يوم 3/3/2013
علامات استفهام
لايمر يوم واحد دون ان تحمل لك صحف السودان مايعكنن مزاجك, ويسبب لك اوجاعا تكاد تدفع ضغط دمك الي حد الانفجار. ويبدو أن ذلك لم يعد مشكلة لمن الفوا هذه المصائب فاصبح جلدهم سميكا واحساسهم ميتا.
فهذه صحيفه رئيسيه" و الصحف الرئيسيه لا تتعدى الخمسه بين كل هذا الركام" تقص عليك في برود غريب ’ وبلا تعليق ’ وبلا استنكار قصة الحكم الخنفشاري الذي اصدره ما سمته قاضي محكمة النظام العام بأم بده في حق فتاة خرساء غرر بها وانتهك عرضها جار لها. فلا اعاقتها شفعت لها عنده ولا الاعتداء الاثم عليها واستغلال اعاقتها, انارت بصيرته المعتمه. ولست ادري ان كان قضاة النظام العام من طينة غير طينة البشر,أم انهم يتلقون تدريبا قانونيا خاصا لايفرق بين المجرم والضحية.
وحسب علمي فان النظام العام يتناول قضايا اخلاقية . وقضايا الاخلاق والقيم والسلوك تحتاج الي فكر ثاقب وقلب ذكي لماح لالعقل متزمت منغلق الفكر محدود التصرف خامل الاجتهاد . فهي ليست واضحة المعالم كجريمة القتل أو السرقة أوالاعتداء , كما تخضع للتأويلات والتفسيرات وتحتاج بالتالي الي رهافة حس يدرك معه القاضي مقتضي الشرع ومقاصده ولا يقع عليها بثقل تزمته وسابق حكمه .
جيء أمام قاضي النظام العام بأم بده - ويبدو أنه جديد علي الشرع والقانون - بفتاة خرساء أنجبت سفاحا. والفعل من شخص معاق عند انسان عاقل يثير الشفقة أكثر مما يثير السخط والرغبة في انزال العقاب علي الضحية التي لم يرحمها حتي أهلها - ان كانوا حقا اهلها - حين دفعوا بها الي ساحة قضاء لايرحم وهم الذين فرطوا في تربيتها ورعايتها وحمايتها . والبيت الذي انتهك فيه عرضها علي بعد خطوات من بيتهم.
ولم يخطر في بال القاضي أن الاعاقة الجسدية- والخرس أحد أخطرها وأعمقها تاثيرا – قد تؤدي الي اعاقات نفسية بعيدة الغور تجعلها فريسة سهلة لمن يستهدفها . فحكم عليها دون أن يعرضها علي طبيب نفساني مؤهل, يحدد مدي فهمها وادراكها لما حدث لها . وأشهر قضية تحرش جنسي واغتصاب في العالم تورطت فيه الكنيسة الكاثوليكيه في أوائل يوليو من العام الماضي حدثت في مدرسة للخرس . لكن القاضي لايعرف ذلك طبعا. أعماه ضيق الافق وضيق الافق من ضيق الوعي فأصدر حكمه القاسي باسم دين أهم صفاته الرحمة وتبدأ أيات كتابه الكريم كلها بالتذكير برحمة الله الرحمن الرحيم
مائة جلده أنزلها القاضي علي جسد هذه الفتاة المعاقة التي جعلتها اعاقتها فريسة سهلة لجار لايعرف الرحمة. ولعله من الورعين الذين يدنسون المسجد بحضوره الراتب كل يوم .
مائة جلدة ؟ يا الهي
لماذا ياسيدي القاضي هذا الامعان في التشفي والقسوة ؟ لماذا تكون عونا علي من هجرها من أهلها ولمن غرر بها في جوارها ؟ ألم يخفق قلبك وانت تراها تفتح فمها ولاتخرج منه كلمة . وتصرخ ولايخرج منها صوت وتحرك يديها واصابعها كا لغريق وهي عاجزة عن التعبير عما لحق بها من ظلم وهوان ؟
ثم تأتي الفاجعة المفجعة والطامة الكبري : تتهم الفتاة المرعوبة جارها الذي ينكر في نزالة أي صلة له بها وبابنها . ولكن الانكار لم يعد ممكنا الا في عالم هذا القاضي: فقد مد الله أفاق العلم تأكيدا لقوله تعالي : " وعلم ادم الاسماء كلها " فكشف للانسان الحديث بصمة وراثية تنتقل من الاب الي الابن الي أن يرث الله الارض . وبهذه البصمة أغلق الباب أمام الكذب والانكار .
المعامل الجنائية تؤكد علميا نسبة الطفل الي الجار المتهم . ولكن محكمة النظام العام الموقر تقول بأنها لا تعترف بالاثبات العلمي وتؤكد بلغة " هذا ما وجدنا عليه أباءنا " أن مثل هذه الجرائم الحدية يتم اثباتها فقط بالشهود والاقرار . ياسبحان الله !
نعم يا سيدي القاضي العبقري كان ذلك في القرون السالفة قبل أن يكتشف العلم (وهو أيضا من عند الله) اثباتا أقوي وأمتن . وهكذا أيضا كانت الامراض تفتك بالبشر قبل أن يخترع العلماء البانسلين وكان زملاؤك يأتون الي المحكمة علي ظهور الدواب والحمير قبل اكتشاف السيارة التي أوصلتك الي مبني المحكمةفي أم بدة .
ولأن صحفنا لا تتابع الخبر ولا تتقصاه وانما تكتفي بما يجيئها مكتوبا من المحاكم وأقسام الشرطة ومكاتب الكتبة في الدوائر الحكومية , فسيظل مصير هذا الحكم ومصير الفتاة الخرساء وطفلها مجهولا لدينا . لكن يبقي السؤال : أين هذا القاضي من الجهود الكبيرة التي تبذلها الاجهزة الحكومية والهيئات العلمية والشرطية والقضائية التي تنتظم الدولة في سعيها الدؤوب لأدخال التقنيات الحديثة لتعزيز الادلة الجنائية, كان أخرها مؤتمرين عالميين عقدا في الخرطوم في شهر فبراير الماضي للبحث في اساليب الدعم العلمي لتعزيز التحقيقات , وقد قدمت في المؤتمر الاول وحده أربع واربعون ورقة بحث وأكد فيه وزير الداخليه السيد ابراهيم محمود سعي وزارته لتطوير العمل والبحث العلمي لمنع الجريمة ومكافحتها .
ألم يسمع وزير الداخلية أو أي من الذين حضروا هذين المؤتمرين بهذا القاضي الذي لايعترف با لعلم الذي يسعون لادخاله في تحقيقاتهم ؟ بلا! سمعوه كلهم وقرءوه وكذلك قرأه القضاة وسكتوا . وقرأه المستشارون القانونيون وسكتوا وقرأه أعضاء مجالس حقوق الانسان وحقوق الطفل وحقوق المعوقين وسكتوا وسيقرأون جميعا هذا الكلام وسيصمتون . لأننا في بلد تسيطر عليه اللامبالة .
ويصفون الفتاة بأنها خرساء .......... ليست وحدها الخرساء . بل البلاد كلها مصابة بالصمم
ولاحولة ولا قوة الا بالله .
mi_shoush@hotmail.com