي تحدث عنها عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل غوشية بأنها نهاية زوال سحر العالم أي لم يعد الفكر الديني كجالب لسلام العالم و الغريب كان العالم العربي و الاسلامي التقليدي يتأهب الى الدخول الى عالم الصحوة الإسلامية بعد فشل جمال عبد الناصر في تحقيق قيم الجمهورية.
و دوما علاقتنا عكسية مع مسيرة العالم الحي مثلا في عام 1929 عام ظهور مدرسة الحوليات يصادف نفس زمن تأسيس جماعة الاخوان المسلمين في مصر و يجاريها الشيوعي السوداني الذي يبحث عن دور للدين في السياسة كما كان يفكر عبد الخالق محجوب في نهاية الستينيات في وقت قبله بما يقارب القرن و النصف نجد توكفيل يقول أن الديمقراطية قد أصبحت بديلا للفكر الديني و طبعا الإجابة جاهزة عند النخب السودانية بأن تاريخ الغرب هو تاريخ خاص به و نحن نقول لهم أن تاريخ الغرب هو مختصر تاريخ الإنسانية و هي تحاول تفسير ظاهرة المجتمع البشري.
معادلة الحرية و العدالة لا تعني الغربي أو الاوروبي وحده تعني الشعب السوداني أيضا و الدليل شعار ثورة ديسمبر حرية سلام و عدالة و يخصنا هنا إنزال مفهوم السلطة كمفهوم حديث و تحقيق فكرة الدولة كمفهوم حديث بعيدا عن مفهوم المركز و الهامش و مفهوم الهويات القاتلة بدلا عن أدبيات الحريات التي تهابها عقول النخب السودانية المحروسة بالوصاية و ممنوعة من التفكير أي أن أي مجتمع في صراعه مع أفراده له علاقة بالإنسانية و لذلك نجد أفكار أبناء القبائل العاجزة عن تنفس هواء الأعالي كما يقول فردريك نيتشة و هم هنا في السودان يتحدثون عن الهويات المضطربة و الهويات الخائفة و قد إنفتحت على الهويات القاتلة و ما نحتاجه علاقة الفرد بالدولة مباشرة و ليس بالدين أو العرق أو الجهة أو مركز و هامش و محاصصة في السلطة مع غياب مفهوم الدولة كمفهوم حديث و ممارسة السلطة كمفهوم حديث.
من هنا نقول تأخر النخب السودانية بقرن من الزمن عن مسيرة الانسانية التاريخية نتيجته هذه الحرب العبثية في ظل عقل الحيرة و عقل الإستحالة العاجز عن مواجهة أي تحدي و التغلب عليه. بالمناسبة ضعف فكر حركات دار فور ذو علاقة طردية في ضعف فكر النخب السودانية في المركز و هي عاجزة على مدى قرن كامل في أن ترسي مفهوم الدولة كمفهوم حديث و ممارسة السلطة في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية و معروف أن مثقفي الهامش ما هم إلا صورة مشوّهة لمثقف المركز المشوّه و لذلك نجد مثقف المركز ما هو إلا لسان قبائل عاجزة عن تنفس هواء الأعالي.
و بالتالي جاء مثقف دار فور أكثر تشوّه لذلك لا يعرف غير المحاصصة من مفهوم السلطة و بالتالي وفقا لثقافته الأبوية أي ثقافة الأسرة الجذعية فلا تنتظر منه فكر ينتج معنى مفهوم الديمقراطية كما تحدث عنها توكفيل بأنها ليست نظم حكم بل هي فكرة العيش المشترك و فكر توكفيل أقرب حاضنة كان يمكن أن تنتجه ثقافة الشمال و الوسط و ما يسمى بالمركز لأن بنيتها الأسرية النووية مرشحة لإنتاج ثقافة ديمقراطية و لكن إستكانة نخب الشمال للذاكرة المحروسة بالوصاية و ممنوعة من التفكير جعلهم يتحدثون عن الهويات و القبائل العاجزة عن تنفس هواء الأعالي و لم يتجاوز جهدهم الفكري مستوى فكر الكوز و فكر الشيوعي السوداني المقيم في العابر و المؤقت من فكر ماركسية ماركس و هذا ما تحدث عنه أرنولد توينبي عندما قال مسؤولية سودان موحد و قوي و تقدمي تقع على عاتق المثقف الشمالي إلا أنهم قد خيّبوا ظن أرنولد توينبي.
