محنة الشّعب السّوداني فى البحث عن حكومة

 


 

 

مسرحية " وطن للبيع", بطولة الممثل القدير فيصل أحمد سعد ( كبسور) تعكس أبلغ تعبير عن محنة الشعب السودانى فى دولتهم, و فى لقاء تلفزيونى آخر قال فيصل "إذا كان فى قلبك بذرة عشقٍ للوطن لماذا تبيعه؟" , رغم أنّ المجتمع السودانى إكتسب ظاهرة الإنقسام على الذات منذ القرن الرابع عشر الميلادى ,حيث بدأ التوالد القبلى من لا شىء إلى أن وصل عدد القبائل بالسودان حوالى ستمائة قبيلة, فأستشرت ظاهرة الإنقسام فى كل نواحى الحياة, إلاّ أنّ الجيل الحالى يحمل تباشير مجتمع معافى, ربّما يسود السودان مستقبلاً حسب مؤشرات " سايكوإجتماعية" .
لكن سوف يعانى الشعب السودانى كثيراً إلى حين الوصول إلى دولة رشيدة, و هذا يرجع لطبيعة العلاقة المعلولة ما بين الشعب و الدولة , رغم عدم وجود معايير ثابتة تحكم علاقة الشعوب بدولهم إلاّ أنّ هذه العلاقة تُعتبر بصمة إجتماعية تميز الشعوب عن بعضها البعض, هناك ملاحظات جديرة بالذكر, مثلاً نجد الشعب اللبنانى أكثر ثراءً من حكومته, وهذا قد يكون إحدى أسباب إفلاس دولة لبنان حالياً, بالمقابل نجد الشعب السوداني يمتلك وعياً إجتماعياً أكثر من حكوماته المختلفة ( النُخب السياسية) على مدى التاريخ الحديث, حيث تنتفى الرعاية الإجتماعية لدى الدولة إتجاه الشعب , فنجد العلل الإجتماعية وإشكالاتها من تمييز مصدرها النخب السياسية, بينما نجد التكافل الإجتماعي من خواص عامة الشعب.
محنة الشعب السودانى إنّه لم يجد منذ الإستقلال حكومةً تحقق أدنى تطلعاته, بل كانت النخبة السياسية هى التى تعرقل مسيرة الدولة , و تجهض الثورات التى يشعلها الشعب , عندما قامت ثورة 24 بقيادة الجيش لطرد المستعمر تم إجهاضها بواسطة زعيم سياسى كبير مما مكن الإنجليز من التحكم على البلد و إغلاق العديد من المدارس وإلغاء المدارس المقترحة التى تجعل من المواطن إنساناً مستنيراً, 21 اكتوبر 1964 أوّل ثورة شعبية فى إفريقيا و الشرق الأوسط , لكن إنقسام الساسة و إختلافهم السياسى فى حكم الدولة أدّى إلى إجهاض أهداف الثورة و إفشال قيام دولة رشيدة , و هكذا ثورة إبريل 1985 التى أسقطت حكومة نميرى , غياب العزيمة الوطنية و السعى وراء المصالح الحزبية أدى إلى ظهور حكومة طوارىء لمدة ثلاثين عام, فظل الشعب السودانى جُلّ الفترة ما بعد الإستقلال يعانى الفقر و الحرب و التشرد .
ثورة ديسمبر 2018 أحتشد لها كل مكونات المجتمع, فأتفقوا على إسقاط نظام الإنقاذ على الحدّ الأدنى, وتوافقوا تلقائياً على عقد إجتماعي شريف, به أفترشوا أرض القيادة العامة و ألتحفوا سماءها, فأقتسموا الطعام , و أنتبزوا الخصام, مطالبين بإنشاء دولة رشيدة يجد فيها الإنسان العناصر الأساسية للحياة الكريمة. لكن هيهات, بعدما تأكدت الموكونات السياسية أنّ النظام قد ولى , و تربعوا على الأرائك الوثيرة, و غدوا فى المطارف العِتاق, و العمائم الرقاق, ضيعوا الأمانات , و تعرضوا للبلاء و هم منه فى عافية, يتكأ أحدهم على شماله , فيأكل من غير ماله ", و بعد أن أستغشوا بسرابيل السلطة, طُمست بصائرهم و أُعميت أبصارهم عن الرعية, وضربت نوبة الفُصام عقليتهم مرة اخرى كالعادة, فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً و كلّ حزبٍ بما لديهم فرحون.
هذه المهازل السياسية التى أرتكبتها مجموعة " قحت", منحت فرصة ذهبية لعودة الانقلاب العسكرى فى 25 اكتوبر, و كان الوضع حقيقةً فى حوجة لمراجعة أداء الحكومة الإنتقالية, و هذا ما أقدمت عليه قيادة الجيش, و أعلنت أنّ عملية 25/أكتوبر هى تصحيح لمسار الثورة, لكن كانت كلمة حقّ أريد بها باطل . بالتالى فى خلال أيام قلائل وجد الناس أنفسهم فى مرحلة ما قبل الثورة.
هكذا أصبح الشعب السودانى كاليتيم فى مأدبة الليئام ,ظل البعض يتاجر بقضايا الشهداء لمكاسبهم السياسية و الحزبية , حتى أنّ رأس الدولة فشل منذ عملية 25/اكتوبر الإنقلابية فى كل شىء , حتى تعزية أهل المقتولين إن لم نقل " شهداء" على حسب تصور البعض, فشل فى مخاطبة الشعب حتى و لو بثلاث كلمات كاذبة , فما أحقّ للهذا الشعب أن يستنجد بالأمم المتحدة ؟ , هذا السؤال موجه للذين يجتهدون ليلَ نهارَ لعرقلة مهام البعثة الأممية , مرة تهديدها بالطرد , مرة بوصفها بأنها تجاوزت تفويضها , مرة أخرى بوصفهم كفرة.
