محنة قيادات أحزاب المعارضة السودانية -2-
إبراهيم الكرسني
22 July, 2010
22 July, 2010
الهرولة بين الحركة الشعبية... و المؤتمر الوطني!!
فقدت أحزاب المعارضة السودانية، تحت قياداتها الراهنة، البوصلة السياسية التى ترسم لها الطريق الصحيح الذى يتوجب عليها أن تسلكه، إن أرادت خيرا لمستقبل السودان و شعبه. السبب فى ذلك يرجع، فى تقديرى الى عاملين أساسين هما: أولا- غياب الديمقراطية وحرية إبداء الرأى داخل هذه الأحزاب و إختزال الحزب فى "واحد نفر"، كما أسلفت القول فى مقالى السابق. أما السبب الثاني فيتمثل فى غياب الرؤية الواضحة ، و بالتالى غياب الرسالة و البرامج وخطة العمل التى تتمكن من خلالها من إيصال رسالتها للشعب و تنفيذ الخطط المناط بها تخطى العقبات و حل المشاكل الأساسية، و الثانوية كذلك، التى تواجه الشعب و الوطن، و توفير الموارد، المادية و البشرية، اللازمة لبلوغ تلك الغاية.
إن المبرر الموضوعى لوجود أي حزب، هو دراسة واقع مجتمعه من جميع النواحى الإقتصادية، و الإجتماعية، و السياسية، دراسة علمية متعمقة، و تشخيص الظروف المحيطة بها بدقة متناهية، و تحديد القضايا و المشاكل التى تعترض سبيل تقدم مجتمعاتها الى الأمام، أسوة ببقية المجتمعات و الشعوب التى سبقتها فى هذا المجال، و من ثم صياغة الخطط، ووضع البرامج الكفيلة بمعالجة تلك القضايا معالجة جذرية. بعد أن يقوم الحزب بإنجاز كل هذا، يتوجب عليه أن يسعى بين الناس لتبصيرهم بأهداف خططه و برامجه، و يقنع الشعب بمدى مواءمتها لحل تلك القضايا و المشاكل، من خلال إستغلال جميع السبل و الوسائل و المنابر المتاحة له. الهدف من كل ذلك هو الوصول الى السلطة السياسية ليتمكن من خلال دورة الحكم الزمنية، التى يحددها الدستور و القانون، من إنزال تلك الخطط و البرامج من المجال النظري الى المجال العملي، ثم يترك للشعب وحده تقييم أداء الحزب، ومدى تمكنه من تنفيذ تلك الخطط و البرامج من خلال الواقع المعاش ، ومدى نجاحه فى إنجاز ما وعد به،ثم تقييم تجربته فى الحكم، عند نهاية كل دورة، مما أفرزه الواقع المعاش من حقائق و أرقام، وليس من خلال الشعارات الفارغة الجوفاء، من قبيل نأكل مما نزرع، و نلبس مما نصنع، لكي لا تصبح موضع تندر و إستخفاف، كما لخصها شعبنا فى شعاره الذكي، "نضحك مما نسمع"، ليقف دليلا دامغا على الحصاد المر الذى جناه من تلك البرامج الجوفاء. فإن نجح سينال ثقة الشعب فى دورة أخرى، و إن لم يلازمه التوفيق، أتى الشعب بحزب غيره الى سدة الحكم، من خلال صناديق الإقتراع، فى إنتخابات حرة و نزيهة تضمن عدم تزوير إرادته.
هذا هو جوهر العملية السياسية برمتها، الذى يبرر وجود الأحزاب السياسية من أساسها. ففى غياب مثل هذه الرؤية الواضحة، و العمل بموجبها، تتحول العملية السياسية الى عبث لا طائل من ورائه، و تتحول الأحزاب السياسية الى مجرد أندية و منتديات، و يتحول قادتها، بالضرورة، الى مجموعة فلاسفة و منظرين، لا تربطهم بواقع مجتمعاتهم روابط حقيقية و فاعلة، و تتحول بالتالى تلك الأندية و المنتديات الى آليات هروب للأحزاب من ذلك الواقع، بدلا من وسائل مواجهته، و إعمال الفكر لدراسته، و تشخيص مشاكله، و إستنباط الحلول الناجعة لها. هذا ، و للأسف الشديد، هو الواقع الذى تعيشه أحزاب المعارضة السودانية، و الذى تسبب فى فقدانها للبوصلة السياسية التى تحدد من خلالها مسارها السليم، فى تخبطها ذات اليمين و ذات اليسار، مما جعلها عرضة لمكر شريكي الحكم، المؤتمر الوطنى من جهة، و الجبهة الشعبية لتحرير السودان من جهة أخرى، منذ إنقلاب "الإنقاذ" فى العام 1989 ، ولكن بالأخص منذ توقيع إتفاقية نيفاشا فى العام 2005 و حتى وقتنا الراهن.
