ما هي الأسباب التي تجعل المواطن السوداني يتبرع للحزب الشيوعي

 


 

حامد بشري
25 March, 2023

 

يشهد الأعداء قبل الأصدقاء بالتضحيات التي قدمها ويقدمها نفر من الشيوعيين البسطاء الذين لا يرجون مَنأً ولا شكوراَ وفي أحيان كثيرة يصدق عليهم القول بأنهم ملح هذه الأرض . تجدهم في الأفراح والأتراح عفيفي اليد واللسان يخِفّون عند التضحية ويعِفّون عند المغنم ، أناس ذو مرؤة وكرم ، رهيفي الأحساس رغم أحتمالهم وجّلدهم وصبرهم علي السجون والتعذيب من جلادي الشعوب . تاريخهم السياسي حافل بالتضحيات ونكران الذات علي المستويين الأجتماعي والأنساني . وفي هذا المقام لا يفوتني الاّ أن أستذكر المآثر والدموع والكلمات التي أنهمرت في الشهر المنصرم في وداع الشيوعي النطاس دكتور عبدالرحمن الزاكي الذي بكاه كل من سمع بإسمه من أم كدادة الي أمدرمان . هذا نفر من البشر كان يتبرع بماله ووقته لجراحة المخ والأعصاب لفقراء المرضي والمساكين حتي يسهل عليهم فهم طبيعة المجتمع السوداني . فقده وطنه قبل حزبه . تمنيتُ من الخالق أن ينفخ فيه الروح ولو لبرهة ليقرأ ما كُتب في نعيه ثم يعود الي خلوده الأبدي .

الحزب الشيوعى السودانى منذ نشأته ذو خصوصية متفردة ، أعتمد و يعتمد فى تسيير أموره علي مالية يتم تحصيلها من أشتراكات أعضائه ومساهمات أصدقائه وليست له أى مصادر دخل أخرى لتغطية منصرفاته . وحتى حينما كان المعسكر الأشتراكى على قيد الحياة لم يشمل أحسانه السخى حزبنا الشيوعى بأستثناء المنح الدراسية والعلاجية التى كانت مشاركة بين الشيوعيين وعدد معتبر من أصدقائهم الديمقراطيين ولا يغيب عن البال أن بعض هذه المنح الدراسية أستفاد منها طلاب علمٍ ينتمون الي تنظيمات سياسية أخري . أما حقيقة عدم أعتماد الحزب الشيوعى فى ميزانيته على الأتحاد السوفيتي السابق فوضحتها أجهزة المخابرات الغربية حينما وجدت طريقها الى أرشيف الحزب الشيوعى السوفيتى بعد سقوط أتحاد الجمهوريات مما يؤكد أن الحزب الشيوعى السودانى أعتمد ويعتمد فى تمويل نشاطه على المصادر التقليديه من أشتراكات وتبرعات . الآلاف الذين تخرجوا من الجامعات والمعاهد العليا في المعسكر الأشتراكي السابق والذين لا تخلو منهم أسرة سودانية ، ساهموا في بناء الدولة السودانية في مختلف المجالات العلمية والثقافية ويرجع الفضل في ذلك للحزب الشيوعي السوداني الذي بدأ هذه العلاقة بين حكومة السودان ودولة الأتحاد السوفيتي وطورها قبل أن يصيبها الخلل . هذا الجميل الذي بادر به الشيوعيون حان وقت رده حتي يتمكنوا من تخطي أزمتهم الحالية ويستطيعوا أن يعقدوا مؤتمرهم العام .

إعتماد النشاط الحزبى على التمويل من المصادر التقليدية كان يمكن أن يكون مقبولاً حتى بداية أو منتصف سبعينات القرن الماضى ، أى قبل ظهور الأنشطة الاسلموربوية لأحزاب الجبهة الأسلامية ( الوطنى/ الشعبى واتباعهم الجدد) وتحكمهما فى جميع أنشطة الأقتصاد السودانى ومن ثم فرض الهيمنة السياسية على نظام الحكم فى السودان وقبل أن تصبح خزينة الدولة ومالية الحزب فى ترابط عضوى وديالكتيكى صار بموجبه على سبيل المثال عائد مصفأة الجيلى جزء من مالية حزب المؤتمر الوطنى فرع ولاية نهر النيل . وأذا قارنا مصادر مالية الحزب الشيوعى ببعض الاحزاب الأخرى نجد أنها فى غاية الضعف والضآلة ، بعض الأحزاب السياسية السودانية تُمول أنشطتها مؤسسات كنسية والبعض الآخر من دول خليجية وعربية وآخرين من رأسمالية زراعية وتجارية أما الشيوعي فأعتماده الأساسي علي محمد أحمد السوداني .

