adballashiglini@hotmail.com تدلى الجَسد مُعلقاً ، قُرطٌ تدلى سبحان من أبدعه . نَهضت سحابة طيفٍ لأبي الطيب ، مدَّ يُمناه وأنشد : نَفَذَ القَضاء بما أرَدتَ كأنهُ لكَ كُلما أزمَعتَ أمراً أزمَعَا أكَلَت مَفَاخِرُكَ المفاخرَ وانْثَنَتْ عن شأوِهنّ مَطيُّ وَصفي ظُلَّعا وجَرَينَ جَريَ الشمسِ في أفلاكِها فقَطَعنَ مَغرِبَها وجُزْنَ المَطلِعا وحَلَلتَ من شَرَفِ الفَعالِ مَواضعاً لم يَحْلُلِ الثَقَلانِ مِنها مَوضِعا من يشبهك يامن خرجت علينا منذ ألفي عام ؟ كُنتَ أعزباً والعُمر نيِّف وثلاثين عاماً . في حياتك السابقة ، كأنك جلست في صُحبة حوارييِّك الى العَشاء الأخير . خُبز جاف أنت ، ودمك المراق هو النبيذ الأحمر . من خوف عيد السبت ، سادتي... لا تقتلوا حَمَلاً أو لِصَّين . تعجَّلت روحك الا تأتلق هناك . يا دنيانا تعالي فقد فرغت من قراءة حظي ، هذه هي البداية وتلك كانت الخاتمة . وكُتب للحَمَل الوديع أن يهبط إلى العُلا مذبوحاً يفتدي أمة ، ففي دروب المراعي سار الأنبياء والرسل والحكماء والبسطاء . الآن تنهض الجمعة العظيمة مرة أخرى . فسدنة بيلاطس يجلسون من فوق سرج مهر أبيض من الرخام ، وَسِعهم جميعاً . قالوا لسيدَّهم : ـ الدنيا أظلمت ، والسماء أحجمت عن البوح ، والنيل منذ مولده نسي أن يَنعم على أهله ولا يَسال اليوم عروساً ، يحملها ويتفجر ويزدهي من أعلى فَراديسه والى مَرج البَحرين عند المتوسِط . إنهم يطلبون منْ كان اسمه على ( محمود ) السماء ، فساعته قد أزفت . جاؤا به إلى دار الولاية ، دخلوها فتنجسوا ، فكيف ياتُرى يأكلون الفصح ؟ خَرَج بيلاطس إليهم وقال : ـ أية شِكاية تُقدمون على هذا الإنسان ؟ قالوا له : ـ لو لم يكن فاعِل شر لما كُنا قد أسلمناه إليك . قال لهم : ـ خذوه أنتم ، وأحكموا عليه فلكم ناموسكم ، وأنتم أهل العِلم . قالوا له : ـ لا يجوز أن نقتل أحداً ...، نحن نريد الشريعة أن تحُده . قال لهم : ـ وما ترون . قالوا : الحُكم ُ هو الموت . دخل بيلاطس مجلسه ، وقلَّب الأمر وحدَّث نفسه : ـ هو يقول مملكتي ليست من هذا العالم . أقديس هو أم زنديق ؟ إنه زنديق ليس في ذلك شك . جاؤا اليه بالأوراق ، وخَتَم بخاتم الدولة ، صباح الجمعة هو الميعاد . مضى الليل أظلم مما ينبغي ، والصبح الآن في رونقه البهي فاتر النظرات كأنه يَحلم مِثلي . أمطرت الطرقات وجرت سيلاً ، من كل أمة فوج . وحدها الأرض المخضرَّة قالت لا ، لن أشهد مصرعه . قلبه نما أخضراً من بين أشواك عرفت حنينه ، طهره ونقاءه . كانت الأرض تخاف أن تلفحه نسمة قادمة من وطن ناء يستجدي أطفاله الأثداء أن تنعَم عليهم بقطرة حليب . سيُدمي سيدنا البكاء إن علم أن الموت يرغب ضُمهم إلى صدره . خَفَت ضجيج المدينة ، ورقصت الناقلات في الطريق الى الهيكل ، وتوقفت من وعورة الطريق والزحام . السير على الأقدام أسرع ، فموعد الزفاف برهة لا تفوتك . نُصبت السرادق برأس حافٍ ، وسماء ترقب . أطَّل الزمان الغابر الكالح بأوجه كهنة نفضوا غُبار السنين ، قفزوا من قبورهم ، ومن تحت طبقات التراب نهضوا ليعيدوا الحَدث التاريخي من جديد . تَمدد عمرك سيدي ، ستة وسبعين عاماً ، استَويت على غصنك قنديلاً يتلألأ . كتبتَ أنتَ سِفرك الأعظم قبل موعدهم معك اليوم بسنين عددا . إتَزَرت الآن أبيضاً ناصعاً بمحبة أن تَرى خالِقك ، والعيون تَشرب من ضوء نُورك وأنت تصعد عتبات العُلا . أرخت الشمس جفنيها عن المشهد البديع ، فالسماء تُفسح ويتمدد الزمن بين الضُحى و صلاة الجمعة . تلى رئيس الكهنة الحيثيات : ـ الحُكم عليك قديم ، قد خَرجت أنتَ عن ملتنا زنديقاً منذ زمان . إنك ملعون ...ملعون ... ملعون . فقال الحَمَل في سِره : ـ أنت تقول إني زنديق !. فقد ولدت أنا لأشهد للحق . قالوا لِحَمَل الذبح : ـ ألك أمنية ؟ قال : أمنيتي واحدة . قالوا : ـ أتشرب كأساً من مُخدر ، فبين فينة الحضور والمغادرة لن تقدر على ألم الفراق ؟ تبسَّم وقال : ـ أمنيتى ، أكشفوا وجهي لأرى أُمة مُحمد ، قد صدق المولى وعده . أما أنت يا حبيبنا ( عبد اللطيف ) فستنكِرني قبل صياح الديك ثلاثاً . اللهم اغفر لهم جميعاً . من يَتزود ويرشُف رحيق الحقيقة العِرفاني ، فإنه كادح إلى ربه فملاقيه . هَتفت في حضرته : ـ سيدي ... أنت الآن قد ورَّثتنا كلماتك ، أنت حي معنا . غمامٌ أبيض كثيف أغشى عيناي . مدينة السلام أراها هابطة من السماء . لكل بوابة نسيج يتفرَّد ، ومن كل حجركريم قلادة ، وضفائر مجدولة . نَمْت عليها زخارف من يَشْبٌ ، ياقوتٌ أزرق وأصفر ، عقيق أبيض وأخضر وأحمر ، زُمرُّد ذُبابي وسِلِقيٌ . يقول الحَمَل الوديع في الخِتام : ـ الله ربي ... إني اليك قادم . تدلى الجَسد مُعلقاً ، قُرطٌ تدلى سبحان من أبدعه . تتكسر الأضواء فيه والعُيون تحلِّق . من صفو الينابيع أَدمُع المحبين تَنهل وتَهمي ، علا الهُتاف . الروح تحلِّق ترفرف أجنحتها أقواساً من قُزح تحملها الريح ، والعطر يملأ السماوات . إنه لذبح لو تعلمون عظيم . اليوم لا صوت للضاربين بالقيثار والمغنيين ، والمزمَّرين ، لن يَسمع اليوم أحد . تتوهج الفردوس سَكرَى ، بمقدم فارس قد استضاء من نور مشكاة ، ومن نور كوكبها الدُري تألَق مُشرِقا .