مداهمة عاطفية خاسرة .. كتب: يحيي فضل الله
تداعيات
=================
كنت اتحسس دواخلي في ذلك المساء علني اعرف مصدر ضجري و ضيقي ، ربما لان خطتي لاقتحام عفاف في تلك الظهيرة في كافتريا -القولدن قيت - قد فشلت و ربما لاني تراجعت عن تلك الخطة التي كلفتني الكثيف من السهر و الطشاشات و خربشة الذاكرة مستحضرا و مستحلبا منها اي لحظة جمعتني بعفاف ، كنت قد اصبت بها تماما و قررت ان اقتحمها معلنا إنتمائي اليها فكان ان جهزت مداخلي اليها متوهما بعض الشئ إنها قد تبادلني الإنتماء و ستخصني بما اخصها به ، كنت قد وصلت الي مباني كلية الفنون الجميلة فقد كانت عفاف تدرس التلوين هناك ، لم اجدها هناك و قالت لي النحاتة غادة صديقتها انها قد ذهبت لتوها الي كافتريا -القولدن قيت - فواقعت خطواتي الشارع المزدحم بالطلبة و الطالبات متجها الي -القولدن قيت - و قد كنت احس بإرتباك طفيف استعنت عليه بسيجارة برنجي وحيدة كانت قد تبللت بعض الشئ بعرق تسرب الي جيبي حيث كانت تقبع هناك ، وصلت الي -القولدن قيت - قبل ان اكمل سيجارتي ، رأيتها تجلس هناك في الركن الايمن من الكافتريا و معها شاب لم اتبين ملامحه لانه كان يجلس بحيث اري منه ظهره ، إقتربت من مجلس عفاف و كنت احس انني مندفعا اليها نوعا ما و ما ان إقتربت منها و عرفت من يجالسها احسست بأن إندفاعي العاطفي نحوها قد بدأ في التلاشي فقد كانت عفاف تجالس عبد البصير ، عبد البصير البصاص او المخبر كما يحلو لصديقي الكاتب القصصي ان يعرفه بهذه الصفة فقد كان عبد البصير فعلا مخبرا من نوع خاص فقد جاء الي وسط الكتاب و الفنانين منفلتا من نفس المجالات و قد قيل انه تنقل في حياته الطلابية من حزب الي حزب اخر، في بدايته كان ناشطا في الجبهة الديمقراطية و من ثم إنتقل الي حزب البعث العربي و لاذ ايضا بتنظيمات سياسية إسلامية مختلفة تحول منها الي وجودية متباهية بلا مبالية سياسية وترك كل ذلك لينضم الي تنظيم المستغلين و تمادي في تنقله حد الانضمام الي تنظيم المحايدين ، كان خبر عبد البصير قد شاع لانه حاول ان يستميل كاتب ناشئ و يحوله الي مخبر فتملص منه ذلك الكاتب الناشئ باسلوب يضمن له عدم الاذية و لكن الكاتب الناشئ كان قد سرب الي بعض اصدقائه من الكتاب و الفنانين ماحدث له مع المخبر عبد البصير البصاص ، كني عبد البصير بالبصاص بمرجعية تخص رواية الكاتب المصري جمال الغيطاني - الزيني بركات - و لقب بالمخبر بمرجعية قصيدة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب - المخبر - فكان ان جمع بين المخبر و البصاص فصار في وسط الكتاب و الفنانين ينادي اسمه مهموسا - المخبر عبد البصير البصاص - ، المهم و الاقسي في الامر بالنسبة لي هو انني تركت امر مهاجمتي العاطفية لعفاف و اكتفيت بان اسلم عليها و علي المخبر عبد البصير البصاص و خرجت فورا من -القولدن قيت - و انا احمل في كفي اثر لمسات كفها الندية او هكذا توهمت ، خرجت من -القولدن قيت - الي كافتريا الكليات التكنولوجية و انا مثقل بخيبتي و حسرتي غير المبررة في كوني قد تركتها للمخبر البصاص
