مجمع الفقه الإسلامي والخروج عن النص
رئيس التحرير: طارق الجزولي
6 August, 2022
6 August, 2022
أصدر مجمع الفقه الاسلامي بياناً أوضح فيه أنه استمع لعدد من المختصين والخبراء في مجال الهندسة والمياه وعلوم الأرض والبيئة والفيزياء والقانون، الذين أبدوا عدداً من المحاذير حول سد النهضة، ومن ثم خلص إلى مطالبة القائمين على الأمر في حكومة السودان بعدة مسائل من بينها الشروع في عمل وقائي للمهددات الضارة المحتملة الناتجة عن بناء السد، وتوعية الشعب بحجم المخاطر الناجمة عن بناء السد، والعمل على إلزام أثيوبيا بجبر الأضرار، والعمل على أن يكون درء المخاطر من اختصاص الدولة الذي لا يتغير بتغير الحكومات.
وجوهر المأخذ على هذه الفتوى هو أنها تتلبس مسوحاً دينياً، في مسألة فنية صرفه تتعلق بالعلاقات الخارجية مع دولة جارة، ويجب النظر لهذه المسألة من زاوية المصالح التي يمكن أن تجنيها الدولة من موقفها السياسي الذي تتخذه حيالها والأضرار التي يمكن تلحق بها. وهذا أمر فني محض تقرر فيه الأجهزة المختصة في الدولة بما في ذلك وزارة الري ووزارة الخارجية ووزارة العدل والوحدات ذات الصلة بالبيئة والقانون وغيرها من الوحدات الحكومية الفنية، ويتعين أن توجد سياسة حكومية واضحة تجاه هذا الموضوع تلتزم بها الوحدات الحكومية، ولا تحتاج إلى فتوى دينية تبين لها اتجاه السير أو توضح لها الرأي الديني في هذا الموقف.
تثور الأسئلة حول طبيعة هذا الإعلان ومدى اختصاص المجمع بإصداره ومدى إلزاميته لحكومة السودان. وتزداد أهمية هذه الأسئلة بالنظر إلى أن مجمع الفقه الإسلامي هو الكيان الذي حل محل مجلس الإفتاء الشرعي والذي كانت فتواه ملزمة للجهات الحكومية في حدود الاختصاصات المنوطة التي حددها له تشريعه المنظم. فقد نص قانون مجلس الإفتاء الشرعي لسنة 1991 على أن من صلاحيات المجلس (إصدار الفتاوى ببيان الحكم الشرعي في أيٍ من مسائل العقيدة والعبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، والميراث والوقف والوصية، يستفتيه بشأنها أي شخص، أو أي جهة) وقد كان قانون مجلس الإفتاء الشرعي محدداً ودقيقاً ونص على اختصاصات المجلس بصورة لا تحتمل كثير اجتهاد. فهو لا يصدر فتوى بغير طلب من الجهة الحكومية المعنية، كما أن الحالات التي يصدر فيها فتواه محددة بأطر معينة لا تخرج عن الموضوعات التي تطرقت لها المادة المذكورة.
عند الغاء مجلس الإفتاء الشرعي واستبداله بمجمع الفقه الإسلامي صدر التشريع المنشئ والمنظم لأعمال المجمع، وهو قانون مجمع الفقه الإسلامي السوداني لسنة 1998، والذي حدد للمجمع أهدافاً عامة جداً لا يمكن قياسها أو الرقابة عليها أو ضبطها ومن ذلك: (رد الأمة إلى شريعتها وشحذ هممها لعمارة الأرض، وفق قيم الدين وأحكامه ) و (سد الفجوة الفقهية التي نشأت عن تعطيل أحكام الدين في معظم شعب الحياة العامة بسبب غياب الدولة الإسلامية) وغيرها من الأهداف المجملة التي يستحيل بيان حدودها أو ضبطها ومحاسبة المجمع على الفشل في تنفيذها.
كما أن القانون لم يحدد آليات معينة يمكن أن يستخدمها المجمع لتحقيق أهدافه وإنما منحه القانون حق استخدام أي وسيلة يراها مناسبة، فورد في بداية المادة رقم (6) ما يفيد عدم حصريه وسائله (يعـمل المجمع على تنفيـذ أهـدافه بكل الوسائل المتاحة المناسبة). وهذه العمومية تجعل المجمع يلعب أدواراً متعددة بدون قيود، فيمكن أن يكون جامعة تتولى البحث العلمي، كما يمكن أن يلعب دور وزارة الاعلام في إصدار البيانات والمنشورات في توجيه الرأي العام، ويمكن أن يقوم بدور المفتي الرسمي في إصدار الفتاوى الدينية. وليس من طبيعة الأشياء أن يقوم جهاز حكومي واحد غير متخصص بكل هذه الأدوار دون تقييد.
