مدخل لقراءة ( طينيا )، الكتاب الشعري لمأمون التلب

 


 

 

 

 

هذه كتابة قديمة، قد أثبت مواقيتها، لكني، لجأت إليها وأنا أتصفح الكتاب الذي صدر مؤخرا عن دار رفيقي، لربما حتي أكون في أجواء أشعار مأمون مجددا. الجزء بالرقم (3) هو ماكتب لأجل ( طينيا ). ورأيت أن ترافقوني لنكون في هذه الفيوض التي لا تشبه إلا نفسها، وهي الغريبة، المعدودة في الكتابة الجديدة.


1:
الاثنين، يناير 09، 2012م.
بيني ومأمون التلب توهج الكتابة و ... ياااااااا طينيا !
* ما بين الأقواس وبنجمة (*) لمأمون التلب، وبعلامة (-) تعليقي أنا.

*( شاقَّةٌ ضربةُ الروحِ في العين،
دودتها أشقى من تُربةِ عَقلها
من نباتات حريقها
من تدليك جسدٍ بدهونِ النظرة حتَّى تطفر سطحيّةُ الشهوَّةِ كتنينٍ بلا رؤوس.

شاقَّةٌ هذه السحابة على السماء
هذه النجمةُ على ضوء عين القطةِ
قاسيةٌ هذه الأرض على الجبال
البحار والمحيطات والأنهار قاسيةٌ على المياه
وحشيٌّّ وجود الألوان أمام المبصرين
وبرقعةُ الجلود شديدةُ البأس على اللحمِ والعظم
الدماءُ، تجترُّ أشلاء ذكرياتها الدورية، تُشوِّهُ القلب
والعضلات لا تفي بمعنى لذَّةِ الضرب والحياة.

أعني أن الكأس مُزوَّدٌ بالحياةِ
إذ تُوجِدُ سبباً لدحر انعدام الأمل
في كلِّ لحظةٍ
أمام اليأس الخلاق؛ التنينُ الأبديُّ الشائخ بحُكمِ أسطوريّتهِ.
الحياةُ تُوجدُ مَنظراً، صورةً، هَبشةُ مَصرَعٍ
لتُقنع الحيوانات العاملين لديها بوجود الأمل.
آهٍ، يا لها من موسيقى
عَزَفتها آلافُ العروق والأنفاس المتلاحقة
لَحَّنتها اللحظات الأخيرة لكل شيءٍ
ولا من مُعترفٍ بوجود نهايةٍ لكل شيء
قاسيةٌ هذه الحياة).

- إذن ، قد أصابك داء الحنين ياصاحبي؟
هذا النص الجميل إجتزاه، بحنكته الوريفة، حبيبي مأمون التلب، من بين أعمدة كتابه الأنيق " طينيا " ثم أرسله إلي! مخطوطة الكتاب بأكملها لدي، لكنني – وأنا الغافل عن أشراق الوجود المخبي بعناية في صدور الصحاب – لم أنتبه لهذا الفيض العذب من جماليات الكتابة، إلا حين يأتيني، علي حين غرة من أمري، فيدخلني، كي أراه، في المسام وفي الجوانح حيث الوجد الكثير والرؤيا البريق:
( الحياة توجد منظرا، صورة، هبشة مصرع
لتقنع الحيوانات العاملين لديها بوجود الأمل!).
- آه، يالها من موسيقي:
( عزفتها آلاف العروق والأنفاس المتلاحقة
لحنتها اللحظات الأخيرة لكل شئ ...
قاسية هذه الحياة! )
- قاسية، إذن، هي الحياة ياحبيبي،
**( يا أبن أمي
يا أبن أكثر من أب... )، علي قول درويش.
كم هي قاسية وعذبة هذه الحياة!
- ياصديقي وحبيبي ...
لابد أن تكون في أفضل السماوات
وأن يتفحص نبضك الأختصاصيين
في علم القلوب!
حين تقدم زادا
للذين يتوكأون علي بحر
كي يغازلوا اللغة ...
ويبعدون عنها الحشرات وبغايا الكلام!
قل لي،
منذ متي وأنت تلقي بالتعاليم في حزم المتعبين؟
وتحمل عنا عدة أصطياد الفراشات
ورسما بيانيا لذبذبات الرقص؟
ولأنك خبير مودات، فقد أذعت فينا:
* ( واااااي ...
أنقذوا الفراشات التي تفر من البلاد!)..
- ياجماعة السلالات الحديثة:
لقد ابتدأ الزمن الجميل!
كنت، وأنا أقرأك، أسمع الشجن والوجع في دمعة واحدة
ومن وتر واحد مشدود حتي الدواخل ...
كان الإيقاع يندلق علي وجهي،
والليل رحيما بي،
رطبا وأنيسا
وحين إنتبهت للصباح ...
وجدتك – كطفل الملائكة – تضع سجارتك بجانبي
وترمي بنفسك في حوض السباحة
فيغطيك الكلام،
والماء المحايد!
تلك الذكري في نيروبي
بعد رحيلها الحبيبة،
تذكرها لا شك!


2:
محاورة النص ، بوجع أقل ... !
جابر حسين
الحوار المتمدن-العدد: 3568 - 2011 / 12 / 6 - 14:28
المحور: الادب والفن.

المحاورة لمجتزأ من نص طويل بعنوان: ( " كن " المعركة ... عن تحقيقات كان )، لمأمون التلب. نورد نصا للشاعر ونحاوره ، هكذا ، يستمر الحوار، و ... نأمل أن نضيف بذلك، فهما أفضل للنص الجميل! فيما بين الأقواس وبنجمة(*) لمأمون و ب علامة(-) لي.

- كنت أحاول أن أستريح قليلا
من وجع الكتابة
وسيلان الإبهار!
فيغافلني قلبي ...
كنت أحاول أن أغير شكل كتابتي
فتتمرد علي أصابعي
وتقفز – كأطفال مشاكسين-
فوق سياج حدائق الشعر
لتقطف اللوز والقصائد والفوضي
وتكتب أسماء " الكائنات " !
تري ، كيف تبدوا حديقة الشعر بلا
هؤلاء ( الكائنات )!
ومن هو ذلك الولد المفتون بجمال اللغة
ويسرج القول ويطلقه – كالريح – في وجهي؟
*( الكائن الحي الوحيد هو الموت ! ).
- ياااااه، مأمون التلب، الآن، يكتب:
* ( مكاتيب الرسل
حول تفوهات الزمان ...)!
قاطعته بدهاء إبليسي:
- مهلك ... ماذا رأيت أيها الكائن بين الكائنات،
قل لي ماذا رأيت؟
واثقا كحبل معقود علي طرفيه، قال:
* ( رأيت ما أصاب وجه الحمامة
والماء الذي شربته صباحا
بينما يمر ولد بنظرة خاطفة أبرزها
تأنيب أمومي
وكانت الريح تدرك أن لها أطرافا وحواس،
بعد أن وسعتها أطراف الكائنات!)...
مقاطعا، مرة أخري، قلت:
- يا للحمامات حين ينزفن ماء العيون
وسلامهن / رمزهن المحفوف بالهديل
يعاني الكمون!
والكائنات – تعرفها – هي الوحيدة
بين الوحيدات
لها حق التغزل – علنا - لعناب البنات
و ... جدائلهن.
في الشوارع، وساحات المدارس والمقاهي
والتظاهرات
ودواوين الشعر، والحانات
التي إبتكرتها مخيلة السكاري والصعاليك
وفي الحدائق العامة و الندوات
فكيف لا يكونوا حضورا في بهاء الشعر
أمام الملأ؟
وكيف يجرأوا فيتهمونهم بالمروق
وإفساد الشعر، وقد جعلوا أسماؤهم عناوينا
في ملامح من يبتغون الشروق؟
قل لي ياصاحبي ... ماذا رأيت أيضا؟
قال :
* ( رأيت ما أصاب كمون المطر الليلي في عين
القط ممتلئ
وأناه – يسهر علي لسانها – شرح
شعره،
بينما جرس في ضفيرة البنت ينمو علي
مهل أصدائه ...)!
قاطعته، كمن يستنكرا وضعا أحدثه لتوه:
-... ولكن،
ألم تدرك – بعد – أن القطط مثل العشاق
ياحبيبي ...،
وأنها تسعي، مثلهن، للعناق؟
و ... ألسنتهن مقبلات،
في وجد الليالي ...
مشرعات – كما الشفاه – للقبلات؟.
عاد يسرح في ضفائر رؤياه كأنها أنثي يانعة وقال:
*( ... وكان الأب يفحص رجولته بالنظر إلي باب
البنت المفتوح طوال الليل لأشباه الظلال!
بين هذا وذاك:
كان كمن يعزف وحده،
مشلول التجويف وعظام الإيقاع،
شرر ينبع من فم يتذوق آخرا في الزقاق
الخلفي للبنت،
أبطال الأفلام الكرتونية يتسللون من
أحلام الكبارملوكا لا كابح لحقيقتهم
وشواء الجيران يبلغ أذنا ناضجة تبدأ
آذان الفجر،
يالهولي
وأنا عاشق
يمر كل هذا الليل دون أن أعد أصابعه
المجرمة!
هل من سبيل لأخراج الحمامة من جفاف
حلقي
والمطر من سرتي الوليدة للتو
والمشهد الوسطي من يدي التي ستقتل؟
البنت
جسد
يؤرق أسلحة
وساحات حرب
تتفرس وجه الكون ).
- تحيرت قليلا قليلا،
في هذا الكون المعتم
وتذكرت ركن البنت المظلم
وبابها المفتوح الليل بطوله
لأشباه الظلال ...
فهل كل الحقائق – ياصاحبي – في هذا المدي المكتوم
حبا ودلال
وهل، هي الآن، تقال؟
تذكرت " سان جون بيرس ":
( وكنت أنا نائمة
علي جنبي الأيمن
أصغي إلي خفق دمك الجواب قرب عنقي ،
عنق المرأة العارية )...
فياللبنات
ترقشهن الظلال وضوء القمر!
كلماتك ... آآآه، يا مأمون حبيبي، كلماتك
أحالت البنات غابة من نوافذ
ومطر
وحنين من أصابع
تتلمس نبض الأشياء.
كلماتك ... كلماتك!
ما جدوي البنيات الصبايا بلا إرتعاش كلمة
وما جدوي العالم بلا أنفاس أمرأة
بلا نسغ ، وأمطار وعيون سود
وأرصفة وقمر مسافر ونوافذ ياسمين
وشعراء مطاردون وملعونون من السلطات
وكتب وقصائد ممنوعة
وأحزان وعشب أزرق ... ويديك الماهرتين؟
دعهم – ياصاحبي – مشلولون أمام أبواب البنات
المشرعات في ليلهن الحصين
وما من سكات!
فالكمان ( المشلول التجويف وعظام الإيقاع )
قد أوصل لحنا في الناس،
أوصله حتي تويجات القاع!
دعهم – أيضا – في شواء الفجر
وتعليم البنات خلاعة الرقص قرب النهر!
( ويااا للممراب! ).
لكن العاشق ولهان
يالهولي أنا ...
فالعاشق – أيضا – حيران!
لكنه إذ يبدأ يكسر الليل شظايا
ويكبح حقائق الطغاة
يحيلهم إلي رماد المنايا
قد ( أحصي الأصابع المجرمة ) كلها ...
وأطلق سراح الحمامة المسجونة في الحلق
و ... أمطر
أمطر حشفا مرا في الحلق!
كان يرقص ...
يرقص ... يرقص
في مشهد البنت والأسلحة!
وغابت عن سماء المدينة
رايات الخديعة والأضرحة!
فالبنيات – ياصاحبي – غدون الآن
في المعركة!
لكن، قل لي
ماذا شابها المعركة،
كيف رأيتها، وفي رؤياك مذاق البارود والأسئلة؟!.
* قال :( ... أن لهذا إسم
فلينطق به أحد لتنبت علي شفتيه الجثث أنهارا مدرارة
بالأمومة والحب.
إن كان لهذا تاريخ
فليؤشر لعينه أحد
لتستريح القيامة من عبئها الطويل،
أيام تحسب أعمال الأحياء والجمادات
وتجويع النار لأجل مجلل بالنوايا
والظنون ...)!
- يااااه ، جثث الأمهات،
المحبات ... الحالمات!
ياله من تاريخ ...
ياله من تاريخ!.
أستطرد الشاعر يحكي حالته،
وقد بدت معطونة برهق كثير
ومزاميرا تتحشرج،
لكأنها تصدأ
لكنها بالكاد تنير:
*( ... كنت فيما يشبه سماء تزحف علي بطنها،
ظهرها لا مكان فيه لجذور،
في الأعلي تسطع النسور
بأجنحة مظلمة،
في الأسفل كانت الطوابير الهالكة تنتزع
عيونها
تعصرها
فتخرج منها الحياة وتعترف:... )!...
- قاطعته، وقد رأيت ما رأيت،
هي القيامة ...
هي القيامة
قيامة الجثث النائمة!
قال يواصل ما أعترفت به الحياة:
* ( لماذا يبدو خيار الولادة كأنه من أوامر
المولود؟
إذ يطلب المولود ملكا ويقوض صراعه
يتجرع الجهل ويعرق يأسا عينيا
كان وما زال جسده ساحة معركة يسكنها
العرافون بثياب خفية
ولا تزال يد خالقه مبهمة المعني في
الأحلام،
مكسورة الشكل خلف دموع كوابيسه
فقط،
مخالب اليد بينه
ما عدا ذلك بوجهين يحيا
بتبادل لا ينفد للقتل يسمي نفسه
ما عدا ذلك،
سيرة الخيال، بقبحه وعجزه، يتململ
بأنفاسه الأخيرة تحت قبضة الزمان ...! ).
- نعم ...
( كأن الولادة خيار المولود )،
وبعد أن يولد تبتدئ سيرة الوجع
في مسيره الدامي ( يعرق يأسا
ويتجرع الجهل)!
ويعيش، جسده الملعون، معارك شرسة
يراوغ العرافون
وما تصله من أصابع يدي الخالق
يلجمها – أحيانا – ليوقف نوافير الحرقة المتفجرة
ولجامات قلبه الصاهل في براريه الشاسعة!
بيده يقتل ويسمي نفسه
يسمي قتله ...،
في سيرة العجز والمهزلة
فمن يملك إدعاءا – الآن – ليسميها المرحلة؟
والزمان قبيح ...
قبيح قمئ ياسادن المعرفة!.
* ( ... ما كان زمانا تسبح داخله
قبل لم تكتمل
أشباح أبناء يرضعون – لازالوا – من
أثداء أمهاتهم
تمزيق مستمر لصورة الأب مبتسما خلف
سياج يحمل جسد أبنه الدامي!)...
- مهلا ، مهلا ياصاحبي ، قاطعته :
كيف يقسم
هذا الزمان الدامي نفسه،
كيف يجعلها برهة قاسية؟.
يواصل كأنه يحدث وجعا (جواهو):

