محمد عثمان إبراهيم الشقليني
عبد الله الشقليني
19 April, 2012
19 April, 2012
abdallashiglini@hotmail.com
بادٍ هواكَ صَبَرتَ أمْ لمْ تَصْبُرا .. وَبَكَاكَ إن لمْ يُجْرِ دَمعُكَ أوْ جَرى
كمْ غَرَّ صَبْرُكَ وابتسامُكَ صاحِباً .. لما رآهُ وَفي الحَشَا مَا لا يُرى
أبوالطيب المتنبي
*
لم يكُن هو شيخ طريقة ولا زعيم طائفة ولا مؤسس حزب . رجلٌ عادي من غِمار الناس . لم يغتنِ ليصل بثروته إلى المشاعر فيأسرها ، بل كان إنساناً مُفرطاً في تواضعه وغنياً بإنسانيته.
*
هنالك عباد سخّرهم المولى على قضاء حوائج الناس ، ثبَّتهُم كاللآلئ على الجياد ليظهر حُسنهم في كريم المواضع .عند وجفة القلب ، تتذكره ضمن كوكبة الذين تعزّهُم . تتموج صوره مُبهَمة في الذكرى ، إلى أن يصبِح أول الذين يلقونَكَ فتعرف أنك على أرض موطنك ، فينقشعُ الوهمُ وتجده باسماً في وجهكَ . بدون لقائه تكون غريباً والأشياء من حولك تبدو غريبة أيضاً . تعصف الدُنيا بأهواء نفسك وهي محتقنة بالمشاعر ، تنشُد الألفة والصدر الحاني حتى تلقاه فتطمئن. ينتقص وهج الحضور ولا يكتمل إلا بوجوده . وعندما تهمي الخطوب عليك بحجارتها ، تلقاه باشاً في وجهك يخفف عليك قسوة الحياة وجفوة مصائب الدنيا حين تُمطِر . صوته المبحوح أبلغ رفيق لك حين ترتَبك في حضرتك الأشياء والناس من حولكَ . تَجِده فتستقر النفس ، له كاريزما ساحرة ، فالطرفة لا تفارق شفتيه . كل الأيادي الممدودة لن تُغطي فرجةً متسعة في النسيج الاجتماعي في الحي ، كان يسدها وحده.
*
يسير برفقتك من الصحو إلى المنام ليقضي لك حوائجك أنّا كانت وكيف تشكّلتْ ،كأن لا مطلب له في هذه الدنيا القاسية إلا رضاك ، وما هو إلا مستور الحال . كان دليلي عندما قدمت الوطن عند رحيل والدي آخر مرّة. وهو للجميع دليلهم كذلك. رفيق الجميع عندما تفرِج الدنيا عن حبسنا ويتدفق السيل من علٍ ،إلى مضارب الوطن حيث الأهل والأحباب والعشيرة . وعندما تفتح عينيك خارج مصابك الخاص ،و تتذكر ما فعلت الدنيا بالذين من حولِك ، من أفراح مرت بهم أو أتراح غرزت سكيِّنتها في نفوسهم . تجده دائماً بين يديك دليلك للعشيرة والأهل والجيران. تُمسك بيده و يدلَكَ عليهم واحداً إثر آخر، لتكن شعلة ضوءٍ تُنير المشاعر وتخفف عنهم ظلامات الدنيا وقد افتقدوك وها أنت قد عُدت. دار بي كل المساكن التي أوجعتها الدنُيا لأمسح أحزان هذا الكهل أو أبش على تلك السيدة بحديث من القلب،و كان هو مفتاح الأحاديث الشجية من المبتدأ إلى الختام . فأني قد اعتدتُ ألا أسمي علائقي بالناس واجب يتعين الوفاء ، أو أن مراحمتهم عبء أنشدُ أن ألقيه عن أكتافي ، بل هي مشاعر صادقة تتدفق ، تكفي حاجة الطالب والمطلوب . برفقته جالستُ الجميع ، واغتسلت نفسي من كآبتها وأنا أشهد عيون الأهل وهم يذرفون الدمع عندما يرون العائد من سفر طال. كأنه من بعد فقدٍ حقيقي ،عاد من الموت إلى الحياة ،فعادت للأوجه نضارها وجرت الدماء بحيوية دفقها . ترى بصمة الحياة بقسوتها على الأوجه من حولك وقد حفر البؤس أخاديد ،فيبدو الجميع أكبر سناً من أعمارهم الحقيقية .في زحام حديثه ومؤانسته ،وهو يخفف وطأة التجوال بأقاصيص لا تنتهي ،انتبه هو فجأة وكأنه تذكّر
أمراً. قال لي بعد أن اكتملت الرحلة:
- نَمُرُّ عند عودتنا ، على أختك " زينب " - يقصد زوجته - فقد فقدت قبل عام أختيها .
