مدبغة الباقير… ما أرخص الإنسان في بلادي!!
24 October, 2009
hbrayah@yahoo.com
في خضم التغطية الإعلامية لمعاناة أهالي منطقة الباقير، الواقعة جنوبي الخرطوم مع مدبغة أفروتان، توقفت كثيرًا عند تلك العبارة التي أوردتها صحيفة "الأخبار" السودانية في عددها الصادر في الرابع عشر من أكتوبر 2009م، حيث أوردت الصحيفة أن وزيراً – لم تسمه – قد قال وبالحرف الواحد: (المدبغة دي بتجيب عملة حرة يعني شنو لو ماتوا نفرين و لا ثلاثة). هذا ما أوردته الصحيفة المذكورة في عددها المشار إليه على لسان أحد مواطني المنطقة من الذين ذهبوا لمقابلة أحد الوزراء للاحتجاج على استمرار تشغيل المدبغة رغم الآثار الصحية الكثيرة التي تعرضوا لها. وقال المواطنون أن ما سمعوه بآذانهم فاق كل التوقعات.
ستكون كارثة كبيرة إذا ثبت ما أوردته الصحيفة على لسان أحد المواطنين. ولا أظن أن المواطن في وضع يجبره على الكذب في مثل هذه المواقف. والواقع يقول أن بعض المسئولين حتى وإن لم يصرحوا بمثل هذه المقولة علناً فقد طبقوها على أرض الواقع لأكثر من عشرين عاماً في حال المدبغة المذكورة على الأقل، ومن دون الولوج في الحالات الكثيرة التي كانت فيها أرواح المواطنين وممتلكاتهم أهون على هؤلاء المسئولين من دولار أو إسترليني.
صحيح أنني قرأت أن قراراً قد صدر بوقف تشغيل المدبغة لمدة أسبوع اعتباراً من يوم الاثنين 19 أكتوبر وحتى الأحد 25 أكتوبر 2009م، وأن هناك لجنة قد تم تكوينها للوقوف على الآثار البيئية والصحية على المواطنين، على أن ترفع اللجنة توصياتها للولاية ووزارة الصناعة لاتخاذ القرار المناسب، إلا أن هذا وحده لا يكفي أبدًا لمعالجة الوضع، وإن كان هذا يُعدّ خطوة في الاتجاه الصحيح.
إذا كانت كل تلك الآثار الصحية المميتة التي شكا منها أهالي منطقة الباقير، لا تهم المسئولين وأن موت شخصين أو ثلاثة ليس بالأمر الجلل، فعلى الدنيا السلام. وإذا كانت عملية تزايد حالات الإجهاض بين نساء المنطقة وارتفاع معدلات الإصابة بأمراض الربو والحساسية وتحولها إلى أمراض مزمنة، نتيجة المواد الكيمائية المستخدمة في عملية الدباغة، لا تهم المسئولين، فعلى الدنيا السلام أيضاً.
الغريب في الأمر أنني لا أشك أن المسئول، الذي نُسبت إليه هذه المقولة، قد قرأ، وربما يحفظ عن ظهر قلب، الآية الكريمة رقم (32) من سورة المائدة (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعًا..... الآية) .
قولوا لي بربكم لماذا لم يتم تنفيذ توصيات اللجنة التي تم تكوينها بعد أن لجأ الأهالي عام 2003م لوزارة الصحة الاتحادية؟ فحسب صحية "الأخبار" في تحقيقها الشامل في عدديها ليومين متتاليين هما الثالث عشر والرابع عشر من أكتوبر 2009م، فإن تلك اللجنة، التي ضمت وزارة الصحة الاتحادية ممثلة في إدارة الطب الوقائي وإدارة صحة البيئة بجانب جهات أخرى بينها الأمن الاقتصادي، ووزارة الصناعة، والمجلس القومي للبحوث، قد أوصت بضرورة إيقاف المدبغة.
لا أحد يطالب بإيقاف وتعطيل مشروع قومي له فوائده الاقتصادية على الوطن والمواطن، و ليس هناك عاقل يخرج في مظاهرة احتجاج يطالب بتعطيل مشروع له مردوده الإيجابي على الاقتصاد الوطني. ولكن عندما يثبت أن الآثار السلبية للمشروع تفوق الإيجابية لاسيما عندما يتعلق الأمر بصحة المواطن، التي تُخصص لها الميزانيات الضخمة، أقول عندما يكون الأمر كذلك، فلا يمكن السكوت عليه. وإذا كان الأهالي، مدعومين من بعض وسائل الإعلام، قد نجحوا في إبراز القضية وتسليط الضوء عليها، فمن باب أولى أن تسير الجهات المختصة في الطريق الذي اختطته والذي تمثّل في القرار القاضي بإيقاف المدبغة. وعلى الجهات المختصة كذلك أن تعالج الوضع من كافة جوانبه حتى وإن استدعى الأمر إيقاف تشغيل المدبغة نهائياً. وليس ترفًا المطالبة بدراسة الآثار الصحية التي خلّفها هذا المشروع، والمضي قُدمًا في تحليل وتشخيص المرضى الذين شكوا من أن إصاباتهم كانت بسبب الآثار التي خلفتها المدبغة. وإذا ثبت للجهات المختصة، من خلال لجنة مؤهلة محايدة، أن هذه المشروع كان السبب الرئيس وراء هذه الحالات، فأقل ما يمكن أن يُقدم لهؤلاء المرضى هو تعويضهم التعويض المجزي، الذي يعيد إليهم بعض حقوقهم.
ومن باب أولى والأحزاب المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية تستعد لخوض الانتخابات العامة التي تسعى فيها إلى كسب أي صوت، أقول من باب أولى أن تعمل هذه الأحزاب وكذلك أحزاب المعارضة التي هي أيضاً بحاجة إلى دعم هذا المواطن، جميعها لكف الظلم والجور. ومن أولى الخطوات في هذا الاتجاه التحقق من المقولة التي نُسبت لهذا المسئول، فلا يمكن أبداً أن تصل الاستهانة بروح المواطن درجة تكون فيها أحقر من العملة الحرة التي توفرها بعض المشاريع!!
* مترجم وكاتب صحفي يعمل بالمملكة العربية السعودية