* (... في الثانية الأخري
بينما يحمل طفلا قطرة ماء حية راكضا – بقوة فنائه – نحو
جدته ليبهجها بلمعان القطرة
هي تتحسس ظمأ حكاياتها القديمة
تعرف الوجوه المكفهرة الدائبة علي
سطح بويضاتها الشبحية ...!).
- تنبهت فجأة للتي قد كانت،
وهي الآن كائنة فينا
و ... كائنة: رشيدة حبيب الله،
تري، هل كانت هي نفسها الجدة الكائنة؟
قد كانت، أيضا، تبهجها جدا قطرة الماء الحية!
وزمانا طويلا كانت تعرف
الوجوه المكفهرة في لمعان زائف
وتتحسس،
بسليقة العين وصفاء البصيرة
كيف تشتغل المحنة حتي لتغدوا وجعا راعف!
أبدا ما أبهجها بريقا يتصنع ملامح الملائكة
ولا فرح الزغاريد في الوجوه اللامعة!
تحذق ...
تحذق ...
ما هو عندها،
وما هو في أصلاب الفتية الخارجة!
لا ...،
لست أفتق منك مكامن قد أنسدت
ولا عقدا لديك قد أنفكت!
لا عليك، إذن، ياصديقي ...
وقل لي ماذا رأيت في الثانية التالية؟.
تنهد ونطق كمن يحدث نفسه:
* ( في الثانية الأخري
بينما تقفز الشامة من نهد الفتاة لتبحث
عن كون لتصبح ثقبه الفائر،
بينما يتحسس الولد كيان شيبه محتشما،
شيب يرمق نطفة مطعونة الظهر
يالها من نهاية!).
- الولد، إذن، أصبح في الشيب محتشما،
ويرغب ...
يرغب ويسعي أن يري
وأن يكون مرئيا!
لكن النهايات مطعونة راعفة
النهايات تغدو – في ربيع العمر -
جراحا نازفة
ألم تري ...،
ألم تري سديمها؟
ألم تحصي كم بقي من الأحلام والسنوات والبكاء؟
ألم تر الصمت قد طال السماء؟
ألم تتفرس وجوه الفتيات
وكلهن يحملن ملامحك؟
ولكن، أينك،
أيها المبصر الرائي
قل لي أينك؟.
* في الثانية الأخري
تعبر نبوءات المجرة كاملة شوارع ألفتها،
تختال بثوبها الرمادي،
تنقشع اللغات من خلفها
كاشفة جسد الحرب البشرية ترفرف
داخل جمالها.
يا جمجمة الوادي،
قرية تنام داخلك
مدينة تهش الكوابيس بينكما.
يا جمرة الآتي من لحظات ولادات متتالية!).
- أعرفها، أعرفها تلك الكوابيس والجماجم
أنها تأتي، حينما تأتي، جمرا متلاطم!
أنها الحرب تتعري لتنهض فينا فتنتها ...
وتستعر تواريخها جمرا ولظي ...
و تكتم اللحظة الضاحكة!
ففي ليالي الحرب الطويلة
تبدوالسماء أحيانا بلا نجوم وذكريات
لكنها تحرض البرهة لتغدو كونا في الناس
أشواكا ورملا وملحا في النعاس!
فكيف تكون الثانية التالية
والولادات متتالية ... متتالية؟
قال حبيبي وهو يضحك،
ضحكته الأسيانة الباكية:
*( ... الثانية الأخري ليست تالية،
أصلا بجانب ( التالية ) تحيا، وتفور
بمقتنياتهاالآدمية.
خطف مستمر لآيات الأنبياء نحو غابة
أحداث تبصرها العين المدفونة من خلال
دودها!)
- ما أستطعت، من بعد، سكوتا
فالأنبياء قتلوا من الأحداث توهجها،
حتي غدت – وهي الجريئة الباسلة – هامدة
كأنها من برهة الزمان
نائمة!
يالهولهم ...
وسوءاتهم الواضحة
الواضحة!
واصل في سرده و ...إنتبه:
*( ... الثانية الأخري ما يحاور القتل في سرير
طامح علي نهر الأبدية
حيث تتلفت الغزلان بجرأة ماء أزلي
ينتفض مفتونا من شعرها الصحراوي
حيث المشانق تطارد حبالها بما فاض من
رسائلها لإرتجافات أعناق جاسدته.
أيها الزمان ... )،
- دقيقة ... دقيقة
قاطعته ، بجرأة المتوهج
كثير الدلالات والحجج...
ولكن ، كيف رأيتها ...،
(المشانق التي تطارد حبالها
تجاهد أن تنأي عن جاسدتها؟)...
يواصل :
*( لآ ... أيها الزمان،
لديك تراب القبر محمولا علي يد اليتيم،
يتسرب من أصابعه حاملا معه بصمات
وليال ألف،
لديك الوهب،
وكبرياء النارتتجذر في نسبها الشيطاني!
وهل لك منا عهد؟
ليسابق رموشنا للبكاء
ليلتقط القبلة من عاشقين
ويقذفها في حلم صبي يعيش في القرن
الأخير من القيامة؟
وهل الحب،
وما شابه أنحاء أسلحته وقتله
يتجلل تحت يدك المتفانية في الإفناء
والمحو؟ !).
- تحسرت ...
تحسرت حتي بكيت!
قلت – لا، ليس إليه – بل
للزمان الفهيم
الزمان الكليم،
و ... لنفسي:
ظلام كثيف كثيف،
وبقايا جثث ومعلبات طعام طافية،
الأتصالات مقطوعة ...
ياللعزلة الكائنة،
ثمة أصدقاء رحلوا بين أعواد المشانق
اليابسة
وتركوا لنا، وجع البقاء مع ذكرياتهم!
قصف ...
قصف ...،
قصف شديد جدا
لامجال للغناء والرقص
من ، ياتري، في هذا الزمان الكوني الكتيم
الكتيم اللئيم
اللئيم اليتيم
يفهم فوضانا؟
نحن الذين علمتنا الحرب،
الحرب الضروس المشتعلة في الدم والخاصرة
المزروعة فينا شوكا،
في برهتنا الراهنة
أن نترك أشياؤنا كما هي
عارية عارية
و ... نمضي إلي ( التالية )!
فإلي أين نسير – ياصديقي – وماذا
سنري؟.
*( ... أنظر للطريق إذا،
وتغير لمرة إذ لا يمشي عليه أحد،
ولا تحدث ( فعلا ) يشي بوجودك لمرة
واحدة ...
ستري حينها:
هامات تتسامق لأسفل سافلين،
حيث تكالبت أجنحة الملائكة علي دم
الحروب المتكلس،
وحاورت لزوجة الرائحة هناك،
وأشباه الأصابع وهي تعلم أسماء
الأتجاهات بالتهديد
( والجهات – تعلم – محكومة بدوران
الأرض ، وأسماؤها شهوة للمركز ).
هيام الفتيات المراقبات ما يحدث في
الأسفل يسطع،
أقمارا هلامية الجدوي وإختياراتها نافقة
بحسرة.
لمرة قاوم مرارة أصابعهن،
ومرر لسانك وأرفع بصرك إليهن وقل:
هل للتقوي مكان،
والإيمان؟).
- قلت إليه أنا: الطريق وحيد
والوحيد غريق!
ولا من مكان يسعهما:
( التقوي ...
والإيمان)!
جمرات الحريق
يراكمن في الأجساد
صديدا و ... ضيق!
وما من صديق
ما من صديق!
تذكرته في البرهة الراهنة،
تذكرته،
وهو الصديق الرفيق،
هل تذكره ياحبيبي؟
أراجون،
ممتلئا بالزمان الصفيق
كان يقول:
" لست ممن يخدعون العالم،
أنتمي بأكملي إلي هذا القطيع العظيم الحزين،
قطيع البشر!
كافحت بذراعي الحريق في كل مرة
وعرفت الخنادق والدبابات.
وقلت دوما بلا حذر أسوأ خواطري في وضح النهار
ولم أنسحب عندما جاءوا ليبصقوا في وجهي!
وتقاسمت الخبز الأسود والدمع مع الجميع!
أخذت نصيبي من المرارة
وحملت حظي من الشقاء
لم تنته هذه الحرب أبدا بالنسبة لي،
ما دامت أطراف شعبي ممزقة.
ألصق الأذن بالأرض ...
ما زالت تصل إلي تنهدات بعيدة مخيفة
تخترق لحم عالم أصم!
لا أعرف النوم، وإذا أغمضت العين يوما،
فإلي الأبد!" ...
- يااااااه ...
كم أحبهن ،
البنات الصبيات
الجميلات ...
جرح عمري المديد ،
بادلنني الوهم بالحلم
رقصاتهن ترتق ظلي
في الطرقات.
أنتشلنني من ركام الخراب
وجراح الحراب!
كم أخذن بيدي للبراح الفسيح
من باب لباب!
لا المركز يجعلهن في البهاء
ولا الهامش يحيل جراحهن أغنيات
في النداء!
فكيف تصف – أنت – إليهن
الغابات التي حلمت بها
والأرصفة التي سهرت ونمت فيها
ودخان السجائر والقصائد
وحمي المصائد
والشوارع والباصات والنساء والمكتبات والأحزان
هكذا إذن، تصف حتي نبض قلبك المندي
بالأمل وقد دنا في السهاد!
تصف كل ما رأيته – أيها الرائي – في حياتك
بمنتهي العذوبة والألم
مخبئا نصف ذكرياتك علي الأقل!
كأنك تحذو حذو " أميليو برادوس "،
فتسير خلف ضفائرهن:
( أسير في أثرك،
خطوة ... خوة
إلا ترين ذلك ؟
فأني أضيع،
خطوة ... خطوة! ) ...
تنهد، عميقا وطويلا، صاحبي،
بألم يختبي خلف قلق أصابعه
خشية أن ينتبه الحرس
عندما يشرع يدق،
مع نبضات القلب
الجرس !
لتكاد تري دم الشاعر فيه يتسلق
ليبلغ أطراف جسده،
و ... أجسادهن!.
أخيرا قال:
* ( في الثانية الأخري،
إن شاء المولود،
يري الحضور القوي لملائكة تولد من
صلبه
وتبحث قلقه عن أقدار صنعها بيديه
تقتنص الأرواح وهي تحيا جمالا لم تدركه
في حينها،
إذ يسير الجمال أمام الروح،
ولا تدركه إلا بعد خروج الحروب من
عينيه الغائرتين في الأبد!
تنام ميتة - بعد أن حدثت – تحت حماية
ظلها ...
ودموع تتدحرج في لحظات الغضب!).
- تلك كانت ، إذن ، بعضا من سيرة الوجع
وغناء الحياة / البنات في المعركة
فتحت العيون أفقا يضئ عتمات الجسد
والزمن الموات!
أرجوكم:
أتركوا البحر في عزلته
البحر الذي يتبدد كل يوم علي الرمل
ودم الصبيات البنات
ينثر زهورا ملونة علي قمصانكم
وطاولات الوظيفة ...
أوصيكم:
لا تتهموا الشاعر بالإبتذال!
أفهموا براءة الموج
أفهموا فوضاه وحزنه المائي
وأمواجه التي تغسل ملوحة المدينة
وتبدلها بالأشجار والريحان!
حتي يري ( الجمال الذي يسير أمام الروح )
في حديقة الرمان!
وأنت ، أيتها المدينة، ياقلبا من الزجاج
والبراءات والشوك واللافتات
ياوترا يرقش ليلهن البنات
لا تتأمري علي الشاعر ...
لا تؤاخذي شعره المحدث
ودعي البحر ينفتح علي المرايا
حيث الشاعر يجلس حالما علي الرمل
يحلم بالتفاحات والسوسنة
تلك التي في قلبه
حاضرة ... حاضرة !.
* مأمون التلب، شاعر وكاتب سوداني صدر له مؤخرا كتابه الشعري الأول: ( طينيا )، من كتاب (الحوار المتمدن) وله مدونة بعنوان ( طينيا ) علي النت!