بالطبع فإن تاريخ صدور قانون مجمع الفقه الاسلامي وهو عام 1998 يلقي شعاعاً حول الأغراض المتوخاة من استبدال مجلس الإفتاء الشرعي بالمجمع، فهو الفترة التي تصادف قمة فورة الحماس الذي لازم نظام الإنقاذ في تكريس مفاهيم الإسلام السياسي على الواقع العملي، واستخدام المؤسسات الحكومية كأدوات لتنزيلها. ومن جاء قانون مجمع الفقه الإسلامي محملاً بالمفاهيم العاطفية العامة دون أن يتضمن قواعد محددة يمكن احتسابها من ناحية عملية وانعكس هذا بالطبع على مجمل أداء المجمع.
أخطر ما نص عليه قانون مجمع الفقه الإسلامي هو أنه منح المجمع حق إصدار الفتاوى وإبداء الرأي وإصدار البيانات دون أن تطلب منه جهة حكومية القيام بذلك، على عكس ما كان يجري عليه العمل في مجلس الإفتاء الشرعي، ومن ثم أصبح المجمع ساحة يعتصم بها أصحاب رأي سياسي معين لمعارضة السياسات الحكومية التي لا تروق لهم، أو للضغط على التوجهات الحكومية للسير في اتجاه محدد. فعلى سبيل المثال أصدر المجمع فتواه بعدم جواز التوقيع أو المصادقة على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة المعروفة ب(سيداو) ولو مع التحفظ دون أن تطلب منه جهة حكومية فتواه بهذا الخصوص، وهذا أمر محل نظر في حال تحفظت الدولة على بعض النصوص كما فعلت كثير من الدول الإسلامية التي تحفظت على بعض ما ورد في الاتفاقية وأكدت على الحقوق التي اكتسبتها المرأة بموجبها.
في المقابل فقد غض المجمع الطرف تماماً عن أفعال كان أولى أن يدلي فيها برأيه، فعلى سبيل المثال حكم قتل المتظاهرين السلميين في الاحتجاجات على الحكومة، وعدم تشكيل لجان التحقيق اللازمة لمعرفة المسؤولين وتحميلهم مسؤولية هذه الجرائم، وفشل الحكومة في القيام بواجباتها في رعاية ملايين الفقراء بعد اتباع الحكومة سياسات رفع الدعم، وحكم فشل الجهاز الحكومي في أداء الخدمات العامة على النحو المطلوب إلى المدى الذي جعل البلاد تغرق في كومة من النفايات. وغيرها من المسائل التي تتطلب رأياً واضحاً يدل الحكومة على الموقف الصائب.
إصلاح التشريع المنظم لأعمال مجمع الفقه الإسلامي يعد أمراً واجباً بالقدر الذي يحدد مهام المجمع على وجه الدقة والحصر، ويجعل من الممكن محاسبته عليها وقياس أداءه وفق معايير قياس الأداء الإدارية، وفي ذات الوقت يحل التعارض بين مهامه المعممة والمتوسعة دون ضابط ومهام الجهات الحكومية الأخرى.
أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
abuzerbashir@gmail.com
وجوهر المأخذ على هذه الفتوى هو أنها تتلبس مسوحاً دينياً، في مسألة فنية صرفه تتعلق بالعلاقات الخارجية مع دولة جارة، ويجب النظر لهذه المسألة من زاوية المصالح التي يمكن أن تجنيها الدولة من موقفها السياسي الذي تتخذه حيالها والأضرار التي يمكن تلحق بها. وهذا أمر فني محض تقرر فيه الأجهزة المختصة في الدولة بما في ذلك وزارة الري ووزارة الخارجية ووزارة العدل والوحدات ذات الصلة بالبيئة والقانون وغيرها من الوحدات الحكومية الفنية، ويتعين أن توجد سياسة حكومية واضحة تجاه هذا الموضوع تلتزم بها الوحدات الحكومية، ولا تحتاج إلى فتوى دينية تبين لها اتجاه السير أو توضح لها الرأي الديني في هذا الموقف.
تثور الأسئلة حول طبيعة هذا الإعلان ومدى اختصاص المجمع بإصداره ومدى إلزاميته لحكومة السودان. وتزداد أهمية هذه الأسئلة بالنظر إلى أن مجمع الفقه الإسلامي هو الكيان الذي حل محل مجلس الإفتاء الشرعي والذي كانت فتواه ملزمة للجهات الحكومية في حدود الاختصاصات المنوطة التي حددها له تشريعه المنظم. فقد نص قانون مجلس الإفتاء الشرعي لسنة 1991 على أن من صلاحيات المجلس (إصدار الفتاوى ببيان الحكم الشرعي في أيٍ من مسائل العقيدة والعبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، والميراث والوقف والوصية، يستفتيه بشأنها أي شخص، أو أي جهة) وقد كان قانون مجلس الإفتاء الشرعي محدداً ودقيقاً ونص على اختصاصات المجلس بصورة لا تحتمل كثير اجتهاد. فهو لا يصدر فتوى بغير طلب من الجهة الحكومية المعنية، كما أن الحالات التي يصدر فيها فتواه محددة بأطر معينة لا تخرج عن الموضوعات التي تطرقت لها المادة المذكورة.