و قعت أحزاب المعارضة السودانية، فى غياب تلك الرؤية و البوصلة، فريسة سهلة لسهام الشريكين التى لا ترحم. فقد قام كل منهما بإستغلال تلك الأحزاب حتى يتمكن من تحقيق أهدافه السياسية، و لكن كل منهم أدى ذلك الدور وفقا لأسلوبه الخاص. إستغلت الحركة الشعبية، طيلة فترة معارضتها لحكم "إلإنقاذ" ، طيب الذكر التجمع الوطنى الديمقراطى، كورقة ضغط على حكومة الجبهة الإسلامية تساعدها فى معركتها السياسية، على الرغم من أن النضال المسلح كان بمثابة أداتها الرئيسية فى منازلتها للنظام. لقد توهم قادة أحزاب المعارضة حينها أن العلاقة التى تربط التجمع الوطني بالحركة هى علاقة "استراتيجية"، و لسوف تستمر كذلك حتى يتم "إقتلاع" نظام الإنقاذ من "جذوره"!! وقد قادتهم تلك الأوهام الى التخيل بأن الحركة سوف تقود النضال المسلح ضد النظام، بالإنابة عنهم، وصولا الى مرحلة "القلع"، و من ثم إقتسام نتائج ذلك النضال معهم بالتساوى، سلطة وثروة! إن لم تكن هذه هى الغيبوبة السياسية فى أوضح تجلياتها، فكيف تكون إذن؟! إنها المحصلة النهائية لغياب الرؤية الواضحة و البوصلة السياسية.
المأساة الحقيقية تمثلت فى إستمرار حالة الغيبوبة السياسية لأحزاب المعارضة حتى بعد وقوف الحركة الشعبية، شريكهم "الإستراتيجي"، سدا منيعا فى وجه محاولاتهم المتكررة، بل توسلهم، للحاق بركب اللقاءات بين الحركة و الحكومة التى أفضت الى إتفاقية نيفاشا.نعم منعتهم من هذه المشاركة، وهي تعلم تمام العلم بأن المحصلة النهائية لهذه الإجتماعات سوف تقرر مصير السودان و شعبه بأجمعه، و ليس جنوبه فقط. فهل يعقل أن يظل هذا الحليف شريكا "استراتيجيا"، وهو يسعى بكل ما أوتى من قوة لحرمان حليفه من المشاركة فى أهم اللقاءات التى سوف تقرر مصيرهما معا. إذا كان للحركة من الأسباب المقنعة التى دعتها لإتخاذ مثل هذا الموقف، فكيف يمكن تبرير موقف قادة أحزاب المعارضة يا ترى؟!
كانت الحركة واعية تماما بما تفعل وتريد، منذ عهد الشهيد قرنق و حتى وقتنا الراهن. كانت تعلم أن إشراك حليفها "الإسترتيجي" فى المفاوضات سوف يحولها الى مجرد منتديات للثرثرة، و "اللف و الدوران"، حول القضايا "المصيرية" دون حسمها بصورة جذرية. و كانت تعلم كذلك أن هذا الحليف "الإسترتيجي" لا يمتلك أي "كروت" فاعلة و حقيقية ليؤثر بها ايجابا على مجرى المفاوضات. فلا هو يمتلك جنودا فى ميدان المعركة، لأن جنرالاته يوجدون فى مواقع أكثر أهمية من ذلك الميدان، و لا هو يمتلك قوة جماهيرية ضاربة، كما يتوهم قادة المعارضة، ليتمكن من إستغلالها لدعم مسيرة التفاوض، عند الضرورة!! إذن لا يوجد مبرر واحد يجعل الحركة "تتكرم" بدعوة قادة أحزاب المعارضة الى طاولة المفاوضات! ولكنها كانت تدعوهم الى إجتماعات طارئة كلما دعت الضرورة ذلك، لتوهم الحكومة بأنها جزء من حركة المعارضة فى الشمال من جهة، و لتوهم قادة المعارضة بأنها لا تزال حليفهم "الإستراتيجي" من جهة أخرى. المدهش فى الأمر أن هؤلاء القوم كانوا يهرولون، ذرافات و وحدانا، الى تلك الإجتماعات، معتقدين، فى ظل غياب البوصلة و تحت ظلال غيبوبتهم السياسية، بأنهم سيظفرون بعد كل إجتماع بغنيمة "إقتلاع النظام من جذوره"، و التى تتحول، فى لحظات صحوة نادرة، الى مجرد طلب بسيط لم يتحقق لهم حتى هذه اللحظة، يتمثل هذا الطلب فى "سلم تسلم"!!