هذا الواقع الجديد فى الحياة السياسية يلزم الشيوعيين أن يفكروا جدياً فى البحث عن بدائل أخري تواكب هذا المتغير الذي حول الدين الي سلعة والعدول عن الطريقة التقليدية فى تمويل النشاط الحزبى من صحيفة ، مطبوعات ، أيجارات ، مرتبات ومؤتمرات . هذه المعطيات تضعنا أمام الحقيقة التالية وهى أن أستمرارية الحزب الشيوعى ووجوده فى الخريطة السياسية السودانية ونجاح إنعقاد مؤتمراته القاعدية التي تقود الي المؤتمر العام أصبح بالضرورة يعتمد فى الدرجة الأولي على مقدرة الحزب المالية قبل برنامجه السياسى .

أنتابني خليط من الدهشة والحزن لمناداة الحزب الشيوعي في الأعلان الذي أطلقه في صحيفته الرسمية مناشداً الأصدقاء والأعضاء بالمساهمة في شراء دار للحزب ، مصدرهما ليس بسبب المناشدة وأنما بالحقيقة المُرة أن حزب عمره سبعون عاماً وله تاريخ سياسي ناصع والي الآن لا يملك داراً مُسجلة بأسمه ليس هذا فحسب وأنما مؤتمره السابع الذي أصبح قاب قوسين أو أدني هو الآخر يحتاج الي دعم مادي حتي يستطيع أن يقوم علي أرض الواقع . من هذا المنطلق رأيت أن من الواجب أن أساهم بالمناشدة وجمع التبرعات لهذه الحملة و التي هي ليست فرض كفاية .

حكي الزعيم الراحل محمد أبراهيم نقد ، بعد أنتفاضة أبريل 85 حضر اليه شابان من جمهورية الكنغو الديمقراطية بحكم العلاقة التي كانت تربط بين باتريس لوممبا والحزب الشيوعي وهما في طريقهما لفرنسا حيث يقصدون الدراسة بها . وعندما وصلوا السودان ، تعثرت بهم سُبل الوصول الي مبتغاهم فلجوء الي نقد (حلال العقد) ، فما كان من سكرتير الحزب الشيوعي الأ أن ذهب بنفسه وجمع لهم المال والتبرعات ليغطي أحتياجات سفرهم وتذاكرهم من أصدقائه ومعارفه . والآن وبعد مرور حوالي نصف قرن من المبادرات الثره لجمع التبرعات لحركات التحرر الوطني الأفريقية والعربية التي تبناها وشارك فيها الشيوعيون السودانيون ، نجدهم يطلبون المساعدة من الآخرين حتي صدق عليهم القول ( أكرموا عزيز قوم ذُل ).

في مشاركتي لحملة جمع التبرعات للمؤتمر السابع المزمع عقده وفي مناقشاتي مع الأصدقاء وُجهتْ بالعديد من النقد لسياسات الحزب الشيوعي منها علي سبيل المثال ، أن البعض ينتقده حول سياسته التي أتبعها لتفشيل وأسقاط حكومة حمدوك ، والبعض الآخر يعيب عليه ما يراه مفارقة بين دوره الرائد والمشهود له في الملمات بجمع أطراف المعارضة ومعالجة الخلافات بدلاً من المساهمة في توسيع الشقة بين أطرافها، وآخرين يرون أن الحزب صار متطرفاً بطرحه لشعار التغيير الجذري حتي أصابه مرض اليسارية الطفولي . وحقيقة فشلت في الدفاع عن سياسات الحزب الحالية . علي الرغم من أستجابة الغالبية في المساهمة المادية حيث أن بعضهم كان يدفع بسخاء في السابق رفض هذه المرة المساهمة ليس بسبب ضائقة مالية وأنما للأسباب آنفة الذكر وهذا يتطلب من الشيوعي دراسة ومراجعة مواقفه حتي يستعيد الأرضية التي أكتسبها خلال نضاله الطويل .