مثقف دار فور سليل ثقافة الأسرة الجذعية عاجز عن إنتاج ثقافة ديمقراطية و بالتالي هو ضحية ثقافة أسرة جذعية تدفعه دفع لهيمنة قبيلة على قبيلة و بالتالي نتج العنف الماثل الآن في حروب دار فور و الغريب القبائل العربية في دار فور و هي أسيرة ثقافة الأسرة الجذعية ثقافة الهيمنة و هي في طور و مستوى حياة رعوية لم يصلوا بعد الى مستوى حتى المجتمع التقليدي.
كانت أي قبائل دار فور الرعوية أداة كيزان في حروب دار فور الأهلية و نتج عنها دمار دار فور بسبب ثقافة الهيمنة وقود نار الحروب المشتعلة بثقافة سلطة الأب و ميراث التسلط لهذا لا تستطيع قبائل دار فور الرعوية خلق أي ثقافة لإنتاج نظم حكم ديمقراطي و ستظل أداة موت مثل ما إستخدمهم الكيزان في إبادة الزرقة في دار فور و من قبل إستخدمهم الصادق المهدي في تسليح قبائل البقارة لمحاربة النوبة و قبائل الحدود مع الجنوب و قبل الصادق المهدي قد إستخدمهم المهدي في مهديته الزائفة 1885 و النتيجة لا إستقرار و مجاعات كادت أن تؤدي لإنقراض الشعب السوداني.
كذلك حرب حميدتي الآن ما هي إلا إستمرارية لثقافة الأسرة الجذعية و ثقافة سلطة الأب و ميراث التسلط و نزعة الهيمنة و لا تقل بشاعة عن النازية نتاج ثقافة الأسرة الجذعية في المانيا و ثقافة الهيمنة على بقية الأعراق لذلك تجد اليوم إبادة المساليت على يد الجنجويد في هذه الحرب الأخيرة و ثقافة الهيمنة المسيطرة على القبائل الرعوية الدرافورية تجعلهم عاجزين عن تأسيس أي نظام حكم لأنهم قبائل رعوية لم تصل الى مستوى المجتمعات التقليدية بعد و لكنهم يستطيعون أن يكونوا أداة موت يستخدمهم من يستخدمهم كأداة مثل ما استخدمهم المهدي الكبير و بعده الصادق المهدي و عبرهم أطال أمد أحزاب الطائفية و أخيرا قد إستخدم الكيزان الجنجويد في إبادة بقية قبائل دار فور.
بالمناسبة إنتصار المهدية في السودان واحدة من الأسباب التي قطعت تطور التفكير العقلاني مثلما فعلت الوهابية في السعودية و السنوسية فانتصار المهدية بمساعدة قبائل دار فور الرعوية سبب قوي من أسباب تعطل نمو الفكر العقلاني منذ نهاية القرن التاسع عشر و أغلب النخب السودانية حتى الشيوعي السوداني ما زال يتهيب نقد الفكر الديني و كله بسبب إنتصار المهدية في السودان و قطعها لطريق الفكر العقلاني.
بالتالي بعد إنهيار مؤتمر الخريجيين تسابق النخب السودانية ذوي التعليم الضعيف للإصطفاف خلف بيوت الطائفية و أحزابها الطائفية التي تتشح بثقافة إسلامية تقليدية ثقافة سلطة الأب و ميراث التسلط العاجزة عن إنتاج نظام حكم ديمقراطي بالمعنى الذي تحدث عنه توكفيل و قد تطرقنا له في أعلى المقال لذلك يصبح مثقف الشمال أو قل المركز أسير ثقافة عربية تقليدية تنتجها أحزاب الطائفية و من ذهب الى غير أحزاب الطائفية ذهب الى الحزب الشيوعي السوداني التقليدي و هو يتسلح بشيوعية تقليدية مقارنة بشيوعية أحزاب الغرب الاوروبي و الاحزاب الإشتراكية في أوروبا.