عند الغاء مجلس الإفتاء الشرعي واستبداله بمجمع الفقه الإسلامي صدر التشريع المنشئ والمنظم لأعمال المجمع، وهو قانون مجمع الفقه الإسلامي السوداني لسنة 1998، والذي حدد للمجمع أهدافاً عامة جداً لا يمكن قياسها أو الرقابة عليها أو ضبطها ومن ذلك: (رد الأمة إلى شريعتها وشحذ هممها لعمارة الأرض، وفق قيم الدين وأحكامه ) و (سد الفجوة الفقهية التي نشأت عن تعطيل أحكام الدين في معظم شعب الحياة العامة بسبب غياب الدولة الإسلامية) وغيرها من الأهداف المجملة التي يستحيل بيان حدودها أو ضبطها ومحاسبة المجمع على الفشل في تنفيذها.
كما أن القانون لم يحدد آليات معينة يمكن أن يستخدمها المجمع لتحقيق أهدافه وإنما منحه القانون حق استخدام أي وسيلة يراها مناسبة، فورد في بداية المادة رقم (6) ما يفيد عدم حصريه وسائله (يعـمل المجمع على تنفيـذ أهـدافه بكل الوسائل المتاحة المناسبة). وهذه العمومية تجعل المجمع يلعب أدواراً متعددة بدون قيود، فيمكن أن يكون جامعة تتولى البحث العلمي، كما يمكن أن يلعب دور وزارة الاعلام في إصدار البيانات والمنشورات في توجيه الرأي العام، ويمكن أن يقوم بدور المفتي الرسمي في إصدار الفتاوى الدينية. وليس من طبيعة الأشياء أن يقوم جهاز حكومي واحد غير متخصص بكل هذه الأدوار دون تقييد.
بالطبع فإن تاريخ صدور قانون مجمع الفقه الاسلامي وهو عام 1998 يلقي شعاعاً حول الأغراض المتوخاة من استبدال مجلس الإفتاء الشرعي بالمجمع، فهو الفترة التي تصادف قمة فورة الحماس الذي لازم نظام الإنقاذ في تكريس مفاهيم الإسلام السياسي على الواقع العملي، واستخدام المؤسسات الحكومية كأدوات لتنزيلها. ومن جاء قانون مجمع الفقه الإسلامي محملاً بالمفاهيم العاطفية العامة دون أن يتضمن قواعد محددة يمكن احتسابها من ناحية عملية وانعكس هذا بالطبع على مجمل أداء المجمع.
أخطر ما نص عليه قانون مجمع الفقه الإسلامي هو أنه منح المجمع حق إصدار الفتاوى وإبداء الرأي وإصدار البيانات دون أن تطلب منه جهة حكومية القيام بذلك، على عكس ما كان يجري عليه العمل في مجلس الإفتاء الشرعي، ومن ثم أصبح المجمع ساحة يعتصم بها أصحاب رأي سياسي معين لمعارضة السياسات الحكومية التي لا تروق لهم، أو للضغط على التوجهات الحكومية للسير في اتجاه محدد. فعلى سبيل المثال أصدر المجمع فتواه بعدم جواز التوقيع أو المصادقة على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة المعروفة ب(سيداو) ولو مع التحفظ دون أن تطلب منه جهة حكومية فتواه بهذا الخصوص، وهذا أمر محل نظر في حال تحفظت الدولة على بعض النصوص كما فعلت كثير من الدول الإسلامية التي تحفظت على بعض ما ورد في الاتفاقية وأكدت على الحقوق التي اكتسبتها المرأة بموجبها.
في المقابل فقد غض المجمع الطرف تماماً عن أفعال كان أولى أن يدلي فيها برأيه، فعلى سبيل المثال حكم قتل المتظاهرين السلميين في الاحتجاجات على الحكومة، وعدم تشكيل لجان التحقيق اللازمة لمعرفة المسؤولين وتحميلهم مسؤولية هذه الجرائم، وفشل الحكومة في القيام بواجباتها في رعاية ملايين الفقراء بعد اتباع الحكومة سياسات رفع الدعم، وحكم فشل الجهاز الحكومي في أداء الخدمات العامة على النحو المطلوب إلى المدى الذي جعل البلاد تغرق في كومة من النفايات. وغيرها من المسائل التي تتطلب رأياً واضحاً يدل الحكومة على الموقف الصائب.
إصلاح التشريع المنظم لأعمال مجمع الفقه الإسلامي يعد أمراً واجباً بالقدر الذي يحدد مهام المجمع على وجه الدقة والحصر، ويجعل من الممكن محاسبته عليها وقياس أداءه وفق معايير قياس الأداء الإدارية، وفي ذات الوقت يحل التعارض بين مهامه المعممة والمتوسعة دون ضابط ومهام الجهات الحكومية الأخرى.
أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
abuzerbashir@gmail.com