نجاح عقد المؤتمر مسئولية يتحملها الشيوعيين والديمقراطيين وأصدقائهم وحتي الذين لا يتفقون مع قيادة الحزب الشيوعي في مواقفها . قيام المؤتمر يعطي الأمل في أصلاح الأخطاء في سياسات الحزب والتي تقود بدورها الي أصلاح السياسة السودانية برمتها .

لعلاج هذا الأزمة التي يواجهها الشيوعي تجاه موقفه المالي أتقدم ببعض المقترحات لمؤتمره السابع :

1- بحكم أن الحزب الشيوعي هو حزب يدافع عن جماهير الطبقة العاملة فمن الواجب أن تساهم هذه الطبقة العاملة في جمع التبرعات لحزبها علي الرغم من الظروف الأقتصادية والمعيشية السيئة التي تمر بها البلاد . يجب بالضرورة أن يشارك الحرفيين والقطاع الكبير من النساء العاملات في المساهمة ولو بصورة رمزية في بناء هذا الحزب الذي وهب نفسه للدفاع عن مصالحهم ، وحتي تشعر الطبقة العاملة حقيقة أن هذا حزبها . لذا بالضرورة أبتداع طرق جديدة للمساهمة .
2- معظم الاحزاب التى تمارس نشاطاً سياسياً بأمريكا وأوربا تولى أهتماماً خاصاً لأنشطة الFund Raising وتعتبر هذه الأنشطة مصدراً أساسياً للتمويل . ليس سراً أن الحزب الشيوعى يتمتع بعضوية هى من أكثر فئات المجتمع نشاطاً وأنتشاراً وسط الجماهير وأنشطة المجتمع المدنى الأ أنه لا يولى هذا الجانب أهتماماً في رفع قدراته المالية . أرى أنه من واجب كل فرع أن يساهم مرة واحدة كل عام علي الأقل بنشاط يعكس النهوض بمالية الحزب .
3- مجلة قضايا سودانية قدمت أسهامات فكرية عالية ، أعادة طباعتها وكذلك الأعداد السابقة من الميدان وبيانات الحزب الجماهيرية فى أقراص مدمجة CD’S أو USB’s وأعادة طباعة الخطابات التاريخية للقادة الحزبيين . علي سبيل المثال خطاب حسن الطاهر زروق في البرلمان حين أعلان الأستقلال ، خطابات عبدالخالق محجوب ووثيقة حول أصلاح الخطأ في العمل الجماهيري ، مقابلة نقد في مجلة النهج البيروتية وخطابه حول الميزانية في الجمعية التأسيسية وغيرها من الوثائق التاريخية الهامة وتسويقها.
4- حقيقة أن الحركات الأسلامية المختلفة بما فيها المؤتمر الوطني وحلفائه تعتمد فى تمويل ميزانيتها على الأنشطة التجارية المختلفة التى تقوم بها فى أمريكا والشرق الأقصى حتي أصبحت ماثلة للقاصى والدانى . لا أنشد مجاراتهم فى هذا الجانب فهم أهل باع طويل الأ أن الذى أتمناه أن يتعامل الحزب الشيوعي مع المالية بعقلية أستثمارية .

لا يفوتني أن أذكر أن أجزاء من هذا المقال تم أرسالها للشيوعي بمناسبة أنعقاد أنعقاد مؤتمره الخامس في 2006 وبكل أسف واقع الحال لم يتغير بخصوص مالية الحزب بل صار أسوأ ، الشيئ الذي فرض علّي أعادة أجزاء من المقال السابق الذي أُرسل قبل حوالي عقدين من الزمان .

أتمني أن يخرج المؤتمر السابع بمخرجات عملية تساعد لأنفراج سياسي للخروج من هذه الأزمة التي يعيشها الوطن .

تم أرسال هذا المقال للميدان صحيفة الحزب الرسمية .

حامد بشري
مارس 2023

 

hamedbushra6@gmail.com

 

آراء