محكمة بريطانية تجمع شملنا .. وتنتصر لقناعاتي

 


 

 

مع إطلالة شهر رمضان المبارك ( مارس ٢٠٢٣ ) أسعدني (الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ) بنعمة كبيرة من نعمه الكثيرة .

نعمة بطعم خاص اذ جاءت بعد صبر شديد وعميق الأثر والتأثير و ابتلاء وسعى تواصل منذ سنوات في سبيل جمع الشمل .

في البدء، الحمد والشكر لله (فالق الحب والنوى) وحقا (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) .

أكتب هذه السطور بعد استقبال أسرتي القادمة من السودان حيث مُنحت الإقامة الدائمة في لندن ، لإنهاء حالة شتات مؤلمة وقاسية أكملت سنوات سبع ودخلت عامها الثامن .

تفاعلات الدواخل يصعب وصفها ، إنها مزيج من فرح وحزن وتأمل ووجع ونبض إيمان يترسخ ويتعمق بقوة في العقل والقلب والوجدان .

هذه الأيام ازدادت قناعاتي ثباتا و رسوخا وشعرت أكثر من أي وقت مضى بأن تضحياتي من أجل وطني والشعب السوداني واصراري على التمسك بقيم صحافية آمنت والتزمت بها و بأخلاقيات المهنة ورسالتها النبيلة قد أثمرت وانتصرت .

هذا التطور زادت فخري واعتزازي بشأن أهمية ثبات الموقف المبدئي الداعم للحريات ، وحقوق الإنسان السوداني، والمتمسك بصرامة بدوري الصحافي المهني الحر والمستقل أيًا تكن التبعات والانعكاسات.

دفعت ثمن هذا الإصرار والموقف المبدئي ودفعت الثمن غاليا أيضا أسرتي .

كانت قناعتي وما زالت تكمن في إن الايمان العميق بالله، وأنه رحمن رحيم، والايمان بالقضاء والقدر قد منحني ويمنحني طاقة الصبر على المتاعب والمصائب والابتلاء بمختلف أنواعه.

كان وما زال زادي و صبري على الابتلاءات كافة يكمن في قوله تعالى ( قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) .

من دون الخوض في تفاصيل أقول لمن لا يعرف خلفيات شتات الشمل أنه بعد نحو ٨ سنوات على مغادرتي الدوحة الى لندن مضطرا بعدما غادرت أسرتي الى السودان في العام نفسه ٢٠١٥ ، فان عدالة رب الكون وعدالة الأرض جمعت شملنا بلندن يوم الثلاثاء ٢١ مارس ٢٠٢٣ ، أي عشية رمضان .

حدث شخصي مهم وحيوي، ومهني تاريخي أيضا لأنه مرتبط بموقفي الصحافي المهني المستقل ، والوطني.

لندن التي احتضنتني لاجئا سياسيا - وكنت زرتها سائحا مع أسرتي قبل اللجوء بسنوات عدة – ها هي تشهد وصول زوجي اشراقة وفلذات كبدي أيمن وأحمد وأمنية وسط احاسيس لا توصف.

اختلط فرحي بدموع المحبة والحزن العميق....

سالت دموعي دون استئذان أو قدرة على منعها من التعبير الحر رغم حرصي على استقبالهم بالأحضان والابتسامات ، لا بالدموع .

دموعي الساخنة المكبوتة رفضت محاولات خنقها وكبت حقها في التعبير التلقائي الإنساني فعبًرت بطريقتها عن نبض الفطرة الإنسانية.

هذا مناخ لا يعرف طبيعة وقعه ودفء ايقاعاته الا من تجرع مرارة الفراق ثم احتضن أفراد أسرته بعد طول غياب قسري, موجع .

إذا كان هناك من لا تدمع عينه في مثل هذا الموقف الصعب فليبحث ويفتش مليا عن سبب فتور، أو تجمُد إنسانياته.

إيقاعات الفرح واسترجاع شريط الذكريات الجميلة والمواجع لم ينقطع سيل تدفقها بغزارة .....

أعرف أنني دفعت وأسرتي ثمن تمسكي باستقلالية دوري الصحافي المهني ورأيي السياسي المستقل وتغمرني سعادة واعتزاز بموقفي المهني والسياسي ولست نادما على تمسكي بقناعاتي .

كتاباتي ضد نظام قمعي ديكتاتوري أسقطه شعب السودان بثورة سلمية باهرة في العام ٢٠١٩ كانت في صدارة أسباب ما تعرضت له من (حصار) محكم وظالم .