تسرب خبر المخبر عبد البصير البصاص وسط الحضور اليومي المتنوع من كتاب و فنانين بدار اتحاد الكتاب السودانيين بالمقرن ، وضربت حوله مراقبة دقيقة و فاحصة و قد اصبح بالنسبة للحضور نوعا من التسلية و الإستمتاع بعلائق درامية تذهب حد العبث ، كان الحضور يراقب مداهماته للمجالس المختلفة داخل الدار و كيف انه كان حريصا علي تحويل الونسات الي الموضوعات السياسية الحادة و الملتهبة و محاولته جرجرة النقاش بحيث يكون هو في موقف المعارض الحاد للنظام الحاكم و بالرغم من ذلك إلا انه كان يحظي بنوع من الارتباك من قبل بعض الكتاب الذين ورثوا ذلك الوسواس القهري تجاه رجال الامن بحكم التجارب السابقة التي تعرضوا لها و هم في فعاليات تنظيماتهم السياسية فمنهم من يلوذ بالهروب من المجلس حين يقتحمه المخبر عبد البصير البصاص و منهم من يغير موضوع النقاش الي موضوع اخر حالما يصل المخبر البصاص الي مجلسه و حرصا علي ان لا يتعرض اي من الحضورالي مداهمات المخبر عبد البصير البصاص وهو غافل عنه فقد حرص الجميع علي ان يعرف كل فرد حالة كون عبد البصير مخبرا و بصاصا و قد كان و لكن كان هنالك شخص واحد حرص الجميع علي ان لا يعرف بامر المخبر عبد البصير البصاص ، كان ذلك الشخص هو الاستاذ الصحفي الكبير و الذي عاد الي السودان من مهاجر و منافي عديدة مستبشرا بانتفاضة ابريل ، كان الاستاذ الصحفي الكبير خارج تماما عن دراما مراقبة الجميع لسلوك المخبر البصاص بينهم و كان ذلك التجهيل مقصودا حتي يتسني للجميع الاستمتاع بهذه المراقبة الدرامية و ذلك لان الاستاذ الصحفي الكبير كانت به حدة واضحة و ميل غريزي للمواجهة لذلك حرص الجميع ان لا يعرف الاستاذ الصحفي الكبير بامر المخبر عبد البصير البصاص حتي يضمن الجميع لذة مراقبة المخبر البصاص و هو يتجول بين الموائد و الترابيز و يتداخل في نسيج ونسات و حكايات غالبا ما تصاب بالطشيش و قد تذهب بعيدا نحو التجريد
في ذلك المساء خرجت مرهقا من كافتريا الكليات التكنولوجية و كنت انوي ان استرخي بالتمدد اليقظ في احدي مكاتب دار اتحاد الكتاب السودانيين بالمقرن منتظرا قدوم بداية الليل بالاصدقاء المختلفين ، كنت مرهقا و مثقلا بخيبتي العاطفية و امر تنازلي عن فكرة اقتحام عفاف و خربشة عواطفها علني استمليها الي عوالمي ، كنت اتوقع حين اصل الي دار الاتحاد ان اجده خاليا من الرواد لان المساء لا زال مبكرا و لكني فوجئت بالاستاذ الصحفي الكبير و هو يجالس بإلفة حميمة المخبر عبد البصير البصاص فابتسمت دواخلي لهذه المفارقة الدرامية الحادة التفاصيل فما كان مني إلا ان انضم الي مجلسهما ، كان الاستاذ الصحفي الكبير يحادث المخبر عبد البصير البصاص عن عوالم الستينات ، الفترة المفضلة و الخصبة في ذاكرة الاستاذ الصحفي الكبير وحين تحركت نحو البوفيه لاشرب كوبا من الماء البارد كان الاستاذ الصحفي الكبير قد اشعل سيجارته و هو يتلذذ بذكرياته الستينية و حين رجعت من البوفيه وجدت ان المخبر عبد البصير البصاص قد مارس خبرته في تحويل موضوع الونسة ، فقد كان الاستاذ الصحفي الكبير يقدم نصائحه المفيدة و المستمدة من تجربته الطويلة في تضليل رجال الامن