إستمرت هرولة قادة أحزاب المعارضة نحو الحركة حتى بعد أن أصبحت شريكا أساسيا فيما أصبح يعرف بحكومة الوحدة الوطنية. تجلت هذه الهرولة فى ذهاب تلبية أحزاب المعارضة لإجتماع جوبا الذى دعت له الحركة الشعبية قبيل الإنتخابات الأخيرة مباشرة. أثبتت الأحداث أن تلك الدعوة كانت لأجندة إنتخابية تخص الحركة و حدها، و ما دعوتها لحليفها "الإستراتيجي" إلا مجرد أحد الوسائل و الآليات التى تلجأ اليها، بين الفينة و الأخرى، لتنفيذ تلك الأجندة. نعم نجحت الحركة فى تحقيق أهدافها المتمثلة فى ضمان فوز رئيس المؤتمر الوطنى كرئيس للبلاد، لأنه هو الوحيد الذى سيضمن لها تحقيق هدفها الإستراتيجي، المتمثل فى إجراء الإستفتاء، و تحقيق الإستقلال، وقيام دولة النيل، كا صرح بذلك رئيسها، و بوضوح تام. عاد قادة أحزاب المعارضة الى قواعدهم سالمين، مهللين مكبرين، و كأنهم قد تمكنوا من إقتلاع النظام من "جذوره"، فى الوقت الذى عادوا فيه حقيقة بخفى حنين، فيما عدى ذلك التحالف الهلامى الذى أسموه ب "تجمع جوبا"، حيث سقط فى أول إمتحان له عند قيام الإنتخابات التى أعقبت تكوينه بعد أشهر قليلة، حيث خاضها بعضه، و قاطعها البعض الآخر، و شارك وقاطع آخرون فى نفس الوقت!!
نعم، تواصلت هرولة أحزاب المعارضة نحو الحركة الشعبية حتى بعدما أصبحت الحركة شريكا أساسيا فى الحكومة، بعد أن تمادت فى إستغفال تلك الأحزاب، وأوهمتها بأنها لا تزال حليفا "استراتيجيا" لها فى ذات الوقت! هل يستطيع أحد منكم فهم هذه "الغلوتية"، أو فك شفرتها، سوى قادة أحزاب المعارضة، متعهم الله بالصحة و العافية الى أن يتمكنوا من زيارة حليفهم "الإستراتيجي" لتهنئته بقيام دولته المستقلة فى مقبل الأيام، آملا أن يكون ذلك هو مسك الختام لحقبة قيادتهم "الرشيدة"؟!
هذا ما كان من أمر هرولة أحزاب المعارضة نحوالحركة الشعبية، و ماذا عن أمر هرولتها نحو الحكومة و مؤتمرها الوطني؟ لم يكن يظن، أو يتوقع، قادة المؤتمر الوطني، مجرد التوقع، أن يلبى لهم قادة أحزاب المعارضة أي نداء للإلتقاء بهم، سواء كان ذلك داخل السودان أو خارجه، جراء ما إرتكبوه من فظائع و جرائم فى حق الشعب و الوطن بصورة عامة، و فى حق شخوص قادة تلك الأحزاب، كأفراد، بصورة خاصة. لكن لقد خاب ظنهم بالفعل. بدأت هذه الأحزاب تهرول نحوهم بمجرد الإشارة، وحتى دون توجيه دعوة رسمية لهم، لأن من يهن يسهل الهوان عليه. و هل هناك هوان و إهانة لهؤلاء أكثر من تعيين أكثر كوادر "الإنقاذ" سوءا للإجتماع بهم. هل يمكن أن تدلونا على إهانة و إستهانة أكثر من تكليف من تولى مهمة أمن النظام فى أسوأ سنوات حكمه، و أسس بيوت الأشباح لتعذيب المعارضين، و أذل قادة الفكر و الرأى و سجنهم، دون أدنى مراعاة للسن أو المقام أو المؤهل العلمى، للقاء قادة أحزاب المعارضة.
تعددت هرولة أحزاب المعارضة نحو النظام، بعد كل هذه الإهانات، بداءا من شقدوم، و مرورا بجبوتي، و جدة، و القاهرة، و أخيرا تكررت اللقاءات بهم مرات عدة، مجتمين أو على إنفراد، فى العاصمة المثلثة. إستمرأ قادة النظام دعوة قادة أحزاب المعارضة كلما إدلهمت بهم الخطوب. لكننا سنقف عند لقاءين فقط نسبة لخطورتهما على المصالح العليا لشعبنا و على مستقبل السودان. اللقاء الأول تمت الدعوة له فى شهر يوليو من عام 2008، على إثر مذكرة الجنائية الدولية. عندها إجتمع رئيس المؤتمر الوطنى برؤساء الأحزاب ليستأنس بآرائهم عما سيفعله للخروج من هذه "الورطة". على الرغم من النصائح الجمة التى "تبرع" بها هؤلاء القادة، و إتفاقهم معه على تكوين لجنة "و طنية عليا"، تضم جميع الأحزاب السياسية، للتعامل مع هذا الأمر الخطير، إلا أن هذه اللجنة لم ترى النور حتى كتابة هذا المقال، حيث يبدو أن قادة المؤتمر الوطنى قد رأوا أن الأمر ليس بتلك الدرجة من الخطورة، فى ذلك الوقت، و لذلك قرروا حرمان أولائك القادة من شرف اللقاء بهم... فتأمل!!
