مجتمع المهاجرين من بحارة السودان (2) .. عرض وتلخيص : بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

مجتمع المهاجرين من بحارة السودان (2)

مقتطفات من كتاب:Wanderings: Sudanese Migrants and Exiles in N. America
تأليف: دكتورة رقية مصطفي أبو شرف
عرض وتلخيص : بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الثاني والأخير لبعض ما ورد في فصل في كتاب لدكتورة رقية مصطفى أبو شرف عن المهاجرين السودانيين الأوائل في أمريكا يتناول تاريخ هجرة البحارة السودانيين للعمل في خدمة البحرية الأمريكية والسفن التجارية. صدر الكتاب بعنوان: Wanderings: Sudanese Migrants and Exiles in N. America عن دار نشر جامعة كورنيل، ايثيكا، بالولايات المتحدة الأميركية عام 2002م.
دكتورة رقية أبو شرف حاصلة على الدكتوراه من جامعة كونيتكت الأميركية في علم الإنسان/ الإناسة (الأنثربولوجي)، وعملت لسنوات  في مجالي البحث والتدريس في عدة جامعات أمريكية ومراكز بحثية مرموقة منها جامعات هارفارد وبراون وويزلي وتفتس الأميركية، وجامعة دارام البريطانية وغيرها، وتعمل حاليا كأستاذ مشارك في جامعة جورج تاون الأميركية (فرع قطر). للدكتورة اهتمامات بحثية متنوعة تشمل مسائل العرق والهوية وحقوق الإنسان والمهاجرين والمغتربين عن أوطانهم، ودراسات النساء  والجندر (في أمريكا والخليج العربي والسودان). كنت قد ترجمت قبل سنوات شذرات لما نشر لها عن الحاج ساتي، أول مهاجر سوداني لأمريكا في هذا الكتاب. المترجم.
*************            ***************            ***********              ************     
مجتمع البحارة
تكون مجتمع البحارة السودانيين في الولايات المتحدة من نحو خمسين رجلا لا يزيدون، أتى كلهم بلا استثناء من ذات المنطقة في السودان... من دنقلا. إذن كانوا يتشاركون في الأصل والثقافة والدين. ساعدت هذه السمات المشتركة هؤلاء البحارة، رغم صغر عددهم، على تنظيم عيشهم والتأقلم على الحياة في الولايات المتحدة كمجتمع متماسك. وبالنظر إلى خلفيتهم المهنية المشتركة كبحارة، وخصائصهم الديموغرافية كشباب عزاب حينما قدموا للولايات المتحدة، إضافة إلى خبراتهم التاريخية كجنود في الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية، فقد كون هؤلاء المهاجرون  مجموعة متماسكة متآلفة نجحت في "إعادة اختراع" الوطن في مهجرهم في "بروكلين"، ونجحت كذلك، عن طريق تعزيز منهجي لتراثهم اللغوي والعرقي، في البقاء عبر خمسة عقود.
تميزت تجربة البحارة المهاجرين بخصائص متفردة لا توجد عند من تبعهم من المهاجرين السودانيين في السنوات الأخيرة. عندما حط هؤلاء البحارة الرحالة في نيويورك قدموا ومعهم خبرات مهنية كان الطلب عليها كبيرا. إضافة لذلك فقد كانت هجرتهم هجرة اختيارية، وليس بسبب ضيق اقتصادي أو تضييق سياسي. كان البحارة، وعلى وجه العموم، في وضع مناسب تماما للاستفادة من الفرص المتاحة للعمل في الولايات المتحدة، وجعلت تلك الميزة حياتهم أكثر يسرا ممن خلفهم من المهاجرين السودانيين.
أتيحت للبحارة المجندين فرص عديدة لتحسين حياتهم ولتعلم طرق وأساليب الحياة في المجتمع الجديد. بهذا تحاشى هؤلاء البحارة التدهور الدرامي في حراك موقعهم الطبقي (class mobility) والذي واجه المهاجرين السودانيين في التسعينات ]"الحراك بين الطبقات" بتبسيط شديد هي الهبوط أو الصعود في سلم الطبقات الاجتماعية متأثرا بعوامل مختلفة منها العرق أو المهنة أو تاريخ العائلة أو التعليم أو الثروة وغير ذلك. المترجم [. وبسبب أن الصعود في سلم الترقيات في الجيش يعتمد (أساسا) على القدرات والميزات التي  يبرزها الجندي أو الضابط، فقد حقق هؤلاء البحارة المجندون تقدما وظيفيا في البحرية الأميركية لم يكن لهم أن يحققوه إن كانوا قد التحقوا بوظائف مدنية. ساهمت فرصهم في انجاز نجاحات اقتصادية واجتماعية بصورة ايجابية في تعزيز استقرارهم وتأقلمهم علي الحياة في أمريكا. فعلى سبيل المثال، وبسبب حصولهم على دخول عالية نسبيا، امتلك كثير من هؤلاء البحارة ممتلكات عقارية في أمريكا وفي السودان. يمتلك كثيرون من البحارة عمارات صغيرة بها عدد من الوحدات السكنية، فصالح مثلا يمتلك عمارة بها 100 شقة في واحدة من مناطق بروكلين هي "بروكلين هايتس Brooklyn Heights  ، وهناك بابكر، ذلك المحسن الكريم الذي قام بعمل كثير من الأعمال الخيرية في السودان، منها بناء مسجد في منطقة العمارات بالخرطوم، حيث يمتلك بعض العقارات.