3:
لمناسبة صدور كتابه الشعري ( طينيا ).

قصيدة التلب، الشعر متاهة أم نجاة؟!

مدخل:
منذ أن رحلت ( رشيدة )1،
( حدث ذلك في قلبه ورؤاه)
وهو يحوم حول روحها،
لا يكاد يفارقها.
يبحث،
بمثابرة وإصرار لا يكف عنه، و ( ينقب )2
في اللغة والمعاني والصور
ليجد ما يوازيها...
ويجعل من معناها وجها لقصيدته
لا يرضي إلا أن تكون كلها في رؤيا إشاراتها.
فإمتهن ( الترميز )
والغرائبي من اللغة.
فلا يكتب إلا ما يعتقده خليقا بوجهها
لا يهتم إلا بما يثير روحها
ويرضيها
ليفرحها ويفرح
و ... يضحك ضحكته الفاضحة
وما يلبث أن يبكي،
حيرانا
لكأنه يتحسر فيقول:
( نسيت أن أسأل أمي
كم تحتاج من القسوة
حتي أغادر قلبها!)...3
ثم يروح غارقا فيها،
ضحكاته الحامضة!

عن قصيدته.
كتابة التلب، السردية والشعرية كلاهما، تقدم نفسها كفضاء شعري/ لغوي، لكأنها لوحة لا متناهية من الرغبات والصبوات. جمل مصاغة، الواحدة تلو الأخري، بكامل المهارة والمراوغة. فاللفظة، عادة ما تكون لديه، دقيقة وشعرية وموحية، ثم تجد فيها، إلي جانب ذلك كله، دلالات مستحدثة، نبرات وتوترات لكأنها قفزات في الرحاب الوسيعة، الصور فيها مكثفة ذوات إيماضات ولمعان يكاد لا يخبو، الإستعارات مدهشة بنزوعها الجسور إلي المغايرة وغير المألوف. وأما التشبيهات، فإنها مستلة من حرز الواقع الماثل، لكنها، في ذات البرهة، تفيض بفرادتها الغرائبية، حيث تغدو، بحشاشة اللغة، في إطار المغايرة مصاحبة للدهشة، للمباغته والفتنة.
التجريب، هو الآخر، دهشة المسافة لديه، فيما بين اللغة والعالم والآخر، مقزوفات ذوات أشلاء وشظايا محلقة في فضاءات النص، تؤمض وتشع، وتوحي بتلك الحيوات الشعرية الغامضة/ الواضحة!
التلب، أراه في عديد لحظاته الشعرية اللاهبة، يندس بين الأدغال، بين الأغصان المتشابكة، وفي غمار تشابكاتها تلك، يغيب عنا، جراء تلك الكثافات تمنع عنا رؤيته جيدا، فلا يدلنا عليه إلا صوت حراكه هو، وأصوات تكسر تلك الأغصان وصراخه العالي، تأخذنا، تلك الأصوات إليه، نعاينه أحيانا ونكاد ندركه، وأحيانا كثيرة، يجعلنا في الخشية عليه، نخشي عليه غائلة الوحوش، والوحش الأكبر في الشعر، علي قول جبرا، هو التكثيف اللفظي الذي، يكاد، لا يقنعنا بأنه تكثيف فكري أو رمزي أو حسي. أنه تكثيف أشبه ببدلة حديد يلبسها الإنسان، فيتعذر عليه الرقص، في اللحظة التي يريد فيها أن يرقص. فإذا الألفاظ، بدلا أن تصبح ريشا في جناح الشاعر، تتحول إلي خيوط عنكبوتية في شرك يوقع به. هذا ( التناقض ) أعده ميزة ( طينيا ) الأولي، وهو، في ظني، تناقض حري بالتقصي والدرس، لأنه من ملامح عملية خلق فذة، بل أنه ما كان له أن يكون إلا صادرا عن خيال جياش ذو عنفوان، وعبره، ومخلطا به، يحاول الشاعر، بوعيه وعدته أن يستبطنه، ويستخرج أسراره، فتقع، في تلك الهنيهة، المتناقضات. ولعلها تقع، كما أظنها، عندما تخف صرامة الوعي، والكوابح التي يقدمها أطواق نجاة. صحيح، لحدود كبيرة، أن القصيدة، في حال حداثتها الراهنة، هي تفجير، والتفجير يحدث بالمتفجرات بالطبع، تلك تكثر، وهي مخفية كالفخاخ، في أدغال اللغة. لكن التلب، مثلما القانصين المهرة، يجمع بين يديه أصابع البارود، ولا يكترث لإنفجاراتها المدوية ولو كانت تنفجر بين يديه نفسها. يقول في مقدمة ( طينيا ) ليرينا كيف يراها الكتابة:

(وإن كانت الكتابةُ هي بارودٌ أو سلاحٌ هُرِّبَ بدقَّةٍ، ومُسِحَت عنهُ ملامحُ الشياطينِ التي كانت تغفو بهِ هناك (مرمِّمَةً أقدامهُ بقيعان محيطات العالم الآخر، والتي هي ليست ماء، وليست فضلاتِ سُحبٍ، وإنما نظرةُ طائرٍ تائهٍ داخل صوته العابر للمحيط)، مُسِحَت الملامح لكي يُصْبِح هذا السلاحُ متداولاً، بين يَدي الكائن السابق لاختراعِ اللُّغةَ، دونَ أن تُثِيْرَ شَكَّ الأجِنَّة في الأرحام، والصرخاتِ النابعةِ من دمٍ يلتهمُ لذَّةَ رعبٍ، والمراوغاتِ الأخلاقيَّةِ للعدمِ المسكونِ بأنفاسِهِ الأخيرة، والنظرةِ بشقَّيها: (الأجْنَح والأَتْرَبْ). وبعد ذلك يأتي مأفونٌ لينفُضَ الجريمةَ من سَطْحِهِ اللَّماع، ويُغلقُ على وجههِ البابَ البعيدَ الغَارِبَ ويُدرِكُ هُيام الواقع، بل وتحقُّقهِ، داخل كلِّ هذه المرايا المتقابلةِ بعنفٍ لا يغفر الالتفاتة، ولا يَقْبَلُ الشهقة الخالية من التحطيم العارف، فإن هذا المأفون بالجَّحيم سيُكْرَمُ، وبالذلِّ داخل قلبِ الرحمةِ سينبضُ دون توقُّف.

آن للجِدِّار الْمُثَقَّبِ أن يُبِيْدَ نَفْسَهُ بنَفْسِهِ،
يفعلُ ذلك بمجرَّد أنْ تَجرَّد وجُودُنا بشتَّى رُعبهِ الطبيعيّ.
وأقول (آن)، لأنَّ كل لحظةٍ تمرُّ؛ تحطيمٌ، وكلُّ نظرةٍ خائنةٍ إليهِ؛ إرادة.)4.

هكذا، يمكنك أن تري كل هذا الحشد الغريب من الأسئلة، أسئلة محرقة لا شك، لكنه أين هو من اجاباتها، وليس علينا، لنكون عادلين، أن نطالبه بها وبالحلول لما تثيره من مشكلات، حياتية واقعية أو وجودية، لكننا، برغمنا، نبحث عن رؤاه و( فكره ) وثمرات وعيه وسط تلك الغابات البكر التي يتعهدها ويرعاها فيجعلها في قصيدته. ولنسأل، علي ذكره أن ( آن )،
كيف للحظات، هكذا جميعها، أن تكون ( تحطيم )، وكيف للنظرات، جميعها أيضا، أن تكون
( إرادة ) وهي ال ( خائنة )؟
والشاعر هنا، علي أية حال، يوحي إلينا بأن في ما يقوله قضايا ( خطيرة ) تهم عصرنا كله،
وأن في ما يقوله شعره تطلعا ( نبويا ) لابد لنا أن نتقراه، وأن تتأمله بإمعان لنراه. والأهم من ذلك كله، أنه يعدنا، دائما، بعطاء الشعر: الشعر كتجربة، وكسحر، وإثارة، وإقلاق، و ... بهجة. وأما أن عجزنا عن التحليق في الأبعاد الفسيحة لشعره، أو توقف فهمنا لمجاراته وإدراك مراميه ومشاهدة صوره ( الغريبة ) بالفتنة التي في ملامحها، فأن ذلك قد يكون ذنبنا نحن، أو بالأحري، خطيئتنا، إذ ليس علي الشاعر إلا أن يثير ويحرك ويقلق، ويبهر وأن بشكل ملغز، وأن يثير الغبار والحصي في وجوهنا بعد أن يستعدي علينا الرياح، يفعل كل ذلك وعلينا ما تبقي أو لنقل مع الشاعر صالح علي صالح ( ما تبقي يشيده الشعر )5.
ولكن، مهلا، فالشاعر معروفا عنه أنه غير معني، بأي معني من المعاني، بما يراه الآخر في شعره، بل وجدته، أحيانا، يقول ( ومتي قلت أنني شاعر؟ ). لكأنه، في هذا الموقف، يماثل ما كان عليه حال أنسي الحاج إذ يصرخ في وجوهنا: ( تريدون شعرا!/ ومتي كان الشاعر يكتب شعرا!؟ )6.

عن الفتنة بالحداثة.
منذ الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، كان مطروحا، بإلحاح الضرورة والشغف، البحث عن إساليب جديدة في كتابة الشعر ولتكون سليلته ومنتسبة إليه. تلك الوجهة الجديدة في الأدب كانت لها نوافذ مشرعة أفتتحها المنورون الرواد: طه حسين والمازني واليازجي ومحمد حسين هيكل وسعيد عقل والياس أبو شبكة وأبو شادي وغيرهم. لكن الأمر في الشعر بلغ شاوا متقدما لدي شعراء الخمسينات والستينات، والحال كذلك، فالحديث عن ( التجديد ) لم يكن يوما بالشئ الطارئ المؤقت، فأن صفة الديمومة في الأدب، في واقع الأمر، تتخطي تلك الصفات، قديمها الذي يقال به وجديدها الذي يسعون لتكريسه، نعم، سيظل الجدل مستعرا مستمرا طالما بقي الأدب حيا، لعلها تلك علة وجوده وبقاءه، وبالطبع، هنالك منه ما يحمل في جوهره قيمة البقاء، وهناك ما لا يحملها. والبدهي، والمهم جدا لمعرفتنا، أن الأسلوب يتغير، بل لا مناص له من أن يتغير. هذه الحقيقة، عادة ما يصعب علي الكثيرين قبولها، بل يصادمونها ويرفضونها، ويسعون، سعيهم كله، ليقوضوها. يقول جبرا: ( ما زالت النظرة السكونية إلي الأدب تعيق التعاطف مع المجددين، فهي توحي لأصحابها بقدسية الشكل، والمجددون – وهم بالطبع غير سكونيين – لا يؤمنون بهذه القدسية. فهم ما زالوا بتجاربهم يعالجون الشكل علي هذا النحو وذاك. فيضفون عليه بتجاربهم قيمة من نوع آخر، إذ يجعلون منه انعكاسا للتفاعل الداخلي، أو البنية التحتية التي تقرر، بالضرورة، أبعاد الهندسة الفوقية. وأذا أختلف الشكل فلا بد أن ما في بواطنه قد أختلف. وآفة الفن – في الشعر كما في غيره – أن الشكليين يتصورون أنهم يستطيعون ( تجديد ) البواطن مع التمسك بالأشكال التقليدية. أنهم، كغيرهم، يطالبون بخمر جديدة، ولكنهم يصرون علي وضعها في زق قديم، وهذا تناقض أساسي لا يستطيع تحمله اليوم أي فنان يخلص لنفسه وفنه.)7. هكذا، يمكننا أن نقول، بأن ذلك بعضا من ما يحيط بواقع شعرنا الآن، ذلك الجديد الطالع، بجسارة محرقة، من بين الصخور والركام الذي يكاد يعيق تقدمه وسيادته. ولكنا نلاحظ، للأسف، أن هنالك العديد من الكتابات عديمة المعني والقيمة التي تطل من بين بزوغ الجديد وتتعالي لتكون في معيتها، وهي المحكوم عليها، جراء ضعفها وهزالها البائن، بأن تكون إلي زوال وتلاشي. مأمون، منذ ميلاده الكتابي، ظل برقا ورعدا ورياح، المفردة تضئ وتشع عنده حد تكاد تشيح، جراء لمعانها، وجهك، لكنها، تغويك، برغمك، فتعود تتأملها وهي في جمالها وفتنتها. مأمون، لعله من القلائل من بين شعراءنا من جعل لكتابته (سيرة) يحدث بها عن ملامحها ووجهتها، وكيف يراها ثم يرينا إياها. (سيرة) نارية تطلع علينا وهي في محارقها وغرائبيتها و... ( جدتها )، قد تصيبنا بالصدمة، نعم، لكنها تدهشنا فتجعلنا فيها، قراءة وتأملا ودرسا. يقول في مفتتح (سيرة النار):

( هِيَ فِي هَوْلِهَا:
تَقْتَنصُ الوَرْدَةَ الْحَالِكَة،
مِنْ حَدِيْثِ الدِّمَاءِ.
تَقْتَنِصُ الوَمْضَ،
مِن نَابِ أُغْنِيَةٍ سَافِرَة.
تَجْتَثُّ مِن شَهْقَةِ الشَّمْسِ جذْرَاً؛
يُفتَّشُ فِي تُرْبَةِ الفَجْرِ عَن مَخْبَأِ القَبْرِ،
تُشْرِقُ فِي رَقْصِهَا الْمُرْتَبِكْ؛ لُغَةً تَسْتَدِرُّ بُكَاءَ الغُمُوضِ،
فَتَطْلُبُ مَا فِي السَّمَاءِ مِنَ النَّبْذِ،
تَسْرِقُ بَعْضَ صِفَاتٍ مُعَمَّدَةٍ بالْخِدَاعِ لِتَكْسُوَ عُرْيَ شَرِّهَا.
تُكَوِّنُ أَنْفَاسَهَا،
تَتَعَانَقُ ذَرَّاتُهَا،
جَسَدَاً تَتَخَاطَفُهُ أَعْيُنُ العَاصِفَة.)8.

