ما بين رمزية حمدوك وسعد الحريري وإعادة تدوير السياسيين!
مـحـمد أحـمد الجـاك
29 March, 2022
29 March, 2022
بــهدوووء-
لا يختلف اثنان عن كفاءة وقدرات رئيس الوزراء السوداني المستقيل عبدالله حمدوك كظاهرة سياسية توافقية وبذات القدر لا يستطيع أحد أن يشكك في أنه رقما كشف بوضوح عجز النخبة السودانية.
اعتادت بعض الدول العربية اللجوء إلى أسماء سياسية معينة كلما اشتدت حدة الأزمات فيها، باعتبارها أسماء توافقية أو يعتقد أنها قادرة على تقديم الحلول وامتصاص الغضب، ويتم إنزالها من على الأرفف للاستعانة بها، وربما يتم طرحها كمناورة لجس النبض حول قضايا معينة أو مغازلة جهات خارجية. وتحوّل رئيس الوزراء السوداني السابق عبدالله حمدوك إلى نسخة أشبه بنظيره اللبناني السابق سعد الحريري.
خرجت ظاهرة مفتعلة اسمها حمدوك وأنزلها البعض عمدا من على الرف قبل أيام بعد أن اشتدت الأزمة السياسية في السودان وعجز المكون العسكري عن تقديم شخصية بديلة، وأخفق المدنيون في ترشيح قيادة قادرة على تحمل المسؤولية وسد الفراغ الذي تركه الرجل منذ حوالي شهرين ونصف الشهر، حيث لا يزال موقعه شاغرا.
قد يتكرر السيناريو اللبناني لاحقا، فكلما ضاقت السبل هناك أمام قواه وطوائفه وأحزابه وجماعاته كان سعد الحريري خيارا معلّبا، بزعم أنه شخص توافقي في الداخل والخارج، ويمتلك مؤهلات سياسية تساعده على ضبط التوازنات الدقيقة في لبنان، وهي مسألة بدأت تفقد بريقها وقد لا يعيده رحيله الأخير عن الحكومة إليها مرة أخرى.
عندما انصرف الحريري وترك السلطة وتيار المستقبل أو زهد فيهما بعد سلسلة طويلة من التعقيدات لم يجد اللبنانيون في أخيه بهاء الحريري ملاذا سياسيا آمنا، ولم يجد منتسبو تياره في غيره كمنقذ وهمي، وبدأ اسمه يتردّد همسا، مع أن كل تجاربه لم تفلح في إنقاذ لبنان والحصول على تسويات توقف زحف المشكلات، ما يشي بأن التوافقية ليست حلا سحريا، والأزمات قد تكون أكبر من قدرة أصحابها على الحل.
لم يشتق السودانيون إلى حمدوك لأنه حقق إنجازات ملموسة لن يحققها غيره أو جاء بمعجزات لم يأت بها أحد من قبله، لكن لأنهم عجزوا عن الالتفاف حول شخصية أخرى فشعروا أن الأمر مؤلم، فكل ضجيج الانقلابيين في البلاد لم يفلح في إيجاد بديل مناسب.
ومع أن البرهان نفى أخيرا عودة حمدوك إلى رئاسة الحكومة، ودوائر قريبة منه أكدت ذلك، فإن قطاعا كبيرا من المواطنين لم يصدق ما سمع به أو قرأ عنه ولا زال يحلم بعودة مظفرة لحمدوك.
المثير أن غالبية القوى المدنية دخلت في خلافات مع حمدوك ولا تؤيد اللجوء إليه كضرورة، إلا أن سيناريو العودة يمضي كالنار في الهشيم في السودان ويحتل مناقشات كثيرة في أوساط النخبة السياسية التي كانت أحد أسباب انصرافه عندما رفضت اتفاقه مع البرهان الموقع في نوفمبر من العام الماضي، وضايقته بعد الانقلاب العسكري في أكتوبر الماضي.
تظل الرمزية التي يمثلها حمدوك بمثابة تعبير عن حنين للفكرة أكثر منه اقتناعا بالقدرة السياسية والاقتصادية، لأن التوافقية المزعومة لم تفلح في إعادة اللُحمة داخل تحالف قوى الحرية والتغيير ذاته، ولم تذب الفجوة مع المكون العسكري أو تفضي إلى تبريد الأوضاع العامة الساخنة في البلاد.