رغم نجاح البحارة في التأقلم والتواؤم والتوافق مع الحياة في أمريكا، إلا أنهم لم يتغيروا ويتبدلوا تماما بمجتمعهم الجديد. لقد عبرت ثقافتهم النوبية المحيط (الأطلسي) وبقيت معهم حية في أكثر من جانب، وعلى أكثر من وجه. شمل ذلك العناية بالأقارب، وباقتصار الزواج عليهم، والعلاقات الأسرية القوية، والمداومة على أداء الشعائر الدينية بصورة جماعية. حافظ هؤلاء البحارة على أصلهم العرقي وهويتهم النوبية، ويبدو ذلك واضحا جليا في تجذر أنماط  الزواج في أوساطهم، وفي تجاربهم الدينية. وكما كتب توليان عن المجتمعات في الشتات، فإن البحارة "حافظوا بصورة نشطة على ذاكرة جماعية مثلت العنصر الأساس في هويتهم المتميزة". ظل هؤلاء البحارة يحافظون على هويتهم الثقافية رغم مرور ستين عاما على الإقامة في الولايات المتحدة، والحصول على الجنسية الأميركية.
رغم أن البحارة قد قدموا لأمريكا وهم عزابا، فقد ظلوا مخلصين لفكرة الزواج فقط من مجتمعهم الدنقلاوي (السابق) في السودان. عادة ما يكون الزواج هنالك مرتبا سلفا بين عائلتين، ويندر جدا أن تتم أي زيجة دون موافقة ومباركة الأبوين من العائلتين، أو أن يتزوج الشاب منهم من فتاة من غير الأصول النوبية. شرح بابكر الأمر كما يلي: " لقد أتينا لهذا البلد ونحن صغار في السن لم نتزوج بعد. ظل بعضنا عزابا، وتزوج منا عدد قليل فقط في هذا البلد، فقد تزوج واحد منا من امرأة مصرية في بروكلين، وسمعنا  أيضا بأن الزيجات التي تمت من أمريكيات لم تدم طويلا. عاد كثير منا إلى دنقلا ليتزوج."
بينما كنت أجري هذه المقابلات مع البحارة سمعت أن ابن أحد المهاجرين القدامى سيتزوج من ابنة أحد زملائه البحارة، وعلمت أيضا أن احتفالات الزواج ستقام في السودان. و هذا يتسق مع كتبه بهاء أبو لبان في عام 1969م عن الكنديين العرب من أن: " الزواج بين العرب وبعضهم البعض (في كندا) يجدد ويطيل من أمد الارتباط بالهوية (العربية) والولاء العرقي". لم يعرف مجتمع البحارة السودانيون في أمريكا خلال عقد التسعينات أي زيجات مختلطة تخترق حواجز الهوية والدين.
