ما بين تأجيل مذكرة التوقيف واستئناف أوكامبو ! … بقلم: علاء الدين بشير

 


 

 

 

المادة (16 ) و تهمة الإبادة الجماعية

ala-4506@hotmail.com
بعد المباحثات التى اجراها الرئيس البشير مع الرئيس المصرى ، حسنى مبارك بالقاهرة نهاية فبراير ، الماضى ، حملت (الصحافة) فى عنوانها الرئيسى نقلا عن المتحدث باسم الرئاسة المصرية السفير ، سليمان عواد، ان روسيا و الصين جاهزان لاستخدام حق النقض (الفيتو) فى مجلس الامن  ضد اى قرار متوقع لتنفيذ مذكرة التوقيف التى ستصدرها المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس البشير .
وبدا الخبر غريبا للعالمين بالقانون الدولى وبميكانزمات السياسة و العلاقات الدوليتين ، و تعود الغرابة اولا الى ان ايا من المبعوثين الروسى و الصينى اللذين زارا الخرطوم قبيل ذلك التأريخ لم يتعهدا باستخدام بلديهما لحق النقض ، و حتى السفير الصينى بالخرطوم حينما سُئل فى ندوة عن العلاقات الصينية السودانية الشهر الماضى ، عن امكانية استخدام بلاده لحق النقض لصالح الخرطوم ، اجاب ،  بأن ذلك سابق لاوانه  .
الامر الثانى فى غرابة تصريح المتحدث باسم الرئاسة المصرية ، ان استخدام الفيتو من قبل البلدين العضوين الدائمين فى مجلس الامن ليس له محل فى اعراب اجراءات المجلس ، حيث انه كان قد احال الى المحكمة الجنائية الدولية الوضع فى دارفور بموجب القرار 1593 الصادر فى مارس 2005 تحت الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة ، بدعوى ان الحالة فى اقليم دارفور المضطرب تمثل تهديدا خطيرا للامن و السلم الدوليين ، وكانت روسيا قد صوتت لصالح القرار فى ذلك الوقت ، و قال مندوبها الدائم بالمجلس خطبة عصماء فى ضرورة عدم افلات مرتكبى الانتهاكات فى دارفور من العقاب ، بينما امتنعت الصين عن التصويت مثلها مثل الولايات المتحدة و غضّت الطرف بالتالى عن القرار حتى يمر داخل المجلس . و قد الزم القرار البلدان الدول الاعضاء فى الامم المتحدة بتقديم العون اللازم للمحكمة الجنائية الدولية حتى تضطلع بالتكليف الذى اودعه المجلس لها ، و عليه فان هذا الالزام سيكون ساريا فى كل المراحل الاجرائية للمحكمة ، اى اثناء التحقيقات و عند بدء المحاكمة ثم بعد صدور الحكم ، الامر الذى يعنى ان المجلس لا حاجة له مجددا لاستصدار قرار يحث فيه الدول الاعضاء على تنفيذ مذكرة التوقيف الصادرة بحق الرئيس البشير ، و سيكون اى حديث عن استخدام الصين و روسيا للفيتو لمنع تنفيذ مذكرة التوقيف لا قيمة له ، ومجرد حديث للاستهلاك الديبلوماسى و المجاملة لا اكثر ولا اقل . وربما رأى البعض ان التدخل الروسى و الصينى سيكون عبر ضغطهما من اجل اعمال المادة 16 من نظام روما و التى تقضى بتدخل مجلس الامن لايقاف اجراءات المحكمة الجنائية فى اى مرحلة من مراحلها بدعوى ان سير العدالة قد يهدد السلام و الاستقرار فى اقليم البلد المعين الذى تنظر المحكمة فى قضايا ضد شخص او اشخاص من رعاياه . لكن الوضع مختلف فى هذه الحالة ، فالاحالة للمحكمة الجنائية جاءت اصلا من مجلس الامن نفسه ، كما يتطلب الامر هنا ان تتقدم بلدان اعضاء فى  المجلس  بطلب