يعيش السودان عقدة اسمها حمدوك، لأن الرجل أثبت أنه زاهد في السلطة، فقد كان يُذكر في الأدبيات السياسية العربية أن السودان البلد الوحيد الذي تنازل فيه طواعية قائد انقلاب عسكري عن السلطة، وهو عبدالرحمن سوار الذهب، لكن يبدو أن التاريخ سيذكر معه حمدوك، حيث ابتعد الرجل طواعية ويتمنع في العودة إلى رئاسة الحكومة بعد أن رفض الكثير من الإغراءات التي قدمت إليه.
يكمن الفرق بين سوار الذهب وحمدوك أن رفض الأول ينطوي على زهد وحسم وبلا رجعة أو ضغوط عليه، وكانت هناك قيادات عسكرية ومدنية بديلة مستعدة لتولي السلطة من بعده، بينما الثاني جاء نتيجة امتعاض من الأجواء السياسية واعتراض على المنظومة التي تدار بها البلاد، ما جعل الباب مواربا أمام عودته إذا جرت تهيئة البيئة بما يتمنى أو يؤدي إلى اقتناعه بأن هناك تبدلا في العوامل التي دفعته إلى الاستقالة بما يفسح الطريق لممارسة عمله بالحرية التي تمناها سابقا.
فهل يثبت طرح خيار حمدوك أن الثورة السودانية عجزت عن إفراز نخبتها الخاصة، عسكرية وسياسية، والتي تستطيع تحمل المسؤولية؟! المؤكد أن هذا يشير إلى أن الارتباك الحالي في دولاب الدولة وبين القوى التي تقود الشارع أو تحركه سوف يستمر فترة طويلة، ولن يُحسم بمجرد إجراء انتخابات، فإذا كانت هذه القوى عاجزة عن الالتفاف حول شخصية تقود الحكومة في المرحلة الانتقالية، فإنها لن تتمكن من ذلك بعد انقضائها.
وإذا كان الشوق السياسي إلى حمدوك بلغ درجة التفكير في استدعائه وهو من عزف عن رئاسة الحكومة فإن المشكلة تكمن في عدم القدرة على إفراز شخصية بمواصفات مثيلة أو شبيهة، فالحب الذي يكنه البعض للرجل لم يأت فقط من كفاءته الفنية، لكن من نزاهته السياسية وخبرته الاقتصادية التي جعلته الخيار الضرورة بعد الثورة.
يتردد اسمه بصورة مباشرة أو غير مباشرة حتى الآن، على الرغم من خلافاته مع عسكريين ومدنيين، ما يشير إلى أن الفيضان الظاهر في الشارع والقوى السياسية لم يتمكن من فرز شخصية في خبرة حمدوك المادية أو وزنه المعنوي.
وتكمن ميزة حمدوك في أن من اختاروه سابقا ومن يعودون إليه من وقت إلى آخر أنه حقق معادلة صعبة يتجاهلها الكثير من النخب السودانية والخاصة بالتجرد من الحسابات الشخصية والحزبية والطائفية والمناطقية والشعبوية المعروفة في السودان، والتي تضفى على عدد كبير ممن يتصدرون المشهد وتقلل من حظوظ الكثير من القيادات التي تتمتع بمهارات متعددة وتنقصها ميزة حمدوك الرئيسية، الأمر الذي جعل اسمه يتردد كلما ضاقت السبل كثيرا في البلاد.
كما أن السودان يحتاج إلى شخصية إقليمية ودولية تفهم همومه وتعي مشاكله وآليات حلولها وأولوياته وتستطيع الحوار مع القوى المختلفة بعقلية مفتوحة، وربما تكون هناك شخصيات أكثر كفاءة من حمدوك في هذه المسألة غير معروفة ولم تختبر في المعترك العام ومعرفة الجوانب الخفية فيها، ولذلك بات رقما مثيرا للجاذبية.
ويعتقد البعض أن صفحة حمدوك طويت تماما وتجاوزتها الأحداث، لكن ترديد اسمه والعودة إليه يوحيان بحالة سياسية تتجاوز حدود السودان وتعبّر عن الحراك السياسي في الخرطوم، أو بيروت مثلا، وهذا الأمر لا يكفي لتقديم الزعامات وتشكيل الوعي والنخب المسؤولة أبعد من مساحة الحريات التي يوجد منها فائض في السودان ولبنان، ويتعلق بالقدرة على توظيف هذا الفائض بالمستوى الذي يمنح تعددا في الخيارات المتاحة.
وتقدم تجربة سعد الحريري في لبنان وحمدوك في السودان درسا مهما حول مخاطر تدوير السياسيين وإعادة إنتاجهم مرة أو مرات أخرى في الدول العربية، وقد يكونون اختبروا وأخفقوا، وتؤكد أن الجدل والنقاش والصخب والتظاهر ليست دليلا على العافية السياسية التي يجب أن تقاس بحجم ما تفرزه من نخب قادرة على تحمل المسؤولية.
mido34067@gmail.com
لا يختلف اثنان عن كفاءة وقدرات رئيس الوزراء السوداني المستقيل عبدالله حمدوك كظاهرة سياسية توافقية وبذات القدر لا يستطيع أحد أن يشكك في أنه رقما كشف بوضوح عجز النخبة السودانية.