وَجَمْتُّ وقد صعقتني المفاجأة . آخر ما تذكر ...مصيبته !و كاد الدمع أن يطفر من عينيَّ ، كيف نسي في زحام ركضي برفقته أن له أوجاع مثل كل الناس ولمْ أعرف ؟ .أوجاع السيدة التي تقاسمت معه حياته وظللتهم السنوات.
دخلت بيته ثم المسكن حيث زوجه ، وقضيت أزهر أيام سفري كلها . نفُضتُ أغلفة الدنيا وقد أطفأ الوصال جمر السفر وطول الغياب ،نُخفف عن بعضنا وَكزات الحياة القاسية وهي تسرق الأحباب فُرادى وجماعات .
هو وحده الذي كان يتفقد الجميع بحنو بالغ. ووحده يمكنك أن تسير معه كل الدروب ،يدُلّك الطريق الأقرب . وعند المخادع الجّافية تجده أنيسك في قصص الأحوال وما فعلت الدنيا بالناس والحياة .
*
كانت حياته " بُساطاً أحمدياً " كما يقولون . ممتلئ القلب بمحبة الناس . يُسرع إليك عندما تغتمَّ الدنيا ليزيل ضباباً من حولك . تجده حكيماً متلألئ العبارة ،ً مثل كل العامّة حين يسترسلون ويطلقون العنان على سجيتهم ،يُعرِّفونَك بدروس الحياة بتواضع . هو شديد الألفة بأهله وأهل الحي وبالأطراف الأخرى والجيران وأقارب الجيران.يعرف عناقيد العلائق والأرحام ،. أصولها والفروع . وعندما لا تستقر دُنياك فتنسى تشابُك العلاقات الاجتماعية تجده يُذكِّرك بمحبة مخلوطة بعتاب .. فتنتبه .
*
في أيام الأفراح والأتراح تجده سعيداً يسعى من خلف الكواليس إلى الأسواق للخضار ، والمخابز ومصانع الثلج ونصب السرادقات ومقاعد الأضياف وحاجات الضيافة. يعصُب معك الحِزَّم ، يحمل على أكتافه كل الأحمال ولا يستحي أن ينال الجهد من هندامه، فمن أجل الآخرين يكون سعيداً كطفل وجد دُمية جديدة .
*
في زحام أضياف المناسبات العامة ، ينسى الجميع ما مضى من عمره ، فلا يتذكرون إلا شاباً في مُقتبل العمر يهش على الأضياف ويتفقد الاستطعام للجميع وأكواب الشاي الأحمر أو المياه الباردة تُرطِّب وقع الهجير ، وهو وقد أصبح في العقد السادس من العمر.و منذ زمان ليس بالقليل جَداً و له حفدة. وجوده كالماء والهواء عندنا ، لا نعرف قيمتهما إلا عند فقدانهما . هو وجه نضير من أوجه العمل العام . كان هو منظمة كاملة في رجلٍ واحد اسمه " محمد عثمان إبراهيم الشقليني ".
*
جاء الفقد عظيماً برحيله المفاجئ ، وعرفنا سرَّ هذه الحياة وقسوتها علينا بغيبته الكبرى ، لأنها تعني غيبة الكثير الذي سيضْمُر بفقده .كأن المولى قد خفف عليه وأعفاه مما يصيب الناس من عذابات المرض أو محطات الرحيل العسير . وقد تناول مولاه وديعته بيسر وهو في قوة فتوته ، كأن لا يريد له أن يكون عبئاً على أحد . قضى نهاره الأخير منتشراً هنا وهناك ، ينشر محبته على الجميع ، كنسمة باردة في صيف قائظ . مرت عليه الحياة التي عاشها بصورها مُسرعة الخطى من المهد إلى اللّحد ، قبض على صدره ، ثم أسلم الروح . برقٌ لامع أسدل الستار على الحياة بالموت . لم يصدق أحد أن يغيب ذاك الذي كانوا يرونه سيد الحفاوة وخادم الأضياف في كل لمحة وفي كل حين واستدركوا أنها المشيئة . مزروع هو في كل الطرقات والأزقة والبيوت . تُخاطرك روحه فتجده أمامك . هو الآن في رحلة غياب سرمدي . تبحث عنه العيون وتلاحق ذكراه بالدمع . هوت بورصة الحياة الإنسانية الكريمة التي كانت تصلنا بالأرحام والناس .
*
مليون وردة تتفتح حين نذكره . نسأل مولاه أن يسكنه مسكن الذين أحبهم ،وشملتهم زخات رحمته بالوعد والنعيم الذي لا يزول .
عبد الله الشقليني
14-4-2012 م