من اجل ايقاف تنفيذ الملاحقة القضائية للاسباب الواردة اعلاه ، وهى مرحلة لا يمكن للصين وروسيا استخدام الفيتو فيها لصالح الحكومة السودانية ، بل ان التهديد باستخدام الفيتو اشهرته كل من امريكا و فرنسا ضد اى مساعى فى اتجاه تجميد الملاحقة القضائية . و اضافة الى ذلك فإن لجوء مجلس الامن لاستخدام المادة 16 يتعارض مع الاستنتاج الذى كان خلص اليه حينما احال الوضع الى المحكمة الجنائية الدولية فى مارس 2005 ورأى ان الوضع يمثل تهديدا خطيرا للامن و السلم الدوليين ، و ان تفعيل العدالة الدولية لملاحقة المسؤولين عن الانتهاكات فى الاقليم المضطرب هو جزء من الشروط اللازمة لاستعادة الاستقرار و الامن و السلم المهددين بصورة خطرة فى دارفور . فضلا عن (المادة 16 ) من نظام روما الاساسى و التى يقول نصها  (لا يجوز البدء او المضى فى تحقيق او مقاضاة بموجب هذا النظام الاساسى لمدة اثنى عشر شهرا بناء على طلب من مجلس الامن الى المحكمة بهذا المعنى يتضمنه قرار يصدر عن المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة ، ويجوز للمجلس تجديد الطلب بالشروط ذاتها .) تتم فى اضيق نطاق ممكن ، فبرغم ان انتقادات من خبراء فض النزاعات للمحاكم الدولية قائمة على انها -المحاكم الدولية - تفاقم من الاضطرابات فى المناطق التى تضطلع بأجراءات قضائية ضد مسؤوليها او مواطنيها و بالتالى تصعب فرص التسوية السلمية و تطيل امد النزاع المسلح و عدم الاستقرار و تفاقم من معاناة الضحايا الذين تقول انها تريد الانتصاف لهم ، وهو ما كانت اوردته المحررة المختصة فى منتدى العدالة الدولية ، و مجلة كريستيان سيانس مونيتور ، هيلينا كوبان فى مقالتها الشهيرة بمجلة (فورن بوليسى الاميريكية عدد مارس - ابريل 2006 ) ،  بالرغم من ذلك ألآ ان المحكمة الجنائية الدولية ، ترفض استخدامها كأداة للضغط السياسى و الابتزاز من قبل الحكومات ، و كانت قد رفضت طلبا للرئيس اليوغندى لتجميد مذكرة الاعتقال الصادرة عنها ضد زعيم جيش الرب ، جوزيف كونى ، بدعوى انها صعبت فرص التسوية السلمية للنزاع فى اقليم شمال يوغندا الذى يشهد صراعا داميا بين متمردى جيش الرب و الحكومة اليوغندية منذ سنوات طويلة ، ورفض المدعى العام  للمحكمة الجنائية الدولية مقابلة وفد اهلى من مجتمع شمال يوغندا زار لاهاى لهذا الخصوص فى العام 2005 . ومع ان الحالة فى شمال يوغندا كانت قد احيلت للمحكمة الجنائية الدولية بطلب من الحكومة اليوغندية نفسها باعتبارها بلدا طرفا فى اتفاقية روما ، بينما الوضع فى دارفور احيل للمحكمة من مجلس الامن الدولى ، الا ان تقييم مدى تأثير سير اجراءات العدالة الدولية على فرص السلام و الاستقرار فى اى اقليم تضطلع المحكمة الدولية بمسؤوليات قضائية فيه ، يخضع لتشاور دقيق بين المحكمة و مجلس الامن ، ففى المداولات الخاصة داخل اللجنة المكلفة بوضع النظام الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية منتصف تسعينيات القرن الماضى ، وحتى تضبط العلاقة المؤسسية بين المحكمة الجنائية الدولية كمؤسسة قضائية دولية مستقلة ، و مجلس الامن الدولية بأعتباره الجهاز الرئيسى