كان رهاني، خلال فترة عملي صحافيا في قطر، في كتاباتي وتعليقاتي منذ الأيام الأولى لانقلاب ٣٠ يونيو ١٩٨٩ في السودان على حتمية انتصار الشعب السوداني البطل على الديكتاتوريين ، وكانت حروفي تؤكد على ذلك في ظروف صعبة، كان فيها حال من يكتب ضد الانقلابيين كالقابض على الجمر .

تفاعلات الواقع السوداني أثبتت- والحمد لله -أن تعليقاتي وقناعاتي كانت صائبة ومستوعبة لدروس التاريخ السوداني الحافل بالثورات الشعبية السلمية ومنسجمة مع قيم ومبادئ حقوق الانسان وهي أساس تنطلق منه رؤاي وتحليلاتي بالأمس واليوم.

للتاريخ واحتراما للحقيقة أقول إن صحيفة (العرب) القطرية احتضنت في مرحلتها الأولى آرائي ومواقفي المبدئية الواضحة ضد الانقلابيين في العام ١٩٨٩ ومناهضة التسلط والقهر والقمع فور وقوع الانقلاب، اذ كتبت في (العرب) في ١١ يوليو ١٩٨٩ تحليلا تضمن وصفي ما جرى بأنه (انقلاب) لا (ثورة إنقاذ) ووقلت إن التعددية والديمقراطية والحرية خيار شعبي سوداني ، وكتبت أيضا عمود (سودانيات) وتضمن انتقادات لممارسات الانقلابيين البشعة .

هذا يعني أن قطر كانت رئتي الأولى للتنفس الطبيعي ومنصة لنشر رؤاي في وقت صعب ولم اختبئ وراء جدار الصمت أو منافقة الانقلابيين ،ويعرف هذه الحقائق قطريون وسودانيون وغيرهم ممن عاصروا وتابعواتفاعلات تلك المرحلة ومراحل تلتها .

هذا معناه أن لحظة احتضاني أفراد بيتي الصغير في لندن شكلت انتصارا جديدا على الظالمين ،ومن دعمهم، أوتفاعل مع ضغوط ورغبات قيادات وعناصر نظام قمعي سقط سلميا سقوطا مدويا ومدهشا بإرادة شعب السودان البطل.

لكن كيف استطعت استقبال الأسرة في لندن بعدما اضطرتني مفاجأة غير متوقعة أن أغادر الدوحة بتأشيرة بريطانية قديمة متعددة الزيارات الى لندن دون أن اتمكن من الحصول على تأشيرات لأسرتي بعدما فقدت عملي واستقراري بطريقة غير متوقعة وفقدت الغطاء والمظلة القانونية ؟

قرار جمع الشمل اتخذه قضاء بريطاني مستقل، اذ بتت محكمة برئاسة قاضية حقانية في استئناف كنت قدمته بسبب رفض وزارة الداخلية طلبي قبل سنوات بشأن جمع شمل الأسرة ،وكانت أسباب عدة بينها ظروف (كورونا) لعبت دورا في تأجيل تاريخ البت في قضية الاستئناف .

قرار المحكمة الموقرة جاء مدويا ومنصفا ورائعا ومثيرا لمشاعر شتى وقد هزني بقوة ورسخ قناعاتي المهنية وتمسكي بآرائي ورفضي أية املاءات أو ضغوط حاولت كسر قناعاتي، خصوصا أن الانسان -أي انسان-لا يصيبه مكروه أو يموت قبل يوم الرحيل المكتوب ،وأرى أنه خير لأي سوداني ان يعيش حياته ويموت وهو يحتضن أشرف وأنبل المواقف الوطنية والحقوقية في الزمن الصعب وليس بعد سقوط الديكتاتوريين، وأن لا يدعم التسلط والطغاة لأن تشجيعهم مشاركة في الجرائم .

أحيي القضاء البريطاني وأحيي أيضا وزارة الداخلية البريطانية وكنت رفضت قرارها واستأنفته، وهي لم تستأنف قرار المحكمة وطبقته فورا ، وهكذا تتجلى أروع سمات دولة المؤسسات والقانون .

قلت إن بريطانيا احتضنتني في ظروف صعبة قادما من قطر الحبيبة ورغم ما جرى فان الدوحة كانت وستبقى في حدقات عيوننا - أنا وأسرتي ، لأنني أحترم قياداتها وشعبها و أعتز بعلاقاتي مع عدد من رموزها في مجالات عدة وأفخر أيضا بدعمي لقطر في مؤسسات اعلامية دولية .

