محمود محمّد طه والمثقفون: شرف الكتابة ونبل الوفاء
د. حيدر إبراهيم
21 November, 2013
21 November, 2013
(1)
في شأن الكلمة والكتابة:-
تظهر وسط هذا المستنقع السوداني بعض الومضات التي تخرج المرء من الحزن والصمت المر. ففي الفترة الاخيرة كان كتاب الأخ عبدالله الفكي البشير،وجائزة الأخ فيصل محمد صالح،من الإشراقات وسط أزمنة الإنحطاط. فقد افتدي (عبدالله الفكي) -حسب لغة الجمهوريين- المثقفين، وطهّرهم من كسلهم وحسدهم بكتابة هذا السفر العظيم. أما (فيصل) فقد أعلن أن الصحافة ضمير شقي لهذا الشعب المستباح،وأدب وأخلاق رفيعة وليست شبه مواخير للشتم والنميمة وفرش الملاية- كما يقول المصريون. فالكتابة بكل أشكالها،هي متعة، وتفكر، وتربية؛ ولكنها في المستنقع السوداني الراهن، أبت ألا أن تخرج الكلمات من غابات النفس البشرية بكل سوءات إنسان سنجة أو الشهيناب الأول (ماقبل التاريخ)، بعدوانيته وجلافته. فقد أطاح الممسكون بالأقلام والمسودون للصحائف بكل قدسية وبهاء الكلمة التي كان بها البدء –كما قال الكتاب المقدس. فقد سادت ظاهرة المقالات التي تحمل عناوينها أسماء شخصيات يوجه لها المقال. وهذه بدعة مقتبسة من عوالم الحكّامات والهجّائين لجذب الانتباه للشخص المستهدف، وتركيز تنشين رماة الحدق الجدد علي أهم مراكز الأذي والضرر في شخص وروح المستهدف. هذه السادية محيّرة: أيّ مثقف هذا الذي ينتشي بانتقاء عبارات السب والتقليل من قيمة الآخر؟ أتمني أن يقوم شخص مهتم بمراجعة أرشيف المقالات الصحفية ويعدد لنا كم مرة عنون محجوب محمد صالح أو بشير محمد سعيد مقاله باسم شخص معين، ويقارن عناوينهم بعناوين كتبة عصر الانحطاط خلال شهر واحد. أعلم أنهم مطالبون بتسليم المقال كل صباح مثال بائعات اللقيمات أمام المدارس قديما،ولكن هذه الضرورة يجب ألا تقوم علي الاساءة، ونبش أعراض الناس،وتشويه سمعتهم.هذه –للأسف-خسة وغياب ورع:أن تكسب المال والشهرة بغض النظر عن الوسيلة،وعلي الملأ،علنا. فالحطيئة والفرزدق وغيرهم، كانوا يلقون شعرهم في مجلس السلطان، أوفي ركن من السوق، ولكن ليس في صحف ومواقع يطالعها الآلاف. ويذكرني الكثير من الكتبة بسائقي التاكسي المصريين، فالواحد منهم يسب أباك وأمك بأقذع الألفاظ وهو لا يعرفك، فقط لأنك قطعت الشارع أمامه أو دفعت له ما رآه قليلا.
قبل فترة دخلت في نقاش حول كتاب الأخ (محمد احمد محمود) وكنت أمني النفس بنقاش رصين ومفيد وراق، فـانبري احد الكتبة ويحمل درجة علمية عالية، وسوّد المواقع بشتائم تترفع عنها أحط الحواري وأزقة السقوط، علي شخص لو قابله في الشارع لن يعرفه.وطلب مني البعض الرد،ولكنني لم أفعل لأنني تيقنت أن وزارة الصحة لم تعد قادرة علي الوفاء بالتزاماتها تجاه مستشفي التيجاني الماحي،وبالتالي لا يكون الرجل المناسب في المكان المناسب.وقد أدي تقصير المصحات في دورها العلاجي،أن يتسرب كثير من الكتبة الي الجلوس تحت أعمدة الصحف أو أن يقبعوا في زاويا وأركان المقالات.وتذكرت شخصا كان يتجول في منطقة المحطة الوسطي وكابريس حاملا لافتة مكتوب عليها: لكل سؤال جواب! ولكن أودع المصحة حتي توفي. فقد تحسرت عليه، إذ لم يحضر هذا الزمن الهابط ،فقد كان من الممكن أن يكون له عمود، ويحصل علي لقب "مفكر إسلامي"، أو"ناشط ليبرالي"،أو"منظر شمولي".