- شوف يا عبد البصير يا ابني اهم حاجة انك لما تطلع من اي حته و ماشي لاي مكان لازم تعمل الف حساب لانو إحتمال كبير إنك تكون متابع
و الاحظ انا بريق عيون المخبر عبد البصير البصاص و الاحظ ايضا كيفية تخلصه السريع من بريق العيون و هو يحاول ان يخفي ذلك الانتماء المدسوس و هو يقول
فعلا الواحد لازم يعمل حسابو
و لا املك انا الا ان اكتم ضحكة صاخبة في الدواخل و الاستاذ الصحفي الكبير يعلن وصاياه الحميمة
لو ركبت تاكسي او اتوستوب او حتي مواصلات عامة اوعك تنزل في المحطة الانت ماشي عليها ، لازم تنزل قبلها بي محطة او محطتين
وتبرق من عيون المخبر عبد البصير البصاص لمحة توحي بالهم و هو يقول
بس دي عملية متعبة
وانا اكتم ضحكتي الصاخبة في الدواخل و الاستاذ الصحفي الكبير مستمرا في طرح وصاياه بصوته المميز و الجهير
متعبة ايه يا ابني ، المتعب انك تتعكش في اي لحظة ، المهم بقول ليك ما تنزل في محطتك و بعد داك ما تمشي دوغري علي المكان الانت قاصدو ، لازم تختار شارع ابعد من الحتة الانت قاصدا ، تدخل في زقاق و تمرق بي زقاق تاني و بعد داك تعال للحتة الانت قاصدا ما بالطريق المعروف و بعدين تعمل حسابك ما تتلفت وراءك ، لازم تكون حركتك تلقائية
و تستمر وصايا الاستاذ الصحفي الكبير للمخبر عبد البصير البصاص و اهرب انا بضحكتي تلك المكتومة في الدواخل ، اهرب بها الي الحمام و اقفل الباب خلفي و انفجر ضاحكا و اتماسك واخرج من الحمام و اعود لاجد الاستاذ الصحفي الكبير و قد تمادي في وصاياه حد ان يحكي حكايات و قصص عن كيفية و اساليب التخفي و تضليل رجال الامن و اهرب بضحكتي المكتومة في الدواخل و افرغها هذه المرة في زقاق خلف البوفيه و اعود و اجد الوصايا مستمرة و استمر انا في الهروب بضحكتي الي مكان خفي حتي افجرها وهكذا يوصي الاستاذ الصحفي الكبير المخبر عبد البصير البصاص و يمده بنصائح غاليات وانا اهرب بضحكتي المكتومة في الدواخل و قد لاحظت ان هنالك نظرة معينة تحاول ان تخفي مهام المخبر البصاص السرية ، هي نظرة ماكرة البراءة وكنت قد افرغت الكثير من الضحكات المكتومة في الدواخل في ذلك المساء قبل ان يحتشد الدار بالرواد
بعد اقل من شهر كانت قد راودتني مجددا فكرة اقتحام و مداهمة عفاف عاطفيا وكنت قد قررت ان ابدأ خطتي لهذه المداهمة في ظهيرة الغد و لكني حين وصلت فيما بعد الثامنة مساء الي دار اتحاد الكتاب وجدت عفاف تجالس عددا من الكتاب و التشكيليين فقررت إقتحامها و مداهمتها في هذه الليل المتباهي بنسمة خريفية تحرض علي البوح فكان ان جلست بقربها و حين كانت عفاف تتحدث بصوتها الرنان عن علاقة زراعة النفايات و ظاهرة انتشار السرطان نظرت الي عينيها بنوايا العشق و الوجد فكان ان وجدت في عينيها تلك النظرة الماكرة البراءة التي كانت في عيون المخبر عبد البصير البصاص فاقتلعت نفسي المنهزمة من ذلك المجلس و حملت خيبتي العاطفية و اتجهت راجلا الي امدرمان
yahia elawad [yahia_elawad@yahoo.ca]
///////////////