المؤتمر الوطنى فى فترة حكمهم كانوا أكثر حنكة و دبلوماسية فى التعامل مع الأمم المتحدة, حتى أنهم أستقبلوا أكبر قوات للأمم المتحدة فى العالم , حوالى (26,000) جندى تحت الفصل السابع وفق القرار (1769) 2007 , الذى يعتبره البعض إحتلالأً صريح , لكنهم كانوا لا يقولون لها أُفٍ, حتى إذا ضاقوا بها ذرعاً, أفرغوا جام غضبهم على بيل كلنتون , و مرةً على أوكامبو, و مرة أخرى على مجموعة الأزمات و هكذا , لكن لا يهددون الأمم المتحدة بالطرد أو التفجير, لأنّهم جزء منها فى البدء, و ثمّ أنّهم يعرفون تماماً ما هى العواقب لأىّ تصرف غير مدروس, أمّا الآن نرى كبيرهم يدعوا لطرد البعثة و ممثل الأمين العام للأمم المتحدة و هو يدرك تماماً أن هذا لا يمكن, لكن هذا من باب إرباك المشهد السياسى, وفى التحليل الكلّي للحالة الأمنية فى البلد نجد هذا الحراك السياسيى يقع فى مستوى واحد مع مسلسل "تسعة طويلة" و الصراعات القبلية .
فليعلم جميع شعب السودان إنّه شريك أساسى فى الأمم المتحدة و يدفع إشتراكاته من أمواله الحرة, مقابل ذلك فإنّ الأمم المتحدة عليها واجبات إتجاه هذا الشعب, وفى الأصل أنّ خدمات الأمم المتحدة موجهة للشعوب كما ورد فى إفتتاحية ميثاق الامم المتحدة, ليس لأحزاب , أو مليشيات,أو تنظيما أيديولوجية, فتبقى الدولة هى الوسيط مابين الامم المتحدة و شعبها. بالتالى الخطاب الذى قُدم للامم المتحدة فى27-مارس- 2020 كطلب لمساعدة شعب السودان لم يكن إستجداءً و لا خنوعاً, إنّما مطالبة بحقوق مستحقة لا يمكن لأى شخص أن يلغيها أو يعدّل فيها, و طالما لم يجد الشعب السودانى حزباً يعينه فى محنه المعقدة , و لا حاكماً يستطيع توفير أدنى مطلبات الحياة, إلاّ مزيد من الإحباط , اذن عليه الحفاظ على ما هو مقدورٌ عليه, و هى حقوقه لدى الأمم المتحدة .
لو كانت الأقدار تجرى على التمنى, ما كان لنا أن نُبى آمالنا على الأمم المتحدة لتخرجنا من المآزق الأقتصادية و الإجتماعية و نحن نملك الموارد الطائلة, لكن لسوء الحظ أنّ الكتلة السياسية تعانى من أزمة أخلاق و عدم القدرة على التوافق. كان علينا أن نستفيد من تجربة رواندا, فى 1993 عندما وقع سياسيو رواندا على أتفاق أروشا , وعاهدوا أنفسهم ألاّ يعتمدوا على الأمم المتحدة و الإعانات الخارجية, و يحشدوا كل الطاقات البشرية لتنمية بلادهم, فها هى الآن فى مقدمة الدول الأفريقية .
على العموم, سوف تتكون حكومة فى يونيو القادم فى أغلب الأحوال و هى أقرب إلى حكومة طوارىء منها إلى حكومة وفاق وطنى , لأنّ الكلّ مُجبر أو مضطّر للمشاركة فى هذه الحكومة لأسبابٍ أو أخرى , هذه الحكومة أشبه بـ " جبة الدرويش" , جبة الدرويش يتم صنعها بـ "التلتيق" من بقايا الأقمشة بشكل عشوائى لا يوجد إنسجام فى الألوان, و لا الأحجام , و ربما تتم عملية الحياكة بإستجعال لتلافى "الحولية" المزمع عقدها , يتم ربط الرقع مع بعضها في هذه الجبة بقوة الإبرة و الخيط, و تبقى ما بقى الخيط قوياً, و إلاّ سوف تذهب كل قطعة أدراج الرياح , و مع هذا كله هناك متربصون يحملون الخناجر لتمزيق هذه الجبة "المزركشة.
فى الفترة الأولى من الثورة كانت كل الخيارات فى أيدى السودانيين لبناء دولة قانون و مؤسسات بالطريقة التى يرونها مناسبة, أمّا الآن قد فقدنا كثير من تلك الخيارات, بسبب تدخل عناصر عالمية فى القضايا السياسية السودانية, الفترة المقبلة ربّما تكون الأخيرة لقيام دولة رشيدة, على الأحزاب السياسية و المؤسسة العسكرية و كل المؤسسات التى تمتلك مقدرات سياسية و مالية و روحية أن يكونوا قدر المسؤولية, لترفيع الحكومة القادمة إلى دولة مؤسسات و قانون, من أجل هذا الشعب الذى عانى كثيراً.
اللّهُمَّ لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك و لا يرحمنا, من أراد بهذا الشعب خيراً أجعل الخيرعلى يديه و من أراد به شراً اجعل الدائرة عليه, و صلِ و سلم على سيدنا محمدٍ و على آله و صحبه .
رسائل الثورة (41) 20/5/2022
aahmed59@gmail.com

 

آراء