التجربة الدينية
كتب كليفورد قيرتز عن الدين  كنظام ثقافي (cultural system) فقال: "إن أهمية الدين بالنسبة لعالم الأنثربولجي (علم الإنسان) تتمثل في قدرته على خدمة الفرد أو المجموعة كمصدر عام (لكنه مميز) لتصور ماهية العالم، ولذاتيه، والعلاقة بينهما." يضيف أيضا أن: "المفاهيم الدينية  تمتد إلى أبعد من سياقها الميتافيزيقي لتوفر إطارا لأفكار عامة لمختلف التجارب... الفكرية منها والعاطفية والأخلاقية" . هذه المقولات والأفكار مهمة للكشف عن معاني حياة البحارة الدينية. كيف تسنى للبحارة مواصلة إتباع وممارسة شعائرهم وتقاليدهم الدينية في مجتمع مسيحي في الغالب؟ ما هي العناصر الرئيسة في ممارساتهم الدينية التي تعكس الاستمرارية الهيكلية لحياتهم السابقة؟
لم يواجه المهاجرون البحارة مشاكل اجتماعية عويصة مثل التي كابدها غيرهم من المهاجرين لأمريكا، وذلك بسبب المنافع التي جناها البحارة بنيلهم للجنسية الأميركية في سرعة فائقة، وبسبب دخولهم العالية نسبيا. بيد أن عزلتهم الثقافية والاجتماعية والدينية دفعتهم إلى الاحتشاد مع جماعتهم، والاكتفاء بصحبتهم مع بعض المسلمين الآخرين (دون غيرهم). لم يكتف البحارة بالمحافظة على ثقافتهم عن طريق الزواج من قبيلتهم فقط، ولكنهم سعوا أيضا للاندماج الديني والاجتماعي مع جماعة المسلمين، ولهذا الغرض انضموا لجماعة مسجد كان يسمى "مسجد داؤود" (يسمى الآن البعثة الإسلامية الأميركية Islamic Mission of America) والذي أسسه الشيخ داؤود أحمد فيصل، والذي هاجر لأمريكا في عام 1913م من مارتنيك (جزيرة في شرق البحر الكاريبي تتبع لفرنسا. المترجم). أنشئ هذا المسجد في البدء في  شارع رقم 128  وشارع لينوكس في حي هارلم، ثم انتقل إلى بروكلين هايتس Brooklyn Heights  في عام 1935م. ولمزيد من التقصي حول التجربة الدينية للبحارة قمت بزيارة ذلك المسجد في أيام الجمع خلال صلاة الجمعة في عامي 1996 – 1997م. يقع هذا المسجد في منطقة سكنية في بروكلين قرب شارع يسمى "اتلانتيك آفنيو" حيث تكثر المحلات التي يملكها المسلمون المهاجرون. لقد ظل البحارة الذين يعتادون هذا المسجد لعقود من الزمان يمثلون مجتمعا متفردا في أوساط المسلمين في ذلك المسجد، ذلك بسب هويتهم المتميزة وخبرتهم التاريخية. كانت تلك الجماعة في المسجد هي الوسيط الذي مارس عبره البحارة هويتهم كمسلمين، وكانت لهم بمثابة الملجأ الديني والثقافي و"وطنهم البعيد من الوطن Home away from home"
تأتي للمسجد أعداد كبيرة من المسلمين الآخرين والعرب لأداء صلاة الجمعة وصلاة العيدين (وهما من أهم المناسبات الدينية للمسلمين)، وبأدائهم للصلوات في المساجد يتأكد وجودهم الاجتماعي في مجتمع أمريكا الشمالية على المستويين الديني الفردي والمجتمعي. وكما كتبت منى أبو الفضل فإن صلاة الجمعة " تبقى أكثر من مجرد أداء واجب ديني في مكان (رسمي) للعبادة، فهي حقيقة فعل يتعدى الفرد ويتجاوزه، ويعبر حدود الزمن والمسافة، ويغذي ويقوي من الإحساس بالمجتمع والهوية."
كتب أوسكار هاندلن عن المهاجرين للولايات المتحدة  بأنه: "كلما زاد واكتمل الفصل بين المهاجرين وبين حياتهم القديمة في بلدانهم الأصلية، كلما زاد عندهم تأثير ونفوذ الدين، والدين هو الناجي الوحيد في عملية النقل من الحياة القديمة  للحياة الجديدة في أمريكا...". عمل البحارة أكثر من غيرهم من المهاجرين لأمريكا الشمالية قبل ستينات القرن الماضي على إعادة صناعة ماضيهم في محيط غير مألوف، وجاهدوا – قدر طاقتهم- لاستنقاذ شيء (عزيز) من حياتهم السابقة في وطنهم الأم هو معتقدهم الديني الذي يربطهم بماضيهم وأصلهم...". وكما أخبرني عثمان وآخرين فقد عاني البحارة السودانيون المهاجرون أكثر من غيرهم من المهاجرين قبل ستينات القرن الماضي لإعادة صياغة ماضيهم وسط أجواء غير مواتية، ووجدوا في ممارسة شعائر دينهم بصور جماعية بعضا من روح وطنهم الأول والحياة التي ألفوها فيه. في المسجد رمزية واضحة فيما ذكره صالح من حدث عن مسجد داؤود الذي كان يتعاهد البحارة الصلاة فيه. قال الرجل: "تعرفنا في ذلك المسجد على بعض الأمريكيين السود، والذين عرفونا على الحاج داؤود، والذي كان يحب السودانيين حبا جما نسبة لمعرفته الوثيقة بماجد ساتي. ساعدنا ذلك المسجد في الغربة، وسهل لنا معرفة المسلمين الآخرين."   