من دون ادعاء أقول إنني ساهمت إعلاميا في اخضرار شجرتها بنشر حقائق الواقع في الفضاء الدولي، إذ دعمت بمهنية تحولاتها العصرية غير المسبوقة في المنطقة، حينما انطلقت في عهد الأمير صانع الأمجاد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وواصلت الموقف دعما لخطوات ايجابية اتخذها ويتخذها خلال هذه المرحلة الأمير الشاب الشيخ تميم بن حمد ،وكنت كتبت بقناعة أنه مدرك لمقتضيات العصر وتحدياته .

لا أحمل في قلبي وعقلي الا الحب لقطر والاعتزاز بعلاقتي مع قطريين أوفياء وكرام، وأخص هنا صديقي التاريخي الأستاذ عبد الرحمن بن حمد العطية وزير الدولة والأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي، و يسرني أن أحيي زوجه دكتورة أسماء العطية ، فقد وقفا الى جانبي في أحلك الظروف ولم يتلون طبعهم أو يتغير تعاملهم الأخوي المحترم، واستمر تواصلهما معي وأسرتي، فعبرا عن أخلاق رفيعة المستوى .

الأستاذ عبد الرحمن العطية رجل يعبر أصدق تعبير عن شهامة وطيبة وأخلاقيات شعب قطر الطيب ،وهو يحترم ويقدر من قدم عملا ايجابيا لوطنه، وهو وآخرون في مستويات قيادية يعلمون أنني قدمت عطاء من دون من أو أذى أو سعي لمكسب مادي خاص أو ابتزاز، وكان ذلك في أوقات صعبة .

يسعدني في سياق المحبة والتقدير أن أحيي الأخ الفاضل الأستاذ عبد العزيز بن محمد العطية ، هذا الرجل طوقني بنبض محبة وتقدير واحترام متبادل.

الأستاذ عبد العزيز شخصية قطرية رصينة ،وهو وجه وقور ودمث الأخلاق ،وانسان بكل ما تحمل الكلمة من دلالات، وهو وجه وعقل مُشرف لأهله ووطنه .

أحيي قطريين كرام وسودانيين أعزاء وإخوة وأخوات أفاضل من بلاد العرب وغيرها، الذين تواصلوا معي بعد الرحيل من الدوحة أو بعد أن أصابني السرطان - حماكم الله - والحمد لله ،أو بعد إجراء عملية جراحة كبيرة.

رأى عدد ممن طوقوني بمحبتهم أن فترة عملي في قطر تستحق التوثيق.

اليوم أشير إشارات سريعة إلى أنني قدمت خلال ثلاثين سنة ما أعتبره عملا صحافيا مهنيا وتضحيات في خدمة قطر وتحولاتها الايجابية في مؤسسات إعلامية دولية قبل أن تنطلق قناة الجزيرة وبعدنجاحها الباهر وهذه الحقيقة يعرف خلفياتها وتحدياتها وما جلبته لي من متاعب عدد من القادة القطريين المنصفين.

كتبت وأكتب عن قطر بمهنية كما رأى صحافيون دوليون أحترمهم وزاملتهم قبل سنوات في صحيفة (الحياة) اللندنية، ولا أخفي وأسرتي محبتنا لبلد عشنا في ربوعه النضرة الدافئة أجمل سنوات العمر .

رغم الطعنة الدامية على الظهر التي تلقيتها لم افقد توازني الانساني والمهني فكتبت بعد المغادرة مقالات عدة عن قطر وقياداتها ومناخها الدافئ انسانيا بل وقفت بثبات وقناعة دعما لقطر في محكات صعبة، وكان أحدث دليل يكمن في معركة استضافة مونديال قطر في 18 نوفمبر 2022 و أثناء (الحصار) في 5 يونيو ٢٠١٧ ، ولمن لا يعلم أقول من دون تفاصيل فقد اُتيحت أمامي أوسع الفرص للمشاركة في حملات إعلامية شرسة ضد قطر وقيادتها لكنني رفضت العرض لأسباب مهنية ومبدئية وإنسانية، ولقناعتي التي كتبتها بأن الحصار إلى زوال وأن العلاقات الطبيعية بين دول وشعوب الخليج ضرورة اجتماعية قبل أن تكون سياسية أو أمنية أو اقتصادية، وجاء الحال اليوم ليؤكد صدقية قراءتي .