أما اللقاء الثاني، وهو الأكثر خطورة، فى تقديرى، فهو الذى دعى لقيامه رئيس المؤتمر الوطني يوم السبت القادم الموافق 24/7/2010 و ذلك لمناقشة موضوع إستفتاء تقرير المصير. موضوع المناقشة لن يكون كيفية العمل الجاد لجعل الإخوة فى الجنوب يصوتون لصالح وحدة السودان، لأن هذا ليس من أجندة المؤتمر الوطنى، الذى يسعى حثيثا لفصل جنوب الوطن عن شماله، و لكن الموضوع سيكون مناقشة الوسائل التى ستضمن حرية و نزاهة الإستفتاء، حتى يتمكن من ضمان الوصول الى ما يصبو إليه،دون أدنى مجازفة!! نعم، أرجو أن لا تصيبكم الدهشة، أو الدوار، إنها النزاهة بعينها التى يودون مناقشتها مع من أدار "أم المهازل" الإنتخابية لتزوير إرادة الشعب السوداني، فى معركة كان أشهرها موقعة "خج الصناديق" بمدينة بورتسودان، التى صارت سمعتها أشهر من أغانى "البوب" على "اليو تيوب"! نعم لب الإجتماع سيكون ليس العمل على تحقيق وحدة السودان، و لكن كيف سيساعد قادة أحزاب المعارضة قادة الحكومة على تفتيت البلاد و تكوين دولة الجنوب المستقلة.
تمهلوا قليلا، و أرجو أن لا تنتابكم حالة دوار، أو إغماء، أوغثيان!! يهرول قادة أحزاب المعارضة نحو المؤتمر الوطني ليشاركوه مسئولية الجريمة الوطنية، و السياسية، و الأخلاقية، التى خطط لإرتكابها بدقة متناهية، لترتكب فى التاسع من يناير القادم، و فى تغييب متعمد لهؤلاء القادة، و من خلف ظهر الشعب السوداني. يسعى المؤتمر الوطني لإشراكهم فى معركة لم يكونوا طرفا فيها أصلا، ليس رغبة منهم، و لكن رغما عن أنوفهم، ثم يرجونا هؤلاء القادة بتقبل هذا الأمر تحت دعاوى "عدم خلط الأمور"، و بأن هذا "شأن وطني عام"!! بربكم هل هنالك شأن وطني عام أهم من تقرير مصير الوطن، الذى كنتم تتفرجون على "مسرحية" إخراجها بواسطة الشريكين لسنين خلت؟ بربكم هل يمكن أن توجد حماقة سياسية يمكن أن يرتكبها أي زعيم حزب أكثر من هذه؟
كلما يمكن قوله فى هذا المنعطف الخطير من تاريخ السودان هو دعوة زعماء أحزاب المعارضة الى مقاطعة دعوة المؤتمر الوطني الماكرة، و إن رأوا غير ذلك فعليهم أن يتحسسوا مواقع أقدامهم، و يعيدوا حساباتهم مرة أخرى، قبل الإقبال على إتخاذ مثل هذه الخطوة التى ستحملهم مسئولية جريمة لم يرتكبوها، أو على أقل تقدير، مسئولية الدفاع عن المجرم الحقيقي، من دون أدنى مبرر لذلك! إننى لا أستبعد تلبيتهم لهذه الدعوة، و هرولتهم مرة أخرى نحو المؤتمر الوطني، فهى أحزاب "متعوده"، كما قال عادل إمام! لو قاموا بذلك فيحق لنا أن نسأل هل هنالك غشامة سياسية أكثر من ذلك؟ و هل هنالك ضباب رؤية و غياب بوصلة سياسية أكثر من هذا؟
إن قام قادة أحزاب المعارضة بمقاطعة هذه الدعوة/الشرك، فسيكون ذلك خيرا لهم و لنا و للسودان، و إن أصروا على ان يسدروا فى غيهم، فليكن ذلك بإسمهم و تحت مسئوليتهم الشخصية، و أن لا يفعلوا ذلك بإسم الشعب السوداني المغلوب على أمره. نسأل الله لهم الهداية و سواء السبيل، و بالأخص حينما يكون البعض منهم قد بلغ من العمر عتيا!!
22 يوليو 2010
Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]