الكتابة عنده، في مصهر إبداعه الناري، هي فعل ( إقتناص )، والقانص تبلغ به التوترات والقلق والإنتباهات أعلي أعاليها، حد يكاد يصير، هو نفسه، القانص والفريسة معا، في عنفوان وهاج، في برهة الخلق العسيرة المرعبة تلك، ليستل ، من برهتها الخاطفة، وميضا ونورا، فيخرجها من تلك الوطأة المؤلمة، من الصمت والترقب إلي القول، إلي ساحل الشعر. يأخذ بيد الورود ( الحالكة ) الغارقة في وحل اللاجدوي، يتقصد اللحظات حيث تكون فيها مزعات الوميض فيقتنصها إليه، يبحث عن الذي ينتظر خلاصا ونجاة، يمتد به ولعه ليبحث في ( القبر ) عن وميض فيه فيأخذه إلي حيث النجاة والحياة. يفعل بها كل ذلك ليراها وهي (تُشْرِقُ فِي رَقْصِهَا الْمُرْتَبِكْ )، ترقص، الآن، في الملأ، ولا تثريب عليها إذ تكون في حمي الإرتباك تلك، وفي ملامحها تكون في ( لُغَةً تَسْتَدِرُّ بُكَاءَ الغُمُوضِ، فَتَطْلُبُ مَا فِي السَّمَاءِ مِنَ النَّبْذِ... )! الغموض، ذلك الذي هو سليل ما في ( الحداثة ) من رؤيا متلبسة بها، لغة في الغموض إذن، لكنها الواضحة، وأن كانت تستجلب إليها(النبذ) من قاموسه الوسيع. لقد قلنا، فيما سبق، أنه لا يحفل بذلك النبذ من أي جهة أتاه، لا يعنيه البته أن يكون في ردات الفعل عليه، بل يمضي في ما هوعليه من شعر. يأخذنا إذن، بمعية ومؤازرة من رؤياه إلي شأن قصيدته ومصائرها، الآنية بالطبع، فعنده، لم تستكمل عدة المستقبل عدتها بعد، فقصيدته يراها في الصعود وفي التعالي وفيما هو سيأتي إليها كل لحظات الشعر لديه. يقول، أيضا، عن حالتها:

( تُكَوِّنُ أَنْفَاسَهَا،
تَتَعَانَقُ ذَرَّاتُهَا،
جَسَدَاً تَتَخَاطَفُهُ أَعْيُنُ العَاصِفَة.)9.

هل نقول أنها، في هذه الهنيهة البيضاء قد بلغت مقصودها، حين تماسكت وأستوت جسدا في وجه العاصفة؟ لآ، ليست هي من تستكين، عدوة السكينة والهدوء هي. هو نفسه من يظل يصرخ، كل مرة، في ( سيرة النار ) ليطلب منا أن انتظروا، يقولها ليؤكد، في يقينيات تكاد تراها في الدوامة التي هي لحمة حية في سدة الحداثة، يهوم بنا في متاهات غرائبية، في الطبيعة وفي الحيوات جميعها، لكأنه طائر البرق الذي ليست من طبيعته إلا أن يكون في التحليق العالي، أيا ما كانت السماوات وما فيها.

( إنْتَظِر..
إنَّهَا تَتَفَتَّحُ؛ تَتَحلَّقُ مِن صَرْخَةِ الطَّيْرِ
والطَّيْرُ فِي سِحْرِهِ يَتَجَمَّعُ
تَنْحَتُهُ اتِّجَاهَاتُ رِيْحٍ عَلَى هِجْرَةٍ صَوْبَ أحْوَالِ لَيْل.

إنْتَظِر..
إنَّهَا تَتَمَشَّى عَلَى شَاطِئِ الْحُلْمِ
تَتَمَثَّلُ دَوْرَ النَّوَارِسِ فِي دِقَّةٍ
وأنَا تَائِهٌ فِي مُحِيط.
هِيَ غَارِقَتِي
و النَّقِيض.
إنْتَظِر؛ إنَّهَا تُحْتَضَرْ …)10.

سيخوض معاركه ليخلصها من نير الإحتضار، أنها تجربة محرقة، للشاعر ولقصيدته نفسها، مصهرا للغة والمعاني والصور، ونشدان، حار وجارح، للصور وللمشاهد، ما تبقي من القصيدة حافلا بتلك التهويمات، مرة في غموضها، ومرة مجلوة ناصعة وواضحة، وكما رأينا فيما سبق، فأنها، في جل محمولاتها، زاخرة بالأسئلة، الأسئلة المؤرقة نفسها التي تصخب، بعنفوان ملحاح، علي المخيلة المبدعة للشاعر. وأنت في بلبال تلك الرؤي يخيل إليك أن حركة الزمان في القصيدة والظرف التاريخي، هما معا، اللذان يسألانا. ذلك مما يجعل السؤال في الشعر يبدو وكأنه ينشد أن يكون ( شرطا ) ملازما للقصيدة، ف ( عندما يطفو السؤال علي السطح يستأصل ويقتلع من جذوره. وإذ يغدو سطحيا، فأنه يخفي من جديد أكثر الأسئلة عمقا ويحفظها. لا ندري ما إذا كانت الأسئلة تشكل كلا موحدا، بيد أننا نعلم أنها لا تبدو مستفهمة حتي تتوجه بسؤالها نحو هذا الكل الموحد الذي يظل معناه غائبا عنا، حتي في صورة سؤال. حينئذ يغدو التساؤل هو الاقتراب أو الإبتعاد من أفق كل سؤال. التساؤل هو أن نضع أنفسنا أمام استحالة وضع السؤال جزئيا. هذا في حين أن كل سؤال جزئي، يطرح طرحا سليما كلما تقيد بجزئية الطرح. كل سؤال محدد، وبما أن السؤال محدد، فهو الحركة الخاصة التي يحفظ اللامحدود بفضلها في تحديد السؤال.)11.
السؤال، أيضا حركة، وقلق، ونشدان، حرية تجري جريانها في فضاءات الممكنات وفي الإستحالات أيضا. وياله من سعير ذلك الذي يعانيه الشاعر وهو يصدر أسئلته في وجه العالم لعله يتطهر من ذلك النير، لكنه، هو وحده من يعاني من ضراوة أسئلته، فيشرع، بكل أسلحة الشعر لديه، ليبدو مجاورا من إجاباتها، ولكن، أينها وأين هو منها!؟
ولكن، يحق لنا أن نسأل أيضا، لماذا، ولمن يكتب مأمون التلب!؟. أعلم أن مأمونا يحب الكاتب الأمريكي بول بولز، وهما معا، كما أظن، يجمعهما ( خيطا ) لا تستطيع تجاهله: أسلوب حياتهما، ولعهما الجنوني بالأدب، الدخول بجسارة ومثابرة في تجاريب الكتابة، لامبالاتهما بما يقوله النقد حيال كتاباتهما، وهما، بالطبع يختلفان في الدين ! فالدين، كما هو معلوم، يتدخل، بقوة في الوعي فيجعله في رؤياه العقائدية، ومن ثم، يتأثر، بشكل جلي، وبذلك التدخل حد أن يشكل، بمؤازرة الإبداع، وجها ملحوظا في إبداعه. هذا المجتزأ من يوميات بولز يوضح ما قد رأيناه عنده من هذه الوجهة. ولكن، هل مأمونا علي ذات النسق الفكري/ الديني كما عند بولز؟ لا، لست من ذلك الظن، فمأمون ( مؤمن ) وفي رؤيا الإسلام، في الوجود البشري والكوني، مراوحا فيما بين مظهره السني وما قال به محمود محمد طه، ومأمون، من المعجبين المتأثرين، بشكل أو أخر بمحمود، وهذا ما قصدته بإختلافهما. إذن، في محاولة الإجابة عن سؤال الكتابة يقول بولز: (قرأت، هذه المرة، أجوبة الإستبيان المنشور في صحيفة ( Liberation ) قبل سنتين:( لماذا تكتب؟) بحثا عن الإجابة الأكثر تواترا. قلة من الكتاب يفسرون ممارستهم لمهنتهم بأسباب مادية. الكثيرون منهم يعترفون بأنهم يجهلون السبب الذي جعلهم يكتبون، لكن غالبيتهم يجيبون بأنهم دفعوا للكتابة بقوة باطنية، لم يكونوا يستطيعون مقاومتها. والأكثر تشككا، منهم، لا يترددون في الاعتراف بأن رضاهم الرئيس ناتج عن الإنطباع بأنهم سوف يتركون بعضا من كيانهم وراءهم، يعني – بعبارة أخري – أن الكتابة تبدو وكأنها تمنح نوعا من الخلود، في حدها الأدني. كان يمكن لهذا الأمر أن يكون مفهوما في القرن الماضي، عندما كان الإعتقاد سائدا بأن الحياة، علي هذا الكوكب، سوف تستمر إلي ما لا نهاية. لكن، بما أن هذا التوقع صار مشكوكا فيه، اليوم، فأن الرغبة في أن يترك المرء أثرا وراءه تبدو من قبيل العبث. وحتي لو نجح النوع الإنساني في البقاء خلال قرن آخر،فأنه من غير المحتمل أن تكون، لكتاب كتب سنة 1990، أهمية كبري، بالنسبة إلي شخص يتصفحه سنة 2090، بشرط بديهي، هو أن يكون هذا الشخص قادرا علي القراءة.)12. و ... لكن أيضا، لمن يكتب مأمون؟!. من بعض أقواله، المبثوثة في شعره، يقول بأنه يكتب لأجل الشعر، ولوجه الحياة، بل أنه يتمادي فيقول أن الخلاص لا يحل في هذه الحياة، إلا بالشعر. لقد كان سيوران، وهو القريب من نيتشة وعلي مسافة من ديكارت، يقول ( كلنا أرواح متدينة بلا دين )13. لعله يكون علي حق أو بعضا منه علي الأقل، لكن المؤكد، في ظني، أن اللغة تتداعي والمعاني تبدو مشوشة عندما يشرع الشعر يتحدث عن تجاربه بوصفها أفكارا دينية. ونحن نعلم، من خلال ما نري شعرنا الراهن عليه، أن العديد ممن يمتهنونه يؤمنون، بوعي منهم أو بغيره، بما كانت تقول به إيميلي ديكنسون: ( أن الميتافيزيقيا هي ملكوت الأغواء الأبدي للروح بالأفكار )14. ذلك، كما أري، مبحثا جديرا بالدرس عنده وفي شأن شعره، وليس ذلك مما نوده يكون في هذه الكتابة علي أية حال.