لكن أوكد أنه رغم حرصي على علاقتي بالقطريين فان هذا لا يعني تجاهل من كان سببا مباشرا في ايذائنا ، وانتهك الحقوق وتهرب من استحقاقات وظيفية لم يلتزم بها وأدت الى خسائر معنوية ومادية وصحية وغيرها ولن أخوض الآن كثيرا في هذه المسألةاذ أكتفي بالقول إن السعي من أجل حقوق أراها مشروعة بسبب انتهاكات يعد عملا مشروعا لا يسقط بالتقادم.

هناك مسؤول كبير في موقع رفيع حاليا طلب مني -ولم أطلب- أن أعمل في مكتبه خبيرا إعلاميا حينما كان مسؤولا كبيرا في مؤسسة للإعلام وأخرجني من عملي ثم رماني في الشارع، وقد فقدت بذلك عملي في وكالة الأنباء القطرية وفي صحيفة ( الحياة) اللندنية وفي إذاعة مونت كارلو الدولية، ثم تشتت حال الأسرة وأصابتنا أضرار لا حصر لها !!!!!.

قرار المحكمة البريطانية أول خطوة على طريق العدالة.....

يسعدني بعد قرار محكمة لندن بشأن جمع الشمل أن أحيي الدور المهني والانساني والحقوقي الحيوي الذي لعبه الأخ الصديق المحامي الأستاذ غازي ربيع حسنين الذي تولى ملف الاستئناف في قضية جمع الشمل وبذل دورا حيويا أدى إلى ان نكسب القضية .

الأخ غازي هو نجل السياسي والمناضل القيادي السوداني ربيع حسنين وكان درس من مرحلة الروضة الى أن تخرج في كلية القانون في لندن ،وهو حاصل على جوائز وشهادات تقدير لمهنيته العالية.

غازي تلقى تدريبا فصار (محام محكمة عظمى) وهو محام معتمد في وزارة الداخلية البريطانية ولديه مكتب محاماة ناجح وبتميز بأنه في صدارة محامين معتمدين يحضرون جلسات المحاكم وقد تخصص في مجال الهجرة وكان مكتبه حصل على (شهادة أفضل مكتب في مجال حقوق الانسان والهجرة ).

غازي الذي يحمل الجنسية البريطانية أولى قضية جمع شمل أسرتي اهتماما حقوقيا بروح سودانية اذ كان وما زال يعبر في هذا الإطار عن تقديره الشخصي لأدواري الصحافية ومواقفي الوطنية ،وإنني في هذا الإطار أحييه وأعبر له عن تقديري لدوره الحقوقي ومشاعره الاخوية .

في هذا الاطار شكلت شهادة الأخ العزيز عبد العظيم صديق مدير شركة (تحويلات ليلى ) في المحكمة دورا مهما وحيويا، إذ أثبت وأكد تحويلاتي المالية لأسرتي خلال سنوات مضت ،ما يعني أنني واصلت رعاية أسرتي ماليا واستمر تواصلي الانساني معها وكانت هذه الشهادة بحقائقها التي اعتمدتها المحكمة سببا مهما من أسباب الحكم، وهو بإجماع مراقبين من الأحكام النادرة والمهمة ويعكس ابعادا قانونية وإنسانية وقد توافرت وفقا لنص ( القرار وأسبابه) مقومات وعناصر عدة لكسب القضية وبينها ظروفي الصحية ، ما يُرسخ دور العدالة ،و يعزز احترام حقوق الانسان .

أحيي الأخ العزيز الأستاذ عبد العظيم ،وقد عرفته رجلا فاضلا ورصينا ومحترما وحقانيا .

التفاعلات كثيرة ، لكنني في نهاية حروفي أدعو أصحاب الحقوق المنتهكة الى ثلاث خطوات ، أولًا أرفعوا أكف الدعاء ليل نهار داعين الله - كما أفعل منذ سنوات وحتى اليوم- أن يرد كيد الظالمين في نحورهم ويكشف أفعالهم البشعة ، لأن دعوة المظلوم مستجابة .
ثانيا أقول للمظلومين والمغبونين أيًا كان نوع الظلم والغبن تمسكوا بساحات العدالة والقضاء المستقل ، فالعدالة ستنتصر ولوطال الزمن .

ثالثا: أحمدوا الله في السراء والضراء ورددوا دوما قوله تعالى (وقُل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريكُ في الملك ولم يكن له وليُ من الذل وكبرهُ تكبيرا).

برقية: رمضان مبارك.. أسأل الله أن يحفظكم، ويمتعكم دوما بنعمة احتضان فلذات الأكباد والأهل، وألا يحرمكم ممن تحبون.
لندن - ٣١ مارس ٢٠٢٣
modalmakki@hotmail.com
////////////////////////

 

آراء