مجتمع مؤسس مستقر
احتفل البحارة بقدوم عدد من المسئولين السودانيين للولايات المتحدة، وكان هذا تأكيدا لقوة شبكة علاقاتهم بالسودان وقيادته وأهله، وتأكيدا أيضا على متانة صلاتهم بوطنهم الأم. لعبت شبكة العلاقات تلك دورا مهما في تأقلم وتنظيم حياة من جاءوا في الموجة الأولي من المهاجرين، والطلاب السودانيين، وصفوة المهنيين الذين بدأ كثير منهم في التقاطر على أمريكا في الخمسينات. مد البحارة يد العون لأولئك القادمين الجدد، وحكى بعضهم من أن أهلهم وأصدقائهم ومعارفهم في السودان أوصوهم بالاتصال بهؤلاء البحارة طلبا للعون، وتوفير الإقامة، ولتعريفهم بالمجتمع الأميركي.
توفي في التسعينات كثير من أولئك البحارة المهاجرين الأوائل، وآب بعضهم للسودان، وأنتقل قليل منهم للعيش في المناطق الأكثر دفئا في الولايات المتحدة، وبحلول عام 1999م  لم يبق من البحارة في بروكلين غير ثلاثة فقط.
ساهمت الحركية المهنية (occupational mobility) للبحارة، وتجانسهم العرقي وخبراتهم الفريدة في مجال الهجرة في خلق وجهات نظر مواتية لقرارهم بالبقاء في الولايات المتحدة. تقف هذه التجربة على طرف نقيض من تجربة المهاجرين الجدد، والمهاجرين الذين سنعرض لطرف من قصصهم فيما يلي.
المهاجرون "المؤقتون" بعد عام 1956م
كان غالب من قدموا للولايات المتحدة من شمالي السودان بعد نيل البلاد لاستقلالها في عام 1956م هم من طلاب الدراسات العليا، ومن الدبلوماسيين في السفارة والقنصلية الذين كانوا يقضون في أمريكا فترات قصيرة نسبيا. كان أولئك بمثابة المقدمة للأعداد الكبيرة من المهاجرين السودانيين الذين هاجروا لأمريكا بعد 1989م.  كان عبد الرحيم هو واحد من أولئك المهجرين الذين أجريت معهم مقابلة في عام 1992م (وكان يبلغ من العمر 46 سنة في ذلك الوقت). ذكر لي عبد الرحيم أنه قدم لنيويورك في عام 1963م كعضو في وفد سوداني كان يشارك في معرض فني عالمي يقام في تلك المدينة. كانت مهمة عبد الرحيم (ومهنته نجار) أن يقوم بنصب جناح السودان في ذلك المعرض. بعد انقضاء أيام المعرض آثر الرجل البقاء. الآن يعمل عبد الرحيم كرجل أعمال، ويمتلك عقارا يحوي عددا من الشقق السكنية، ويترأس "رابطة المهاجرين السودانيين" (الجالية) في مدينة نيويورك. تعتبر قصة عبد الرحيم فريدة من نوعها، إذ أن غالب من قدموا للولايات المتحدة بين عامي 1956م و 1989م بقوا فيها بصورة مؤقتة فقط، مثلهم مثل العاملين في السفارة السودانية، والسياح، والمشاركين في برامج التبادل بين الحكومتين. ورد في تقرير صدر من السفارة السودانية في عام 1993م أن غالب من قدموا للولايات المتحدة بعد عام 1960م كانوا قد أتوا للالتحاق بالجامعات الأميركية المشهورة، الأمر الذي سهل عليهم التقدم في سلم الوظائف والحراك الطبقي فيما بعد. ثبت بعد عام 1982م أن أعدادا كبيرة من السودانيين تحصلوا على درجات عليا من كبريات الجامعات الأمريكية بتمويل من الحكومة السودانية. وبناء على سياسات الحكومة فإنه يجب على السوداني المبتعث للدراسات العليا أن يوقع تعهدا بالعودة للسودان والعمل فيه لعشرة سنوات في خدمة المصلحة التي أوفدته،  وإن لم يف بما تعهد به فيجب عليه رد ما صرفته عليه الدولة. رجع غالب المبتعثين الموقعين لذلك التعهد إلى السودان بعد انتهاء بعثاتهم، بينما بقي قليل منهم في أمريكا.