للامم المتحدة المعنى بحفظ الامن و السلم فى العالم ، فإن ذلك يقتضى مراقبة دقيقة و فحص ادق للاسباب المهددة للامن و السلم الدوليين ، وهل هى اسباب مصطنعة يراد بها الضغط و الابتزاز تجنبا للملاحقة القضائية ام انها جزء متداخل مع نظام النزاع المسلح الذى نتجت عنه الانتهاكات ، و الشاهد ان التقييمات الدولية لما يجرى فى اقليم دارفور منذ ان اعلنت المحكمة الجنائية الدولية عن اسمى الوزير احمد هارون و على كوشيب ، تنحو الى تحميل الحكومة السودانية المسؤولية الاكبر عن حالة عدم الاستقرار و استباب الامن فى دارفور ، فالمجتمع الدولى يرى ان العمليات العسكرية الحكومية فى الاقليم هى الاوسع و الاكثر تخليفا للضحايا بينما ترد الحكومة بأنها تؤدى فى واجبها الذى كفلته لها المواثيق الدولية لحفظ الامن و الاستقرار داخل حدودها ، و ان الحكومة هى من يضع العراقيل امام انسياب المعونات الانسانية للضحايا ، و انها الجهة التى سلحت المليشيات و ترفض لجمها ، كما انها هى التى تحاول افراغ معسكرات النازحين بالقوة ، و قد ادان تقرير الامم المتحدة ما جرى من الحكومة فى احداث معسكر كلمة فى اغسطس من العام الماضى ، بالاضافة الى انها هى التى طردت المنظمات الانسانية ، وهى التى يطلق مسؤولوها التهديدات من شاكلة قطع الرؤوس و الاوصال ضد من يسعون لتنفيذ قرار المحكمة ، او انها متواطئة مع عمليات خطف ثلاثة من موظفى المنظمات الانسانية  بواسطة جماعة اسمت نفسها (نسور البشير) ، بجانب تهديدات كتائب مسلحة بتنفيذ 250 عملية استشهادية ضد مصالح غربية فى البلاد ، حيث نحت التحليلات فى الصحافة الغربية الى  ذلك يحدث من تحت رأس الحكومة السودانية التى كان مسؤولوها الكبار قد هددوا بالعودة الى التطرف اذا ما اصر العالم على ممارسة ضغوطه عليهم بالمحكمة الجنائية الدولية ، و بالتالى فان ذلك يندرج فى التحليل الاخير من وجهة نظر المجتمع الدولى  تحت طائلة الابتزاز بتهديد الامن و السلم الدوليين من قبل الاشخاص المطلوبين للعدالة الدولية ، و يؤكد على صحة الاستنتاج الذى خلص اليه مجلس الامن فى قرار الاحالة للمحكمة الجنائية الدولية من ان العدالة الدولية ضد هؤلاء الاشخاص هو احد الوسائل الناجعة لاستباب الامن و السلم المهددين فى دارفور . ويقول الخبير فى القانون الجنائى الدولى ، و رئيس مركز استقلال القضاء و المحاماة فى جنيف ، ناصر امين فى هذا الخصوص ( بالنسبة للسودان فالمحكمة الجنائية الدولية متوقعة قبل فترة ردود افعال عنيفة من قبل الحكومة السودانية، فهي تتوقع أعمالاً عسكرية كبيرة وعنيفة، وتتوقع هياجاً شعبياً، ومزيدا من التوتر في المنطقة وخاصة في دارفور، وتتوقع استفزازاً غير مسبوق لفصائل التمرد، كل هذا لأن النظام السوداني سوف يسعي لإيصال رسالة مفادها ان قرار الاعتقال سوف يؤدي إلي إحداث قلاقل في المنطقة وسوف تتأزم الأوضاع، وبالتالي فإن هذا التوقع سوف يفوت الفرصة علي النظام السوداني بعد أن هيأ المجتمع الدولي لنتائج القرار) . و كان المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية ، لويس مورينو اوكامبو ، قد صرح عشية اليوم الذى سبق قرار قضاة