اختطف الكتابة والكلمة حفنة من المعقدين، والطواويس، والحواة المعتوهين، في وقت كان هذا الشعب البائس في حاجة ماسة لمن يدافع عنه علنا، ويصد عنه الظلم، ويداوي مذلته بالكلمات الوضئية الصادقة. لست من أصحاب نظرية المؤامرة،ولكن أن يقوم هذا العدد الهائل من المتعلمين بحملة تزييف للوعي منظمة وفي مرحلة تاريخية خضع فيها الشعب السوداني لعملية استباحة وإذلال لم يعرفها في تاريخه الطويل وتحت كل النظم؛فالأمر يحتاج لتوقف وإمعان.وسط الجوع والمرض، وقصف العزل، وجلد النساء ،تجد قنوات فضائية خصصت بعض برامجها للنكات الناعمة،والحكايات "الطاعمة"، والعبث الذي يتغافل عنه قانون النظام العام. ويكتمل الحال التراجيدي بصحف الفضائح والسباب، مما حدا بهيئة علماء السودان أن تسمي تراشق الصحفيين سفاهة عقل (السوداني13/11/2013). ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يقف نائب يوصف بأنه "داعية" تحت قبة البرلمان، ليقول: البنت غير المختونة عفنة! وتنقل وسائل الإعلام هذا الطفح لداخل المنازل.
هذه المقدمة ضرورية لكي نميز كتابات عبدالله وفيصل الرصينة والملتزمة،عن كتابة الإسفاف الذي يحاصرنا صباحا ومساءا.خاصة ونحن في زمن "تساوت فيه الأضواء والظلم".تحية وإجلالا لهما في علياء الصدق وصحو الوعي.
(2) في شأن الكتاب والكاتب:-
اتحفنا (عبدالله الفكي البشير) بكتاب أقرب إلي قصائد (أم كلثوم) المغناة في كامل فخامتها،وجلالها،وسموقها وحتي في الترديد والإعادة.وكتاب هو أقرب للمنحوتات الصخرية والمعدنية منه إلي اللوحات التشكيلية.وهذا يعني أن الكتاب احتاج لقدر كبير من الصبر والجلد، والمثابرة،والعمل الدؤوب ،وهذا خصال من يريد أن ينجز عملا عظيما. ولك أن تتصور حال (ماركس) وهو يجلس الساعات الطوال في المتحف البريطاني الرطب ليجمع مادة (رأس المال) فقد لزمه قدرا كبيرا من الصبر والجلد. فالكتابة الجادة نوع من العبادة والتبتل،لأن الكاتب يحرم –طواعية-من المتع الصغري: الونسة، القعدات، الولائم، النميمة،الشللية.فتأليف مثل كتاب(عبدالله الفكي)حوالي1277 صفحة،يعني أن هذا الشاب قد كرس وقتا طويلا،وبذل جهدا، وصحة، وراحة، ونور عين من أجل الإنجاز.وهذا السلوك،عدا التجويد والصرامة العلمية،يعكس وفاءا، واخلاصا، وتضحية،وهي خصال لا تجدها كثيرا إلا لدي الإخوة الجمهوريين.وأتمني أن يحافظوا عليها لندرتها وانحسارها المتواصل.وهذا المجهود يجدد التحدي للمثقفين الآخرين الذين وعدوا بالكتابة عن زعمائهم التاريخيين المحبوبين.
يعطي المؤلف درسا في التوثيق المحكم واليقظ والمتابع.إذ يبدو وكأنه يريد أن يقول: لن أفرط في الكتاب من شئ. فقد حاول فعلا أن يلاحق أي حرف كتب أو قيل عن الاستاذ محمود،وهذا عمل اعجازي ولكنه يواجه مشكلة الإمساك بخيوط فصول الكتاب جيدا. فهناك خطر التكرار والاسهاب غير المبرر وانسياب التنظيم. علي سبيل المثال، هناك خلط شديد في الصفحات 710و711 حيث يتداخل كلام للطيب صالح وحسن مكي.ويحيل القارئ للملحق36 علي أساس أن بيان أباداماك ولكن القارئ يجد الملحق هو مقال:ماذا فعل الصحفيون بحريتهم؟والبيان هو الملحق رقم41.وقد درج الكاتب علي كتابة السير الذاتية في الهامش، ولكنه كتب سيرة (محمد محمد علي) كاملة في المتن،قاطعا تسلسل الحوار الراقي مع الاستاذ. وقد لا يكون كل التكرار مرفوض،ولكن التكرار الحرفي وفي صفحات متقاربة يعتبر من العيوب.