في قصيدة ( مِنَ الْمَشَاهِد )15 ، وفي مشهد ( آخر الرعب الجميل )، يأتيه
(الحجر المضئ)، يأتيه مكشوفا علي ضوءه ونوره، ذلك الحجر الذي جعلت منه الأساطير الأغريقية تعويذة سحرية تجلب، لمن يلامسها وتنكشف له، الصحو والإنتباهة في الحياة، والفرح أيضا، وكنتاج لذلك السحر يتأتي للمرء الخلود، تري، هل تلك من أماني الشاعر في خاصة وعيه، أم هي محض تشوف لدواعي الشعر؟ أتاه، إذن، وهو علي تلك الحال من التطواف الغريب، ذلك السحر الذي من جوهر الحجر، أتاه، وهو في هذه البرهة الحائرة في نضجها، ملوحا ومتداخلا مع (الناي)، مع صوته ودلالاته العديدة المبهجة، كاشفا له عن مدنا يجعلها، عارية، في عين الشاعر، فتريه كيف هي جثة الموت تكاد تتواري في شقوق الضوء. وهو
(حِيْنَ يُخَمِّنُ الأَحْلامَ فِي رِئَةِ الرَّصِيْفِ البَالِيَة.)!. لاحظوا أنه ( يخمن )، لا يفصح ولا يخبئ، والأحلام، ويا للحسرة، ملقاة علي تلك الرئة البالية المعطوبة، فأينها هنا، بذرة الأمل الوضئ أمامهما معا، الشاعر والقصيدة؟!.
وهو، إذ يمضي، مهوما ومحلقا، في تلك المتاهة، ينادي ( النار ) التي سبق وجعل منها بعضا كثيرا في سيرة صيرورته، يناديها، ليكون منها في الرفقة المشتهاة، لماذا، عوضا عن الخلاص، يلح أن يكون في ( اللهب )؟
( لَهَبٌ
عَلَى لَهَبٍ
وبَيْنَهُمَا حُقُولُ الصَّمْتِ:
تَطْرُدُ سِرِّهَا مِنْ بَينِ أَجْنِحَةِ الفَرَاشِ الْمُرْتَحِلْ
صَوْبَ الْحُقُولِ البَارِدَة:
تَنْمُو عَلَى دَمِ مَنْ يُحِبُّوْنَ البِدَايَةَ.
أَعْطِنِي سِرِّي لأَكْتِشَِفَ النِّهَايَةَ
ثُمَّ أَقْطَعُ هَذِه الأَقْدَامَ
كَيْ يَمْشِي خرابي _ دُونَ آلامِي _
وأُبصِرُ فِي الصَّخَبْ:
لَهَبٌ
عَلَى لَهَبٍ
وبَيْنَهُمَا ثُلُوجُ الْمَوْتِ:
تُنبتُ ما تشاء على غلال بيوتها
تَبْكِي
على أَرَقِ النِّهَايَاتِ _ الْحَوَافِّ الشَارِدَة _
...
وأَنَا أُحَدِّقُ
فِي فَرَاغٍ َطَائِرٍ هَرِمٍ
وبَيْنَ يَدِيَّ هَذَا الْجُرحُ
و الرُّعْبُ الْجَمِيْل.....).

يحلق، عاليا في الفراغ الفسيح، ويستعذب، حد الثمالة والبقاء نشوانا، نزف جراحه، و ... لحظات الرعب الجميلة، ذلك هو عذاب رؤيا تهويماته وفرحه بما يناله منها! لماذا رأيت في بعض هذه القصيدة نفس الرؤية التي جعلتني فيها، ذات يوم، أحدي قصائد الشاعر الأمريكي تشارلز سيميك التي يقول في بعضها:
( ... في المنتزه، كان العشب ملبدا، حيث يستلقي عاشقان مجهولان.
في فندق كعكة الزفاف الكبير ذاك، سرقت حقيبة يدها.
المجنون ذو الرأس الحليق، والنظرة المتوترة، الذي بدأ كالشاعر الروسي
ماياكوفسكي، لقد ذرع الجادة، صارخا بأعلي صوته.
إنني راغب في الرحيل إلي حجر في البحر.
يا حفار القبور، الحقيقة أعتم تحت أظافرك.
أنا في كل مكان ولست في أي مكان. مسافر في سفينة أشباح.
ذات الكرسي وحاشيتها في مرمي البصر فوق بيت المنجم.
سمعت بقارئ أفكار يستطيع قراءة ما خاف منه عود ثقاب مشتعل حين
دلفإلي بيت معتم.
أيها المعذبون يا ذوي الوجوه السعيدة، لقد جردتم أحد السجناء من
ثيابه، ثم انتصب مربوطا بأسلاك كهربائية كشجرة عيد الميلاد، ونحن
جالسون نحتسي البيرة، عين علي التلفاز، وأخري علي النادل الذي يعيد
ملء كؤوسنا.
قط أسود في الثلج خارج بيت الموتي.
كيف تجعل النبيذ الردئ لذيذا. 1000 وصفة. أرسل 19095 S إلي
صندوق بريد192، جنة الحمقي، ن. هـ.*
حلمت بأن الله قد سألني أن أكتب تعريفا بخلقه.)16.
* هذا هو رقم صندوق البريد الخاص بسيميك نفسه، و ن. هـ: الحرفان الأولان من نيو هامبشاير، حيث يقطن الشاعر. ( المترجم ).

السياسي في الدم الذي في الشعر!

دائما، ولا ندري بعد، إلي متي ستظل ( التهويمات ) والأوهام تحوم حول مسارات الشعر الجديد، تسعي، مثيرة لضجيج وطنين فاقع، لتضع أمامه مقولاتها التي تقول بإستحالة وجود السياسي في القصيدة، بل أنني أري، بعضا من الشعراء/ت يلعنون السياسة والسياسي، بينما، وياللمفارقة، تجد وجوها ووجودا لهما، بهذا القدر أو ذاك، في ثنايا قصائدهم وفي يوميات حياتهم وأطوارها كلها. ليتنا نكون في المعارف والوعي بها، فندعوها لترينا كيف أن ذلك المسعي، هو من المستحيلات في عالمنا، ولطالما هنالك حياة وبشر وصراع فان السياسة والسياسي حاضران. ولكن، مما لا شك فيه، أن ذلك التواجد في الشعر يكون، بقدر قدرة الإبداع وسعته لدي الشاعر، خفيفا في إطار لغة ومضامين القصيدة، شفافا مثل ضوء القمر و ... نقيا. في حوار أجري معها، قالت توني موريسون الروائية الأفرو- أمريكية الحائزة علي نوبل في الأدب 1993م، عندما سئلت، ألم تفكري أبدا في أن تمارسي السياسة، وأن تصبحي أمرأة سياسية؟ فقالت: ( لي رؤية إلي العلاقة بين الفن والسياسة تختلف كثيرا عن رؤية أغلب الناس. أعتقد أن كل حقيقي سياسي، وأن تحويل أي شئ لا سياسيا هو فعل سياسي في حد ذاته. إذ يتحدث شكسبير في مسرحياته عن الحكومة، والحر، والسلطة، وكل هذا سياسي في نظري. ففي فترة محاربة الشيوعية، جعلنا من ( سياسة ) كلمة قذرة. وردا علي ما كان يجري في الاتحاد السوفيتي، قررنا في الولايات المتحدة الأمريكية ألا يكون الفن إلا جماليا. وهكذا، شرعنا في تحريف معني كلمة ( سياسة )، مشبهين إياها بالدعاية، بشئ قذر. إذ يكمن عملي، وأنا أكتب، في إحيا العلاقة بين السياسة والأدب، بما للكلمة من معني)17. وفيما يخص شاعرنا مأمون التلب، وهو من بين القائلين بلعن السياسة والسياسين، بل أنه يعلن عدم جدوي الأحزاب السياسية في بلادنا، اليمينية منها واليسارية، لكأنه يراهن علي نفي السياسة بأحزابها جميعها عن ساحة النضال لأجل التغيير والثورة. يقول بذلك كله، لكننا، نري في شعره وفي كتاب ( طينيا )، رغما عنه، نري وجوها عديدة وملامحا للسياسة مبثوثة في ثنايا قصيدته. ولندلل علي ما نقول، دعونا نقرأ معا قصيدته (أُفُق الانْهِيَارَات الجَمِيْلَةْ)
وسترون معي تلك الملامح السياسة في قصيدته:
( الكَمَنْجَاتُ
تَعْبُرُ
خَطَّ
الأُفُقْ...
تَعْبُرُ الخَائِفَات عَلى صَمْتِ أَرْحَامِهِنَّ
تَعْبُرُ مِفْرَزَةً مِنْ رِجَالٍ يَشُدُّوْنَ فَوْقَ مَلابِسِهِمْ بِحَنِيْنٍ
خِرَقاً لُطِّخَتْ بِالنُبوءاتِ
مَحْشُوَّةً بِطَحَالب أَسْئِلةٍ
وفَرَاغٍ يَسِيلُ عَلى الجَانِبَينْ
يَعْبُرُ الخَانِقُونَ عَلى كَفِّهِمْ تَوبَةً
وغَنَائِمَ تُلبِسُهُمْ حُلَّةَ الانْتِمَاءْ
تَعْبُرُ الوِحْدَةُ الُمتَجَمِّلَةُ العَبَرَاتِ
مِثْلَ القَمَرْ... فَوْقَ سَمَاءِ الصَحَاري الفَقَيْرَةِ
تَعْبُرُ العُزْلَةُ النَّائِمَة.. في دُرُوْبِ الشَّيَاطين
يَعْبُرُ الرَّاقِصُونَ بِسُوقٍ مُحَطَّمَةٍ
فَوقَ نَهْرٍ يَسِيلُ بِحُمَّى الأَبَدْ .... لِحُدُودِ الجَحِيمْ
والشَّمْسُ دُونَ وَدَاعٍ سَتَحْرِقُهُمْ كُلَّهُمْ بَعَويلِ الغُرُوبِ الأَخِيرْ....)18.
لن نشير إلي مواضع السياسة في القصيدة، لكننا، بقصد غير ماكر، سنترك للقارئ سانحة للتأمل فيها ليكتشف بنفسه تلك العري الوثيقة التي تمسك بأعناق المعاني والمشاهد السياسية في متونها، ولا شك أن تلك متعة أخري مضافة إلي متعة قراءة النص نفسه ومعالجاته الشعرية. ولعلي لا أتجني علي شعرية نصوص الشاعر الأخري حين أقول أن تلك الملامح تجدها في سائر قصائد الكتاب. وذلك، أيضا، مما يستوجب التقصي والتأمل والدرس في عموم تجربة الشاعر. والتجربة عنده، لها أوجه عديدة، مثيرة وعظيمة الغني، لأنها تقوم، وتتأسس، علي منابع الإبداع لدي الشاعر، وعلي موهبته الكبيرة في التحرك بها في مسارات شاسعة في الرؤيا واللغة والمعاني نفسها، ثم إنك تجد في قصيدته ذلك الولع الممض والإلحاح في التخطي والتجاوز والجدة في الصور وفي المشاهد.