اعتادت بعض الدول العربية اللجوء إلى أسماء سياسية معينة كلما اشتدت حدة الأزمات فيها، باعتبارها أسماء توافقية أو يعتقد أنها قادرة على تقديم الحلول وامتصاص الغضب، ويتم إنزالها من على الأرفف للاستعانة بها، وربما يتم طرحها كمناورة لجس النبض حول قضايا معينة أو مغازلة جهات خارجية. وتحوّل رئيس الوزراء السوداني السابق عبدالله حمدوك إلى نسخة أشبه بنظيره اللبناني السابق سعد الحريري.
خرجت ظاهرة مفتعلة اسمها حمدوك وأنزلها البعض عمدا من على الرف قبل أيام بعد أن اشتدت الأزمة السياسية في السودان وعجز المكون العسكري عن تقديم شخصية بديلة، وأخفق المدنيون في ترشيح قيادة قادرة على تحمل المسؤولية وسد الفراغ الذي تركه الرجل منذ حوالي شهرين ونصف الشهر، حيث لا يزال موقعه شاغرا.
قد يتكرر السيناريو اللبناني لاحقا، فكلما ضاقت السبل هناك أمام قواه وطوائفه وأحزابه وجماعاته كان سعد الحريري خيارا معلّبا، بزعم أنه شخص توافقي في الداخل والخارج، ويمتلك مؤهلات سياسية تساعده على ضبط التوازنات الدقيقة في لبنان، وهي مسألة بدأت تفقد بريقها وقد لا يعيده رحيله الأخير عن الحكومة إليها مرة أخرى.
عندما انصرف الحريري وترك السلطة وتيار المستقبل أو زهد فيهما بعد سلسلة طويلة من التعقيدات لم يجد اللبنانيون في أخيه بهاء الحريري ملاذا سياسيا آمنا، ولم يجد منتسبو تياره في غيره كمنقذ وهمي، وبدأ اسمه يتردّد همسا، مع أن كل تجاربه لم تفلح في إنقاذ لبنان والحصول على تسويات توقف زحف المشكلات، ما يشي بأن التوافقية ليست حلا سحريا، والأزمات قد تكون أكبر من قدرة أصحابها على الحل.
لم يشتق السودانيون إلى حمدوك لأنه حقق إنجازات ملموسة لن يحققها غيره أو جاء بمعجزات لم يأت بها أحد من قبله، لكن لأنهم عجزوا عن الالتفاف حول شخصية أخرى فشعروا أن الأمر مؤلم، فكل ضجيج الانقلابيين في البلاد لم يفلح في إيجاد بديل مناسب.
ومع أن البرهان نفى أخيرا عودة حمدوك إلى رئاسة الحكومة، ودوائر قريبة منه أكدت ذلك، فإن قطاعا كبيرا من المواطنين لم يصدق ما سمع به أو قرأ عنه ولا زال يحلم بعودة مظفرة لحمدوك.
المثير أن غالبية القوى المدنية دخلت في خلافات مع حمدوك ولا تؤيد اللجوء إليه كضرورة، إلا أن سيناريو العودة يمضي كالنار في الهشيم في السودان ويحتل مناقشات كثيرة في أوساط النخبة السياسية التي كانت أحد أسباب انصرافه عندما رفضت اتفاقه مع البرهان الموقع في نوفمبر من العام الماضي، وضايقته بعد الانقلاب العسكري في أكتوبر الماضي.
تظل الرمزية التي يمثلها حمدوك بمثابة تعبير عن حنين للفكرة أكثر منه اقتناعا بالقدرة السياسية والاقتصادية، لأن التوافقية المزعومة لم تفلح في إعادة اللُحمة داخل تحالف قوى الحرية والتغيير ذاته، ولم تذب الفجوة مع المكون العسكري أو تفضي إلى تبريد الأوضاع العامة الساخنة في البلاد.
يعيش السودان عقدة اسمها حمدوك، لأن الرجل أثبت أنه زاهد في السلطة، فقد كان يُذكر في الأدبيات السياسية العربية أن السودان البلد الوحيد الذي تنازل فيه طواعية قائد انقلاب عسكري عن السلطة، وهو عبدالرحمن سوار الذهب، لكن يبدو أن التاريخ سيذكر معه حمدوك، حيث ابتعد الرجل طواعية ويتمنع في العودة إلى رئاسة الحكومة بعد أن رفض الكثير من الإغراءات التي قدمت إليه.