أن الكتاب في حقيقته هو محاكمة للمثقفين السودانيين، والأكاديميين، والإعلاميين وكل من ساهم في تجاهل الاستاذ محمود أو تعمد اخفاء سيرته ومساهمته المقدرة والمميزة.وقد قام الكاتب بعلمية إحياء لتراثه وسيرته كاملة، وسهّل علي المهتمين مستقبلا عملية البحث عن المصادر والمراجع. ولكنني أخشي علي الحمهوريين من خلق ما يمكن أن نعتبره :"مركزية محمودية"، مثل المركزية الثقافية أي (Mahmoudocentrism) أوعقيدة محمود (Mahmoud’s cult). فقد ظهر اتجاه بين الجمهوريين يقيّم تنويرية أو تقدمية أي مثقف حسب قربه أو بعده من الاستاذ. فكل من تحدث ايجابيا عنه يُرفع لمصاف التنويرين، وفي نفس الوقت من كان تنويريا ثم انتقد فكر الاستاذ يخفض من قدره ويحشر في زمرة أدني. هذا الموقف مخالف تماما للفكر الجمهوري المستند علي الحرية الفردية المطلقة والمقيدة فقط باساءة استخدامها. وقد حمّل الاستاذ الجمهوريين مسؤولية الارتقاء بعقولهم،كما جاء في مؤتمر (أم بارونا) سنة1968:-" نحن عشنا زمن كتير في مجالات عاطفية(...)جاء الوقت لتجسيد معارفنا،وأن نضع أنفسنا في المحك ونسمو في مدارج العبودية سمو جديد".(الكتاب،ص169).وفي موقع آخر:-"أنتم غرباء الحق.. ولكن غربتكم لن تطول ..فاستمتعوا بها، قبل أن تنظروا فلا تجدوا في الأرض إلا داعيا بدعوتكم".(اهداء كتاب الإسلام،يناير1969) فلابد للجمهوريين من قبول النقد وممارسته،ولكن حتي الآن تغلب سودانيتهم علي جمهوريتهم. فقد رفضوا النقد أو الاجتهاد حتي داخل صفهم الواحد.
أخشي أن يتحول (الاستاذ محمود) إلي ،وأن يتحول حواريوه الاذكياء إلي طائفية جديدة. فالجمهوريون الذين سمحوا للاستاذ الاجتهاد في سنة النبي الكريم مثلا،يحرمون (عبدالله النعيم) من حق الاجتهاد في أقوال الاستاذ رغم قدمه في التتلمذ. ويقول المؤلف:-" إن منشورات النعيم ،لا تعد حديثا باسم الاستاذ محمود أة باسم تلاميذه (الإخوان الجمهوريين)،وإنما أصالة عن نفسه،كما ظل يؤكد،فالمنشورات علي تعددها وتنوعها في تقديري،تأتي في اطار مشروع النعيم الخاص،بيد أن المشروع علي خصوصيته وتعدد معالمه،لا جدال في أنه ينتهي في نسبه االفكري عند الاستاذ محمود".(ص289). هذا حديث شديد الابهام لا يبين حدود الخاص داخل النسب. وللأسف لا يدافع (النعيم) نفسه عن نسبه وانتمائه متجنبا قصف خالد الحاج وغيره. وبينما يحرم (النعيم) من شرف التناسل من الاستاذ، يؤكد الكاتب:-"كل اسهامات القراي تستند وتنطلق من مشروع الاستاذ محمود".(ص291).وفي موقع آخر:-"لا تعبر اصدارات خالد عن مشروع خاص به،وإنما تعلن منذ الوهلة الأولي،ليس ضمنا وانما صراحة في صدور الكتب ومقدماتها،بأن هذه الكتب لا تخرج من كونها امتدادا لمشروع الاستاذ محمود".(ص297) ولم يتصدي لهما أحد مصرا علي خصوصية المشروع،لأنهما لم يجتهدا أو يجددا في فكر الاستاذ،ولم يتحدثا عن علمانية الدولة كما فعل النعيم.