أثبتت الإحصائيات التي جمعها عثمان حسن أحمد الملحق الثقافي لسفارة السودان في واشنطن أن عدد طلاب الدراسات العليا السودانيين الذين تخرجوا في الجامعات  الأميركية والكندية بين عامي 1960م و1982م بلغ 1382 طالبا وطالبة. في حالات قليلة ينجح الطلاب (خاصة من المهنيين كالأطباء والمدرسين والمحامين وغيرهم)  في تعديل تأشيرة الإقامة (الفيزا) التي يحملونها من فيزا الطلاب (1(F- إلى إقامة دائمة (جرين كارد). بالنسبة لغالب من قابلت من هؤلاء الذين آثروا البقاء في أمريكا بعد انتهاء بعثاتهم كانت الامتيازات المالية  وتوفر فرص البحث العلمي والصعود في سلم الحراك الطبقي والحياة الرغدة الميسرة هي من أهم دوافع هؤلاء للبقاء في أمريكا وعدم الرجوع للوطن. يجب ذكر أن قسما من هؤلاء ذكروا أن سبب عدم رجوعهم للسودان هو القمع السياسي والتدهور الاقتصادي وانعدام الحرية العلمية وقلة فرص البحث العلمي المتقدم. لم يعان هؤلاء كثيرا في التعود والتأقلم على الحياة في أمريكا الشمالية بسبب تأهيلهم العالي ومهاراتهم التي اكتسبوها في العيش لسنوات في هذه البلاد. كمثال على هؤلاء قابلت "خديجة" المولودة في عام 1958م في شندي بشمال السودان. قدمت هذه السيدة للولايات المتحدة عام 1984م وعمرها 26 سنة للحصول على درجات عليا، بعد أن كانت قد حصلت على درجة البكالوريوس في السودان وعينت كمساعدة تدريس في أحدى الجامعات التي ابتعثتها للدراسة في الولايات المتحدة. الآن تعمل كباحثة أولى وتمتلك منزلا، ولا تعتزم العودة للسودان قريبا. قالت لي: "هنا اشعر بأني أملك زمام أمري، فلي قوة وتأثير ومسئوليات أكثر (مما كان لدي في السودان)". كان يرافقها في بعثتها "عطا" بعلها، والذي وجد له أيضا عملا في جامعة أميركية.
وهنالك "عزيز"، والذي كان يبلغ من العمر 47 عاما في عام 1993م. أتى الرجل من مدينة عطبرة في شمال السودان، وحط رحاله في أمريكا في 1980م للالتحاق بجامعة في ولاية ويسكنسن. أتم "عزيز" دراسته العليا في مجال الهندسة، وأنتقل بعد ذلك إلى ولاية مينسوتا. قال مبررا قراره بعدم الرجوع للسودان بعد انتهاء بعثته: "الأسباب الرئيسة التي دفعتني للبقاء في أمريكا هي الرغبة في التقدم المهني، والاستفادة من الموارد اللازمة للبحث العلمي.  لا أعتقد الآن بأنني أستطيع الرجوع للسودان."
كان الاقتصاد السوداني في السبعينات يتصف بالنمو البطيء، وبالتدهور المتواصل في نصيب الفرد من الدخل القومي وفي قيمة العملة الوطنية، وبتزايد الديون الخارجية، وتفشي العطالة، وتدني الإنتاجية. كان الذين آثروا البقاء في أمريكا يدركون كل ذلك، ويعلمون الفروقات الضخمة بين دخولهم في السودان، وتلك التي يحصلون عليها في الولايات المتحدة، حتى إن عملوا فيها في وظائف متواضعة.  يرى كثير من المهاجرين السودانيين أن دخولهم من وظائفهم في أمريكا تتيح لهم فرصا لمساعدة أهلهم في السودان لم تكن لتتاح لهم لو أنهم بقوا في البلاد.
كان ذلك الشعور بالإحباط من الحياة في السودان، إضافة لمعرفة/ تصور أن هنالك فرصا متاحة في الولايات المتحدة هو الدافع الرئيس للعدد القليل من المهاجرين الذين وصلوا لأمريكا بعد 1956م و1989م. تعكس التدفقات المكانية (spatial flows) من بلد لآخر في هذا العالم رحلة بحث الناس المتواصلة عن فرص جديدة لحياة أفضل، وعن ضيقهم بالعيش في أوساط المجتمع في بلدانهم الأصلية. أدى عجز السودان عن توفير فرص معقولة في مجال التعليم والتطور المهني لهجرة أعداد كبيرة لخارجه، وضاعفت الصراعات الأخيرة والحروب الأهلية، وقلة الفرص للإبتعاث الخارجي بعد مجيء الحكم العسكري في 1989م،  من الضغوط على الشباب للسعي للهجرة من السودان.                        





badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء