محاكمة البشير علانية في الخرطوم

 


 

 

 

هناك طلب مشروع ومبرر قانونيا وأخلاقيا وسياسيا من ثوار 19 ديسمبر بمحاكمة قيادة النظام البائد وبالطبع على رأسه المشير البشير الذي احتكر كل السلطات في السنوات الأخيرة من عهده، صرح المتحدث باسم المجلس العسكري الانتقالي في بداية ظهوره على الملأ أنهم لن يسلموا أي سوداني لمحكمة الجنايات الدولية لكن يمكن محاكمتهم داخليا. ربما كان المتحدث العسكري قد نظر للأمر من الناحية العسكرية (الرجالة السودانية) والوطنية التي يعتد بها الجيش السوداني، اتفق تماما مع الرأي الذي يقول برفض تسليم البشير لمحكمة الجنايات الدولية ومحاكمته داخليا رغم أن تسليمه يحسن من علاقاتنا بالدول الأوربية راعية المحكمة الجنائية على مستوى العالم، لكني اعتمد في خياري على أسباب تربوية وسياسية في المقام الأول تعني جيل الثورة الحالي والأجيال المستقبلية القادمة. أريد أن نضرب مثلا واضحا وقويا لأهل السودان وغيرهم أن الثورة السودانية المباركة لا تأخذ الناس بالشبهات كما حدث عقب ثورة أكتوبر وانتفاضة أبريل بشن حملات تطهير عشوائية ضد سدنة النظامين العسكريين السابقين، ندمنا فيما بعد على ذهاب بعض الكفاءات المتميزة التي فقدناها. وبعد أن جاءت الأحزاب التقليدية (بخرمجتها) المعلومة ومشاكساتها التي لا تنتهي، أصبح بعض الناس الذين ينسون سريعا تجارب الماضي يقول: يا حليل عبود الذي فعل كذا وكذا، أو أن النميري كان قائدا فذا وشجاعا وحاسما. إن الحكم العسكري الذي سيطر على السلطة لمدى خمسين عاما ينبغي أن يُكشف للملأ لأن مسئوليته في تخلف البلاد تفوق بكثير مسئولية الأحزاب التي لم تزد فترات حكمها الثلاث عن احدى عشرة سنة ونصف منذ استقلال السودان، أي أن الحكم العسكري حكم قدرها أكثر من أربعة أضعاف! وأيا كان إنجاز الحكومات العسكرية في تلك العقود يكفيها فشلا أنها عطلت تطور الحكم الديمقراطي الذي يحتاج لفترة زمنية طويلة قبل أن ترسخ مفاهيمه في ثقافة الشعب وتجعله يتجاوز طور الطائفية والقبلية والمجاملات الاجتماعية التي أثرت كثيرا في ميولنا السياسية إبان الحكم الديمقراطي. ينبغي أن تكون خلاصة تجربة السودان السياسية منذ الاستقلال واضحة تماما وهي أن الحكم الديمقراطي مهما كانت عثراته ومشاكله إلا أنه أفضل بكثير من أي حكم عسكري مر على البلاد.

ونريد أن تكون المحاكمة العلنية الموثقة للبشير بالصوت والصورة درسا تربويا للأجيال القادمة تتعلم منه أخطاء تلك العهود، وكيف تحولت تلك المثاليات التي بشّرت بها الانقلابات العسكرية في بداية عهدها إلى حكم فردي لا معقب له ينفرد به القائد الأعلى ويتخلص حتى من أقرب المقربين له الذين شاركوا معه في مخاطرة الانقلاب والاعداد له، لأن من طبيعة الحكم العسكري أنه لا يقبل المشاركة في القيادة ولا المساواة بين الفرقاء. وعن طريق الحكم الفردي تدخل كل المصائب الأخرى: الاستبداد والفساد والمحسوبية والولاء قبل الكفاية والخبرة وظاهرة النفاق والتسلق وتقديس الفرعون. وسيدفع هذا الدرس التربوي العميق الناس لقبول مشكلات الديمقراطية وبطء إجراءاتها وانتهازية الأحزاب وتقديم أجندتها على أجندة الوطن، لكنها في النهاية تقبل بقرار الجماعة في البرلمان وفي مجلس الوزراء، وتحتكم للقانون الذي يحرسه قضاء مستقل، ويختص البرلمان بوضع التشريعات ومراقبة أداء الحكومة ويختص مجلس الوزراء بالسلطة التنفيذية، وفي ذلك حفظ لحقوق الأفراد والجماعات دون تمييز لأحد فالأصل في الحقوق هو المواطنة. ويقوم الاعلام ومنظمات المجتمع المدني بكشف أخطاء النظام وعيوبه للملأ فيتداركها سريعا أو يدفع ثمنها غاليا.

ومن الأفضل أن تشكل محكمتين للبشير وأعوانه الكبار احداهما للقضايا الداخلية أمام محكمة سودانية وطنية تتولى الجرائم المتعلقة بالفساد واستغلال النفوذ والمحسوبية والتعدي على حقوق المواطنين ومخالفة القوانين ونحو ذلك. ومحكمة مختلطة من قضاة سودانيين وغير سودانيين تختص بالنظر في القضايا الدولية التي تثيرها محكمة الجنايات الدولية مثل الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وتقول ان لديها أدلة قوية تدين البشير وعدد من أعوانه الذين صنعوا كارثة دارفور بين عامي 2004 و 2007. وينبغي التعاون في المحكمة الثانية مع المحكمة الجنائية لأنها بذلت مجهودا كبيرا في جمع الأدلة قبل أن تضيع معالم الأحداث ويغيب الشهود. وقد كانت لجنة ثابو أمبيكي لتقصي الحقائق في أحداث دارفور المؤلمة التي أصبحت أكبر كارثة في وقتها على مستوى العالم قد أوصت بتكوين محكمة مختلطة من سودانيين وغير سودانيين، لكن النظام المستبد الذي يعلم يقينا أنه مدان في تلك الأحداث رفض تلك التوصية وشكل محاكم صورية لتقوم بالنظر في قضايا عادية لم تمس أيا من المتهمين الكبار الذين ارتكبوا المذابح وجرائم الحرب التي أودت بأرواح عشرات الآلاف من أهل دارفور. ولا ينبغي أن تذهب تلك الدماء هدرا، وقد تغير المناخ السياسي والقضائي بقيام ثورة 19 ديسمبر المجيدة وأصبح يسمح بمحاكمة عادلة ونزيهة أمام أنظار العالم الذي شهد فصول المأساة في حينها وأدانها وأصدر مجلس الأمن حولها العديد من القرارات التي لم تجد من ينفذها.

altayib39alabdin@gmail.com

 

آراء