لم يتخلص من ملابس العمل، حينما طرق أحدهم الباب، بعد يوم مرهق مع مشوار الحياة اليوماتي، من الجبل للسهل، ومن السهل للصعب.
بشير، شاب بسيط وهادئ، يسكن مايو جنوب الخرطوم، تخصصه فني كهرباء، وليس في بيته نور ولا ماء، ولكنه اختار أو فرضت عليه الظروف أن يعمل نادلاً بأحد المطاعم البلدية.
يأتي بالسمك من جبل أولياء كل صباح، يقوم بتنظيفه ثم يبيعه لصاحب المطعم.
في المساء، ينتظم بشير في الدراسة بأحد المعاهد الصناعية. وفي امتحانات الشهادة السودانية لعام 2009، كان ترتيبه الأول على مستوى السودان.
-2-
(مياسة وآلاء وفاطمة) الثلاث، هنَّ أُوليات السودان في المساق النسوي في ثلاثة امتحانات متتالية.
من المحزن أن ثلاثتهن يعانين تحدياً في السمع والنطق، ومع ذلك كان التفوق والنجاح وفرحة الأهل.
أما (فيبين أبي بي قبرو هيلو)، فلها قصة أخرى مع المعاناة والتفوق، وتنتمي لأسرة أريترية لاجئة، ثلاثون عاماً مرت منذ دخول الأسرة الأراضي السودانية.
تلقت تعليمها ببورتسودان، وفي مدرسة السلام للاجئين الأريتريين، وأحرزت "فيبين" المرتبة الأولى بالشهادة السودانية بالمساق التجاري.
-3-
الطارق على باب منزل بشير بضاحية مايو يومذاك، كان هو الشاب عمر عشاري، موظف المسؤولية المجتمعية بمجموعة دال.
وعشاري هذا قصة أخرى سنرويها في يوم من الأيام، إذا أمدَّ الله في الآجال على دعوة الأستاذ / أحمد البلال.
الغرض من زيارة عشاري لبشير توجيه الدعوة لحضور احتفالية برنامج (الأول يكرم الأول) التي درجت على إقامتها سنوياً المجموعة في أحد الفنادق الراقية.
ومع نهاية الحفل، في كل عام تتسارع الخطى لإكمال أوراق الأوائل قبل الصعود إلى سلم الطائرة.
الرحلة من (مايو والسميح وكوستي وأم ضواً بان) إلى العاصمة البريطانية لندن أو إلى كوالالمبو عاصمة ماليزيا.
-4-
عشاري يروي قصة زيارة مياسة الأولى في المساق النسوي:
(لا أزال أذكر زيارتي لمياسة وأهلها لشرح فكرة المبادرة، وكيف خلّصتني من الحرج عندما وجدتها تعاني تحدياً سمعياً يحول دون التخاطب، وبهدوء شديد سحبت طالبة الشهادة السودانية ورقة وقلماً ليبدأ حوار مكتوب انتهى بعد عودتنا بابتكار طريقة للتخاطب بالإشارات).
بشير أول المساق الصناعي سافر في تكريم دال من مايو لإنجلترا مستأذناً صاحب الكافتريا التي كان يعمل فيها نادلاً، وعاد ليبدأ حياة دراسية ناجحة انتهت بتخرجه من كلية كمبيوتر مان بتفوق.
-5-
صديقنا الباشمهندس حسين ملاسي رجل عصي الدمع، لكنه لم يحتمل روعة المشهد. أول أمس فاضت عيناه وهو يشاهد أسر الأوائل تحتفل بأبنائها بفندق السلام روتانا، وهم يستعدون للسفر لماليزيا على نفقة مجموعة دال الغذائية.
أسر من بسطاء السودان وغمار الناس والطبقة الوسطى، تمزج الفرح بالدموع، وهي تجد أبناءها وبناتها يمضون على طريق جديد سيقودهم إن شاء الله إلى حياة أفضل.
-6-
تأسرني مثل هذه الأفكار ذات الحس الإنساني الرفيع، والتي تعنى بسعادة البسطاء رقيقي الحال وقليلي الحيلة، الذين لا يملكون في حساب الدنيا رصيداً سوى عشم عريض في أبناء وبنات نجباء.
حزنت حين علمت أن فيبين الأريترية قد لا تجد ألفي جنيه سنوياً للدراسة بجامعة الأحفاد، وقد تضطر لإنهاء رحلتها مع الدراسة والتفوق والتزام بيتهم الصغير.
-7-
رغم بعض همس أن احتفال هذا العام من مشروع (الأول يكرم الأول) قد يكون الأخير دعونا نتفاءل..
لماذا لا تقوم مجموعة دال بتطوير الفكرة، بأن يمتدَّ التكريم بتبني النفقات المالية إلى إكمال مراحل الدراسة الجامعية.
وستكمل المجموعة تمام مسؤوليتها المجتمعية الرفيعة، إذا امتدّ خيرها إلى توفير فرص عمل لمن يحافظ على تفوقه وتميزه من الأوائل خلال الدراسة الجامعية إلى التخرج.
-8-
إضافة للشركات الكبرى والمؤسسات الناجحة، فالواجب الأكبر هو واجب الدولة في الاهتمام بالتعليم الفني والتقني ورعاية مواهبه لتشجيع ثقافة العمل وكسب الأرزاق بعرق الجبين لا بالثرثرة.
لا يوجد ما يضر بحاضرنا ويهدد مستقبلنا أكثر من جيوش السماسرة من تجار الكلام في السياسة والاقتصاد.
الممقوتون بايعو الريح والسراب، الذين يتحدثون ولا يعملون، وليس بأيديهم سوى جرس مجلجل يدقونه على كل شيء، على الأحياء والأموات، وعلى المواقف والضمائر.