المحكمة ردا على سؤال بان يتسبب قرار المحكمة فى اضطرابات فى السودان ، بأنه ان حدث ذلك فانه يؤكد على صحة فرضياته بأن الرئيس البشير يسيطر تماما على الاوضاع فى البلاد . و مع ان الحكومة السودانية ترفض تأجيل تنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتبار ان مطلبها الاساسى هو الغاء القرار من اصله ، وهو ما كان اعلنه مستشار الرئيس مصطفى عثمان اسماعيل قبل ثلاثة ايام من ان سقف تحركاتهم الاعلى هو سحب القضية من المحكمة و ارجاعها لمجلس الامن ، و انهم وجدوا تأييدا لموقفهم هذا من دول مثل الصين و روسيا . لكن عادت مصر على لسان وزير خارجيتها احمد ابو الغيط لتعلن الاسبوع الماضى عن فشل المساعى العربية و الافريقية التى رمت الى تأجيل تنفيذ قرار ملاحقة الرئيس البشير قضائيا ، لعدم وجود اغلبية فى مجلس الامن ، و لتصلب البلدان ذات الشوكة فيه ضد اى اتجاه لايقاف قرار المحكمة الجنائية الدولية . و كانت مجموعة الازمات الدولية قد اوصت فى تقريرها الصادر فى مارس الجارى بأن اى مساومة لتجميد قرار المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس البشير باستخدام المادة 16 ، ينبغى ان تقوم على عدم ترشحه فى الانتخابات الرئاسية القادمة .
وكان اثنان من قضاة الدائرة التمهيدية بالمحكمة الدولية الثلاثة ، قد رفضا التهم المتعلقة بالابادة الجماعية التى وردت فى مذكرة الاتهام ، و لكنهما تركا الباب مفتوحا امام امكانية قبولها حالما وفر الادعاء العام ادلة و معلومات اضافية ، بينما رأت القاضية الثالثة ان الحيثيات الواردة فى مذكرة الاتهام كافية لتتأسس عليها اتهامات الابادة الجماعية . و اعلن المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية ، لويس مورينو اوكامبو عن نيته استئناف اتهامات الابادة ، واعتبر ما اقدمت عليه الحكومة السودانية من طرد للمنظمات الانسانية ، يعضد  اتهاماته لها بها ، و انها تدابير  قصدت بها الحكومة الاهلاك البطئ . وقد سارت الولايات المتحدة -رغم عدم مصادقتها على النظام الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية- فى نفس الاتجاه و اعتبرت طرد المنظمات عملية ابادة لشعب دارفور ، و حتى الآن و تحت وطأة الرفض الحكومى لقرار المحكمة الجنائية الدولية ، يبدو انها لا تتحسب لخطورة اتجاه المدعى لاستئناف قرار تهم الابادة الجماعية و ما يمكن ان يترتب عليها قانونيا و سياسيا ، و يقول الخبير القانونى بمعهدى بروكينز و السلام بواشنطن الدكتور ابراهيم على ابراهيم فى حديثه لصحيفة الشرق الاوسط اللندنية منتصف الشهر الجارى،  فى هذا الخصوص (كان مهمّا اسقاط تهم الابادة الجماعية  لأن بعض الدول تعد جريمة الإبادة الجماعية إدانة للدولة ككل واتهام السودانيين جميعا بارتكاب هذا الفعل، والدليل أنه بعد أن أخذت المحاكم مجراها في قضية يوغسلافيا فكر الصرب في هذا الموضوع، أي إشانة السمعة، ورفعت حكومة صربيا قضية براءة ذمة، وبالفعل أصدرت المحكمة قرارا يقول إن شعب صربيا لم يرتكب جريمة الإبادة) . و غير ذلك فإن الاتهام بالإبادة يؤسس للتدخل العسكرى الدولى .
عن صحيفة الصحافة

 

آراء