تعامل المؤلف عن بعض المواقف النقدية(غير تلك التي تنتمي للهوس الديني) بقدر ما من التعتيم أو الاختزال.فقد اخضع الحوار الراقي بين الاستاذ والشاعر محمد محمد علي،لعدم موضوعية مخلة.فهو لم يناقش أفكار الشاعر بل ركز علي دوافعه،وقد قد تكون متوهمة.إذ اختزله في كونه معهديا وبالتالي فهو تقليدي ورجعي لم يأخذ من المعهد غير الوسائل (اللغة،النحو،العروض)بلا منهج.كما أنه مصري الهوى والمزاج،وشديد الاعجاب بعبد الناصر.9ص209-210).هذا تحليل للشخصية وليس للأفكار.كما أنه ليس عيبا يقلل من الأفكار التي طرحها.وبالنسبة لمصر فهي قد ترسل للسودان بنفايات اكاديمية مثل(المطيعي) وبنوعية مميزة مثل(عبدالمجيد عابدين)و(محمد عوض محمد)و(العشماوي). و يقف الاستاذ تماما في موقف الكراهية لعبدالناصر لأنه-حسب قوله-الاستاذ جعل من "مصر مخلب قط للشيوعية الدولية".(ص465). هذا حكم جائر قائم علي تحليل خاطئ،لأنه في ذلك الوقت بالتحديد كان الشيوعيون المصريون يمللأون سجون الواحات والمحاريق خلال عامي1959-1964.وقبلها أعدم (عبدالناصر) العاملين: خميس والبقري بتهمة الشيوعية والدعوة لاضراب في كفر الدوّار.
لم يتوقف المؤلف طويلا عند كتاب(محمد أحمد محمود)المخصص كله لفكر الاستاذ(Quest for Divinity) في309صفحة.ويحتوي علي فصل هام(ص12-40)عالج فيه التكوين الفكري للاستاذ وبمن تأثر؟ و لمن قرأ ؟وهذا موضوع يتجنبه الجمهوريون تماما.وهو خلل في التراكم المعرفي لا أدري لماذا تجاهله المؤلف الداعي للورع والاخلاق في مجال المعرفة؟ والاستاذ نفسه يؤكد دوما عدم تأثره بالسابقين،وفي سؤال:هل قرأت لمفكرين إسلاميين؟أجاب الاستاذ محمود:"في الحقيقة لا يوجد مفكرون بالمعني الذي كان لهم أثر علي حياتي.ولكن هناك أصحاب مناهج هم الذين تأثرت بهم وهم النبي..والغزالي..فلقد اتبعت المنهاج ورأت شيئا قليلا..شذرات من هنا وهناك ولهذا لا أقول بتلمذتي علي مفكر معين".(ص1037).فهو لا يذكر حتي إبن عربي،وهذا وضع غريب علي مجدد صاحب رسالة للإنسانية جمعاء. وهذا موقف طبيعي في التبرير،لأن الاقرار بأثر السابقين ينسف "فكرة الفهم الجديد للإسلام"محور الكتاب،بل مرتكز الاستاذ نفسه في اثبات تفرده وجدته.
*****
سوف أعود للأفكار والمواقف في مقالات قادمة،ولكن موضوع الخفاض الفرعوني وثورة رفاعة ،يصعب تأجيله،لأنه خطأ استراتيجي في فكر الاستاذ. فالموقف صحيح سياسيا في إطار نضال الحركة الوطنية ضد البريطانيين، ولكن علي مستوي الفكر والثقافة معيب في حق مجدد إسلامي.كما أنني انزعجت كثيرا للغة المستخدمة في الاحتجاج علي سجن القابلة،يكتب الاستاذ :" مفتش رفاعة سجن إمرأة مصونة شابة في سجن عمومي مع خادمة عاهرة".(ص1105).ثم يضيف:-"يراد سجن امرأة شابة حرة مسلمة مصون" . (ص1106) هل يعقل أن يتحدث الاستاذ عام 1946 عن امرأة حرة وغير حرة أم هو مهموم بالانسان حصرا؟
تظل موضوعات أخري غير الخفاض تحتاج لنقاش مستمر،علي رأسها أعمدة الفكر الجمهوري: السودان،الإسلام،الإنسان،والسلام.وهي بدورها تستدعي قضايا،مثل:فكرة مركز الوجود أو الكون، والتعاون مع مايو،وعروبة السودان والصلح مع اسرائيل .
وأخيرا،للأخ عبدالله،مجددا، الشكر علي هذا الفداء الفكري والاكاديمي.
Hayder.ibrahim.ali@gmail.com