شخصية الشاعر وبعض أحاديث.
كما ذكرت فيما سبق، أن هنالك، في ظني بالطبع، بعضا من المجاورة، بالأحري لنقل القرب، في ما بين التلب وتوفيق صايغ. ذلك المتمرد الأول علي راهن القصيدة أواخر الخمسينات والستينات، ومبتكر الحداثة والجدة في رؤيا الشعر وكتابته، في سماتها المغايرة للسائد المهيمن وقتها علي الساحة الشعرية. ولم يكن، وقتها، النقد نفسه بمستطاعه أن ينفك من إساره وإشتراطاته، المعيقة لتطوره، حتي يكون في دعم وبيان جدوي هذا الوافد الشعري الجديد. بالطبع كان هنالك بعض النقد الذي، بالكاد، استطاع أن يري في هذه التجارب الجديدة ملمحا جديدا وجدوي، لا مناص منها، تكون في وجهة تطور القصيدة، ليست العربية وحدها، وأنما في العالم واللغات جميعها.يقول جبرا: ( فالتجربة التي بدأت في أوائل الخمسينات، واستمرت حتي منتصف الستينات، مسرعة نحو هذه البؤرة الرؤيوية الخطيرة التي ربما حددت وجها لجيل بكامله – هذه التجربة مصابة بضرب من اللهاث ربما يكون من قبيل التسرع أن نحكم علي خطاه في اللحظة الراهنة.ولكن علي الشعراء أن يقنعونا بأنهم جادون، بأنهم سيكونون في ثلاثينياتهم علي ما يجب أن يكونوا الآن عليه من جد.)19. أن المونولوغ الدرامي يسيطر، وبقوة، ولا يزال مستمرا، وبقوة أيضا، وهو، في الغالب، تماما مثلما في قصيدة التلب، مونولوغ مغضب، يقسو علي الذات بقدر ما يقسو علي الآخرين. فتجد الرؤيا لديهم، في معظمها، مثقلة بالكآبة، والإغتراب، والإقتلاع والرفض، تجدها، أحيانا، غير معنية بافرازات وجراحات الواقع. لعل هذا هو السبب أن هذا الشعر ينطلق من الخارج إلي الداخل، بإصرار غريب، والشاعر، ضمن هذا الشعر، يؤكد علي فذاذاته، ولكنها، وياللحسرة أيضا، فذاذات حزن وأوجاع، فذاذات في وجهة المغايرة، وإن كانت ضعيفة وفي الهزال الذي لا يليق بالشعر، لكنها، فذاذات تمرد. حتي وهي في غموضها، تجدها ، تكون في الغموض الذي ينشد ويريد الصراخ. صايغ كان يداوي الألم بالألم، بما في الواقع من خشونة ومرارات، تماما مثل التلب، الذي يسعي، ملء وعيه وقلبه وموهبته الشعرية، أن يكون في ذلك الذي يحرقه، وينال منه شخصيا، لكنه يكون فيه ويصاحبه: الرؤية الجديدة، المغايرة تماما لما هو سائد ومعترفا به، من ( الحرس القديم ) الذي لا يكف التلب، لحظة واحدة، عن مناكفته وتبيان خطله، وخطره علي الشعر. هنا، في هذا التوق الملتاع لنهوض الشعر، وليكون في فتوته وفتنته، تكون تلك ( المقاربة ) التي رأيتها فيما بينهما.
يوما ما، في نيروبي، في أحد شهور العام 2011م، سكنا معا، أنا ومأمون التلب، لأشهر بالمنزل الفسيح الرحيم لصديقنا محمد خالد. وقتذاك، وبفرح طاغ، كنت أقاسمه السطو علي اللحظات الرشيقات البهيجات، نقتنصها، معا، فنشرع، في الليل، وكل الأيام هناك ليال، نتسكع في المدينة حتي يدركنا الصباح ولآ نراه فينا. كنت ألاحظه، حين نمشي في تسكعنا العفوي ذاك، يخطو بعيدا عني، لكأنه وحيدا في ذلك التسكع الفسيح، يمشي و ... يضحك، ويردد بما في قلبه ومخيلته، أفهم، أحيانا، ما يقوله، و في مرات عديدة لا أفهم ما يقوله سوي ضحكاته العالية، التي تستدرج إلينا الإنتباه، وأعرف منابعها. في الأمسيات، وهناك، كل الأوقات يمكنك أن تجعلها أمسيات وليال وما تود وترغب، حين نجتمع مع عديد الأصدقاء، نطلب إليه أن يقرأ علينا شعرا.فكنت أراه، كيف يبدو فرحا، كطفل ملائكي برئ، فيمسك بأوراقه ويشرع يقرأ، لكأنه في منبرا ممتلئا بالحشود الغفيرة، نصمت كلنا، و ... نصغي، للبروق تضيئنا بذلك الشعر الغريب ويدهشنا، فيظل، يؤازره صمتنا، يقرأ ويقرأ، وما نعلمه من قصيدته أنها ( مطولات )، مثلما قصائد هاشم صديق، ولست أدري هل ذلك من ( حميد ) القصيدة أم لآ؟، يظل يقرأ، لكأنه لا يرانا، لكنه يدرك، بالطبع، أننا نراه. نتابع ما يقرأ، قد نفهم بعضه، وقد يستغلق علينا فهم بعضه الأخر، فأراه، وقد فرغ من القراءة، يبتسم إبتسامة تبدو لي حائرة في وسط دهشتها، يود لو يقرأ ما تكون عليه تعابير وجوهنا جراء القراءة.وكنت أنا، ولا أزال، أري في قصائده توليدا مستمرا للصور وللرموز الضاجة بأصواتها وأصدائها، وأعترف، أنها في احالاتها تلك، لها في نفسي ميلا خاصا للإستجابة إلي رفقتها، علي ما هي عليه من تعقيد وصعوبة في تجميع أجزائها، لأن لها، وتلك أحد ميزاتها، قدرة عالية علي الربط البارع بين عدة تجارب متضادة يحقق الشاعر فيها التناغم والانصهار في أشكال متكاملة. مثلا تلك الروابط بين الخلاء الفسيح والمدينة، بين عصرنا والتاريخ، بين الماء المبذول والظمأ، بين القتل والفداء، بين حيوات الطبيعة وإنسانها، وغيرها، فأينما سارت به رؤاه تجد منه ذلك ( الرابط ) يمسك بتلك المتضادات من أعناقها ولا تنفك عنها. هكذا، تنتهي القراءة فتبتدي الدهشة، وننساق، لربما جراء حبنا للغته وتلك الصور الفذة يستولدها فيجعلها ناصعة في قصيدته، نذهب، من ثم، ومن بعد، لنعيش برفقته بعضا من جماليات الحياة. لكنني، ظللت، وإلي اللحظة، أراهما، مأمونا وصايغ، في ذات السمت، علي الموجة نفسها التي تعيش دواماتها بفعل الرياح العاتية. وشعرهما، معا، في مجمله ( صعب ) لأنه مكثف ومضغوض، لا يكاد ينسرح، حتي يعود ليحتشد، يطرب للألفاظ، ولكنه يجدلها جدلا فيمنعها من الإنفلات ويجنبها ( العبث ) والضياع.
وهما معا، توفيقا والتلب، كما رأيتهما، وأنا زعيم بحقيقة تلك الرؤية، أنهمها، يشتعل في دواخلهما، ولعا محرقا للحب، لحب أمرأة ما، أيا ما كانت هي في لحظة الشعر والإبداع تلك، أو للتي ستكون غيرها في موضع الولع بها، في وعيهما وفي شعرهما علي السواء. فيجعلانها، تلك المحظوطة بهما، متي كانت قريبة منهما، القرب الذي يكرسها فيجعلها في مرتبة المعشوقة، تؤازرهما في الحياة وفي الشعر، وقد ترتدي، أمامهما، في ملكوت تصوراتهما في العشق، ألف رداء وثوب، فيضعانها، مثلما يفعلان للقصيدة والرؤي، في قصيدتهما، صورة المرأة الأنثي في إطار نشدانهما المحرق، وفي حياتهما. هي، فيما أري، رؤيات وإشارات و ... حياة.هذه الرؤيا، بكل زخمها، قد وجدتها لدي مأمون بإمتياز، وخبرتها جيدا، وعرفتها لديه.