بالتالي أصبح الشيوعي السوداني لا يقل خطره على الديمقراطية بمعناها التوكفيلي عن خطر الجنجويدي على التحول الديمقراطي و في ظل هذا الإحتباس الفكري تأتي الحرب الدائرة الآن كما سماها العقل اليوناني ربة الأشياء لكي تدمر فكر المثقف التقليدي السوداني و المؤرخ التقليدي السوداني أسير ثقافة الشيوعي السوداني و أصدقاء الشيوعي السوداني في إنبهارهم بثقافة ما بعد الحداثة و نجدها في كتابات نخب سودانية ما زالت مبهورة بفكر ثورة الشباب في فرنسا في وقت تجاوزت فيه فرنسا ثقافة ثورة الشباب منذ منتصف ستينيات القرن المنصرم و عندنا نجدها ما زالت أفكار يتحدث عنها المثقف السوداني و كأن سارتر و فكره ما زال مسيطر على فرنسا.
في وقت قد أصبحت فرنسا توكفيلية و إذا أردت أن تعرف وهم المثقف السوداني عن سارترية فرنسا و غياب فرنسا توكفيل عن أفقه أنظر لكتابات حيدر ابراهيم علي التبجيلية عن سارتر أو كتابات عبد الله بولا التبجيلية في حوارية لاهاى عن سارتر و قارنهما بفكر إدورد سعيد و كيف تخلص من هيمنة ميشيل فوكو بعد رجوع الأخير عن أفكار ما بعد الحداثة نجد إدورد سعيد قد إعتذر عن كتابه الإستشراق في عام 1993 و نجد عبد الله بولا يحتفي بالكتاب في عام 1998 و كأن إدور سعيد لم يعتذر عنه و بعدها يمكننا ملاحظة تطور فكر إدورد سعيد الى لحظة أفكاره في كتابه الأخير الأنسنة و النقد الديمقراطي و فيه تبجيله للنزعة الإنسانية و توسيع ماعون الحرية و التخلص من أفكار الشيوعية المقنعّة التي ما زالت مسيطرة على فكر المثقف السوداني و كتاب إدورد سعيد الأخير يكاد يتطابق مع فكر هشام شرابي في كتابه النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين.
فيه نجد هشام شرابي مدرك بشكل واضح لا إلتباس فيه عن مفصلة الزمن و نهاية فلسفة التاريخ التقليدية و بداية فلسفة التاريخ الحديثة و كذلك نهاية الليبرالية التقليدية و بداية الليبرالية الحديثة و هذا لا نجد له أي أثر في كتابات عبد الله بولا في حوارية لاهاي و لا كتابات حيدر ابراهيم علي. ربما يختلف عنهما هشام شرابي بحكم تخصصه في الحضارة و التاريخ الأوروبي منذ عام 1870 و هي الحقبة التي بدأت فيها نهاية الليبرالية التقليدية التي ما زالت أفق فكر كل من عبد الله بولا و حيدر ابراهيم علي لذلك جاءت أفكارهما مقارنة بفكر ادورد سعيد و هشام شرابي ملتبسة إلتباس واضح و متحاشية لفكر الليبرالية الحديثة التي تحدث عنها هشام شرابي بشكل واضح منذ نهاية الستينيات من القرن المنصرم و طورها الى لحظة جهوده في كتاباته الأخيرة.