يكمن الفرق بين سوار الذهب وحمدوك أن رفض الأول ينطوي على زهد وحسم وبلا رجعة أو ضغوط عليه، وكانت هناك قيادات عسكرية ومدنية بديلة مستعدة لتولي السلطة من بعده، بينما الثاني جاء نتيجة امتعاض من الأجواء السياسية واعتراض على المنظومة التي تدار بها البلاد، ما جعل الباب مواربا أمام عودته إذا جرت تهيئة البيئة بما يتمنى أو يؤدي إلى اقتناعه بأن هناك تبدلا في العوامل التي دفعته إلى الاستقالة بما يفسح الطريق لممارسة عمله بالحرية التي تمناها سابقا.
فهل يثبت طرح خيار حمدوك أن الثورة السودانية عجزت عن إفراز نخبتها الخاصة، عسكرية وسياسية، والتي تستطيع تحمل المسؤولية؟! المؤكد أن هذا يشير إلى أن الارتباك الحالي في دولاب الدولة وبين القوى التي تقود الشارع أو تحركه سوف يستمر فترة طويلة، ولن يُحسم بمجرد إجراء انتخابات، فإذا كانت هذه القوى عاجزة عن الالتفاف حول شخصية تقود الحكومة في المرحلة الانتقالية، فإنها لن تتمكن من ذلك بعد انقضائها.
وإذا كان الشوق السياسي إلى حمدوك بلغ درجة التفكير في استدعائه وهو من عزف عن رئاسة الحكومة فإن المشكلة تكمن في عدم القدرة على إفراز شخصية بمواصفات مثيلة أو شبيهة، فالحب الذي يكنه البعض للرجل لم يأت فقط من كفاءته الفنية، لكن من نزاهته السياسية وخبرته الاقتصادية التي جعلته الخيار الضرورة بعد الثورة.
يتردد اسمه بصورة مباشرة أو غير مباشرة حتى الآن، على الرغم من خلافاته مع عسكريين ومدنيين، ما يشير إلى أن الفيضان الظاهر في الشارع والقوى السياسية لم يتمكن من فرز شخصية في خبرة حمدوك المادية أو وزنه المعنوي.
وتكمن ميزة حمدوك في أن من اختاروه سابقا ومن يعودون إليه من وقت إلى آخر أنه حقق معادلة صعبة يتجاهلها الكثير من النخب السودانية والخاصة بالتجرد من الحسابات الشخصية والحزبية والطائفية والمناطقية والشعبوية المعروفة في السودان، والتي تضفى على عدد كبير ممن يتصدرون المشهد وتقلل من حظوظ الكثير من القيادات التي تتمتع بمهارات متعددة وتنقصها ميزة حمدوك الرئيسية، الأمر الذي جعل اسمه يتردد كلما ضاقت السبل كثيرا في البلاد.
كما أن السودان يحتاج إلى شخصية إقليمية ودولية تفهم همومه وتعي مشاكله وآليات حلولها وأولوياته وتستطيع الحوار مع القوى المختلفة بعقلية مفتوحة، وربما تكون هناك شخصيات أكثر كفاءة من حمدوك في هذه المسألة غير معروفة ولم تختبر في المعترك العام ومعرفة الجوانب الخفية فيها، ولذلك بات رقما مثيرا للجاذبية.
ويعتقد البعض أن صفحة حمدوك طويت تماما وتجاوزتها الأحداث، لكن ترديد اسمه والعودة إليه يوحيان بحالة سياسية تتجاوز حدود السودان وتعبّر عن الحراك السياسي في الخرطوم، أو بيروت مثلا، وهذا الأمر لا يكفي لتقديم الزعامات وتشكيل الوعي والنخب المسؤولة أبعد من مساحة الحريات التي يوجد منها فائض في السودان ولبنان، ويتعلق بالقدرة على توظيف هذا الفائض بالمستوى الذي يمنح تعددا في الخيارات المتاحة.
وتقدم تجربة سعد الحريري في لبنان وحمدوك في السودان درسا مهما حول مخاطر تدوير السياسيين وإعادة إنتاجهم مرة أو مرات أخرى في الدول العربية، وقد يكونون اختبروا وأخفقوا، وتؤكد أن الجدل والنقاش والصخب والتظاهر ليست دليلا على العافية السياسية التي يجب أن تقاس بحجم ما تفرزه من نخب قادرة على تحمل المسؤولية.
mido34067@gmail.com