ما تبقي يقوله الشعر.*
هذا ما قال به الشاعر صالح علي صالح، وهذا، هو نفسه ما يعتقد به التلب، وهو، أيضا، ما أنتظره بشغف كثير، لأراه ماثلا متجسدا في واقعنا الثقافي، وفي الشعر، ليكون سيدا يعلن، في الملأ رؤياه الجسورة، بإعتبارها، هي وحدها، رؤية الشعر في جديده ونهضته. هكذا، وكل هذه الكتابة، كانت لمناسبة صدور ( طينيا )، الذي أعده، من جميع وجوهه العديدة، ثمرة فنية غاية في النضج الفني والجودة. ومأمون، هو، في ظني، فنان بمقدرات عالية من الوعي بوسائله الفنية، وهو، علي طريقته، يخدم الإنساني بوسائل وأدوات وصور تبدو، أحيانا، غير منطقية، أو غير إنسانية حتي، لكني أجده، بالسلب يعبر عن الإيجاب، وبالضياع يعبر عن الإستكشاف، ويحلق، أحيانا، في تهويمات غرائبية، لكنه يعود، ليهبط بها، علي مراسي وشواطئ حياتنا، قد تصدمنا أحيانا، نعم، لكنها تجعلنا ننتبه إليها وإلينا.
وتبقي، عند ختام هذه الخواطر،كلمة لابد منها: لمأمون كتابات عديدة و ( حفريات ) كبيرة ومثيرة، تسير في وجهات شتي، معرفية ووجودية، عاطفية وواقعية أيضا. نشر جلها في مدونته البديعة ( طينيا )، تجد ضمنها ما تجاوز بها بعضا من رؤياه التي في كتاب ( طينيا )، ومنها أيضا ما يعضد مقولاته، وما يفارقها، إلي أعلي أحيانا، وأحيانا إلي أسفل. وجميعها، وهي علي تفاوتها فيما بينها، تستحق، في ظني، أن تطبع وتنشر في مجلدات، فهي، وحدها، تتحمل عبء أن ترينا ملامح الوعي لديه. ليلة 14/5 الماضية، في محادثة هاتفية، أسمعني بعضا من نص طويل كتبه بعنوان رئيس( ضد الحياة )، ثم أرسله كاملا لي. في الصباح قرأت ما تيسر لي منها. النص في جوهره يروي مشاهدته لفيلم Breaking Up ثم خواطره وأفكاره عنه. وكعادته، راح يجري كتابته في سياحات غريبه، ومرعبه، تلامس الواقع وتفارقه أغلب الأوقات. وقد لاحظت، في مشاهد الفيلم التي أوردها، عند أورهام وعند كونديرا، وعن أن ( الرموز ) العظماء في التاريخ البشري هم القتلة الحقيقيون، بما أحدثوه من ( خلخلة ) وصعوبة في الوعي بمنجزاتهم، و عنده هو أيضا وجدت مثلها، لغة ( طقوسية )، لكأنها من تجليات وأحوال الدراويش، ولا أقول الصوفية، صحيح، أن لها منطقها الخاص، القاهر الطاغي، المربك والملغز أحيانا كثيرة، حد أن تدفع بحركة البناء المتخيل للحدث المحكي إلي آفاق أبعد وأشطح من تلك الدلالات والمضامين التي تسعي أن تثبتها، بل تكاد تطمس ( الرؤية ) لدي القارئ عوضا أن تجلوها، فتضيع مواضيعها، كالرياش في دوامة ريح عاتية، فلا يعرف لها مستقرا ولا أثرا! وخشيتي الشخصية هنا، فيما يخص شعر التلب، أن تنمو، وهي كما الطحالب تنمو، فتسيطر عليه هذه اللغة فتنحي بشعره بعيدا عن الخبرات الواقعية الحية، إلي مجالات وحقول تعبيرية مجردة تأتيه وتجعله فيها، لربما بذريعة نشدان التفرد والخصوصية. وأكثر ما يصيب الشعر في مقتل، هو الإمعان في الإغتراب والبعد الكلي عن الواقع. نورد أدناه مدخله لذلك النص، وهو مثبت في مدونته مطلع يناير 2009م، حتي نستطيع أن نري مدخله الذي دلف من خلاله لتسجيل خواطره وأفكاره حول أحداث ومشاهد الفيلم، وهي، من ذات رؤياه، بهذا القدر أو ذاك، التي في نصوص كتاب (طينيا):
كلٌّ في غرفته يمزّق الآخر.
الصدفة والنظام.
أغلب المعارف المكتسبة تأتي بالصدفة، يقولون. مقولةٌ أخرى: العالم متحرّك، بكل غموضه، إلى فَتْنِ الكائن البشري، وفي ذات الوقت، يضع أمامه كل المبررات التي تذهب بعقله باتجاه مملكة (الصدفة) الهانئة، حيث لا أسئلة حول المنبع، بل الاستمتاع بالماء المتدفق؛ الغرق الذي لا يتحمّل الكائن وجوده داخل الزمان. أعتقد، من هذه الزاوية، أن وجود النبع الغامض لكل لحظةٍ داخل الزمان، هو من أكبر الأسباب التي تجرفنا إلى الاعتقاد بصُدْفيَّته، قل، بعبثيّةٍ ما، تسلبنا الجمال والإحساس بالخلق.
هذه العبثية التي يرفضها كل شخصٍ عندما يتعلّق الأمر بالـ(نظام)، الاحتياج الجارف الأحمق للنظام؛ عندما يتعلّق الأمر بشيءٍ يوميٍّ كالذهاب إلى الحمام؛ تناوُل الوجبات المُقرّرة على البشريّ، لكننا نرحّب بالعبثية ما إن نلمس شيئاً خارقاً للعادة، ونحتمي بها من قوّتنا الكامنة، من خيالنا ومن قدرتنا على التصديق بأن (هنالك حياة أخرى)، ساريةٌ في أعصاب العالم، تمنحه هذا الوجه الغالي، المَغْلِيّ، وتلك الأحشاء الثائرة دائماً، مثلما نصدّق بوجود حممٍ أسفل الأرض عندما نراقب بركاناً، فلماذا لا نستطيع أن نرى هذه البراكين تشيع الفوضى في وجهٍ سعيدٍ ومستمتعٍ لآخر قطرةٍ بما اقتنصه لذاته من لذّة، سرقها وهرب، لن يلتفت وراءً، لن يخبر أحداً، إنه فعلٌ ينتمي، بكل تجلياته، إلى الطفولة.
كنتُ دائمَ التفكير في الحياة الأخرى، كيف تبدو تصوّرات الذين وصلوا إليها؟، ما النظرة التي يعودون بها إلى العالم كما نعرفه (جميعاً). (جميعاً) هذه تدفعني إلى تساؤلٍ آخر، هل لكلٍّ منهم نظرةً خاصة؛ زاوية خاصة يرى بها ذلك العالم، ومن ثَمّ تنعكس إلى عالمنا؟، أم لكلٍّ عالمه كما هي الحال هنا: آراء واختلافات في كل شيء، ولكنها مستورةٌ بالأفكار الجماعية، وهذه النقطة، على ما أعتقد، اجترارٌ لحديثٍ سابق.20.
جوهر، النص، الذي أنبنت عليه أفكاره، كما رأيتها، هي (الصدفة)، وقد بات من المعروف المثبت علميا، أنه لا توجد هنالك ( صدفة ) تأتينا من حيث لا نعلم فتجعلنا في واقعها، فالصدفة هي، دائما، إلتقاء لضرورتين تتشكل وفقا لهما، وإن كنا لا نعيها في لحظتها تلك. محمود أمين العالم، كان قد نشر كتابه المهم:( فلسفة المصادفة )، والكتاب عبارة عن رسالة نال العالم عنها درجة الماجستير في الفلسفة من جامعة القاهرة في يونيو 1935م. وهو بحث في الفلسفة العلمية يؤكد الأساس الموضوعي للمصادفة، ويحدد دلالاتها في الفيزياء الحديثة. يقول العالم في تقديمه للكتاب:
"بدأت هذا البحث غارقاً حتى أذنيَّ في الفكر المثالي، هادفاً الى اتخاذ المصادفة معولاً لتقويض الموضوعية العلمية، وهذا ما اعترفت به، فهو أنني خلال البحث، بل في مرحلة متقدمة منه، كنت أطل فيها على أواخر القرن التاسع عشر، التقيت بكتاب "المادية والنقد التجريبي" لمؤلفه فلاديمر ايلتش لينين الذي قادني بدوره الى كتاب "جدل الطبيعة" لمؤلفه فردريك إنغلز، وكان هذا حدثاً فكرياً في حياتي قلب تصوراتي الفلسفية رأساً على عقب، فأمسكت بالمعول نفسه ورحت أقوض به الفكر المثالي الذي كان يستغرقني تماماً. واقتضاني هذا سنوات أخرى أخذت فيها أنسج البحث منذ البداية على نول موضوعي جديد، بل رحت أحدد كذلك حياتي الفكرية عامة، وأبدأ مرحلة جديدة من الحياة".21.
والجوهري، في هذه الدراسة، تأكيدها ان المصادفة اليوم أساس تقوم عليه العلوم الحديثة وهي قانون أساس في الفيزياء خصوصاً. إلا أن المصادفة كمفهوم علمي كانت سبيلاً اتخذه كثير من العلماء والمفكرين ومحترفي الفلسفة، والأدباء والشعراء والفنانون في المجتمعات الرأسمالية لتقويض بنيان العلم والحد من قيمته الكوزمولوجية، ولإثبات مفهوم ذاتي مثالي للعلم، ولإهدار قيمته الموضوعية. وبهذا وجدوا طريقهم للعودة في قلب النظرية العلمية الى آلهـة قدامى، وإلي تهويمات تهدف، جميعها، إلي بـث روح القلق والتشكك لدى المؤمنين بعملية الواقع وعلمية الحياة. وهكذا، وإستنادا إلي هذه المعطيات، يمكننا رؤية التلب، الخارجة من رحم المصادفة، وعبرها تتشكل مشاهداته لما يراه في عوالمه وتصوراتها، بل يمكننا، كما أري، أن نفسر العديد مما في نصوصه، الشعرية والسردية معا، بل ونفكك عنها حجبها وغموضها.
هكذا إذن، عند هذا الحد أتوقف لأقول، مرحبا ( طينيا )، مرحبا مأمون التلب، ولنلتقيك غدا في شروق جديد ورؤيات مزهرات، في الشعر و في السرد.

----------------
هوامش:
1: رشيدة حبيب الله، والدة الشاعر التي رحلت عن عالمنا عند التاسعة من صباح6/12/2010م. وقد كان الشاعر، ولا يزال متعلقا بها، تأتيه برؤيات عديدة في اليقظة والمنام، وفي الشعر.
2: ( تنقيب الظلام )، عنوان صحفي ظل الشاعر يكتبه بصورة راتبة لسنوات عديدة في الصحف السودانية التي يعمل بها وفي النت.
3: عامر الديك، من قصيدته ( هوامش ومتون ). الدوحة العدد ( 126 ) أبريل 2018م
ص ( 120/121 ).
4: مقدمة كتاب ( طينيا )، كتبها في 2007م، ص ( 2 ).
5: قصيدة عن الشعر من ديوان مخطوط للشاعر صالح علي صالح بذات الأسم.
6: أنسي الحاج، من قصيدته ( الوليمة )، من ديوانه بنفس الأسم: دار رياض الريس
ط أولي لندن 1994م.
7: جبرا إبراهيم جبرا: ( النار والجوهر ) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 3/1982م
ص ( 178 ).
8: مأمون التلب، ( طينيا ) – سيرة النار – ص ( 5 ).
9: المصدر السابق.
10: المصدر السابق.
11: موريس بلانشو ( أسئلة الكتابة ). ترجمة نعيمة وعبد السلام بنعبد العالي/ دار تويقال للنشر
ط أولي 2004م- ص ( 10 ).
12: بول بولز ( يوميات طنجة- 1987/1989م )ترجمة إبراهيم الخطيب. كتاب الدوحة
مايو 2017م، ص ( 17 ).
13: سيوران ( 1911/1995م )فيلسوف وكاتب روماني.
14: إيميلي ديكنسون ( 10/12/1830 – 15/5/1886م ) شاعرة أمريكية تعد، مع والت ويتمان أهم الشعراء الأمريكيين في القرن التاسع عشر، كرست جل شعرها لموضوعة الموت.
15: قصيدة: ( من المشاهد – طينيا ) ص ( 20/21 ).
16: تشارلز سيميك( المسخ يعشق متاهته )، ترجمة وتقديم تحسين الخطيب – الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة 2015م، ص ( 36 ).
17: توني موريسون، حاورها المترجم المغربي محمد جليد – مجلة البحرين الثقافية، العدد(77)
يوليو 2014م ص ( 129 ).
18: مأمون التلب ( أفق الإنهيارات الجميلة - طينيا )، ص ( 20/21 ).
19: جبرا إبراهيم جبرا ( النار والجوهر )، ص ( 180 ).
20: مأمون التلب ( ضد الحياة – مدونة طينيا: http://teenia.blogspot.com/2009/01/1.htm
21: محمود أمين العالم ( فلسفة المصادفة ): الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2003م المقدمة.


h.gabir@yahoo.com

 

آراء