في وقت وقف فيه كل من عبد الله بولا و حيدر ابراهيم علي على أعتاب أفكار ستينيات القرن المنصرم الى لحظة حوارية لاهاي و للأسف أعيد طباعة الكتاب من قبل الدكتورة نجاة محمد علي في إحتفاءها بجهود زوجها عبد الله بولا بعد ربع قرن و يستحق عبد الله الإحتفاء بجهوده الفكرية إلا أنه جاء الكتاب في تحريره و أعاد نفس أفكار ستينيات القرن المنصرم و تحدث بإصرار و كأن فرنسا ما زالت سارترية متجاهلة فيه تطور الفكر في فرنسا و تجاوزه لأفكار ثورة الشباب في فرنسا و أفكار سارتر و بعد ثورة الشباب بعقدين جاءت الضربة الثانية لأفكار ثورة الشباب في نقد لأفكار ثورة الشباب من قبل كل من لوك فيري و ألان رينو في عام 1985 و بعدها قد أصبحت ساحات الفكر في فرنسا تتجه نحو حقول إعادة قراءة فردريك نيتشة و مارتن هيدجر و دورهما في توسيع ماعون الحرية.
المضحك نجد أن كل من حيدر ابراهيم علي و بولا مغرمان بسارتر و متجاهلان لتوكفيلية فرنسا السبب ربما يكمن في ما ورثاه من ضعف نتاج جيل مؤتمر الخريجيين فيما يتعلق بنتاج فلسفة التاريخ الحديثة و مفهوم الديمقراطية كما تحدث عنه توكفيل بأنها ليست نظم حكم و حسب بل فلسفة لترسيخ فكرة العيش المشترك حيث يصبح الفكر الديمقراطي بديلا للفكر الديني و نجده في جهود ريموند أرون الفكرية في فهمه لفلسفة التاريخ الحديثة عام 1938 و تبجيله لليبرالية الحديثة في عدم إنصياعها للوثوقيات و الحتميات و فكر الوضعية كما نجده في ماركسية ماركس و فكر أوجست كونت و سان سايمون في وقت نجد أدبيات الليبرالية الحديثة مترسخة على أجنحة الشك و تسلحت بالتفكير النقدي.
و فكر ريموند أرون الغائب عن دفاتر أتباع مؤتمر الخريجيين سبب غيابه هو سبب إنصياع النخب السودانية الى أحزاب الطائفية و في أيدويلوجية متحجرة مترسخة في النسخة الشيوعية السودانية و أصبحت كستار حديدي يحول بيننا و فكر توكفيل المتجدد في فكر ريموند أرون و مستمر في فكر ميشيل غوشيه و أضف إليهم جهود إدغار موران و كلود لوفورت في نقدهما للماركسية التقليدية حيث نجد ادغار موران قد فارق الفكر الشيوعي قبل قيام الحزب الشيوعي السوداني على أفكار النسخة السودانية المتخشبة.
هذا ما تجاهله عبد الله بولا و هو مغرم بسارتر و أفكار ثورة الشباب و قد ظهرت في سلوكه أي عبد الله بولا و تلاميذه في مقاومتهم للسلطة بشكل واضح تظهر فيه أفكار ثورة الشباب في فرنسا في مقاومة السلطة و رفض فكرة الدولة إلا أن فلاسفة ثورة الشباب قد تراجعوا عن أفكارهم بسبب تطور الفكر في فرنسا و ظلت أفكار بولا و تلاميذه هي هي الى لحظة حوارية لاهاي رغم أن بولا دائم الإنكار بأنه غير متأثر بأفكار فلاسفة ما بعد الحداثة إلا أنها تظهر بشكل جلي في أفكاره و أفكار تلاميذه المتمردين على السلطة و الدولة و هو نفس إلتباس فكر فلاسفة ما بعد الحداثة عن مفهوم السلطة و فكرة الدولة في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية و تراجع فلاسفة ما بعد الحداثة عن أفكارهم لأنهم أبناء عقل الأنوار أما عبد الله بولا فهو ابن مجتمع سوداني تقليدي ينتظر لحظة مفارقة ثقافتنا العربية الاسلامية التقليدية التي لا تنتج إلا تابع لأحزاب اللجؤ الى الغيب أو تابع لأيدويولوجية متحجرة كنسخة الشيوعية السودانية تجعل فهمه في حالة إلتباس دائم عن فكرة توكفيل في أن الديمقراطية الليبرالية ليست نظم حكم فحسب بل فلسفة لترسيخ فكرة العيش المشترك.

taheromer86@yahoo.com

 

آراء