مدرسة لطفي الاقتصادية: ما بين الواقع الممزق والخيال الخير الجميل
الصدفة وحدها استفزت خيالي – وكأنني أتخيلنا أن ننشئ مدرسة اقتصادية تسمى مدرسة لطفي الاقتصادية. المكان مدينة ميونيخ وأنا مستلقيا أتابع عبر التلفزيون القومي حفل أقامه السودانيون الجنوبيون بمدينة رفاعة تكريما لعائلة لطفي. وقصة الاحتفال: احتضنت عائلة لطفي النازحين من التلاميذ الجنوبيين منذ بداية الثمانينيات، وفتحت رفاعة لهم بيوتها ومدارسها وأصبحوا من مواطني مدينة رفاعة حتى تخرجهم، ولاحقا أصبح لهؤلاء التلاميذ شأنا في البلاد – مثلا وزير الخارجية السابق السيد دينق ألور كان أحدهم. بل أعطي أهل رفاعة أحد التربويين السودانيين الجنوبيين مفتاح مدينة رفاعة وأهديت له قطعة أرض سكنية. جميل، ولكن كيف انبثقت فكرة مدرسة لطفي الاقتصادية في ذهني ولماذا؟
وبالمصادفة البحتة، أثناء مشاهدتي الحفل كان عقلي مشغولا ومستفزا لنهايته القصوى إلى درجة الغليان بما يسمى مدرسة لندن الاقتصادية London School of Economics واختصارها LSE. ولهذه المدرسة البريطانية سر باتع سنفرده في الفقرات اللاحقة. عموما، الصدفة لا تأتي إلا لمن يستحقها، أو هو من حسن الطالع وحده أن يكون الحرف الأول من أسم لطفي نفسه الذي تبدأ به كلمة لندن، فألهمني الله أن نقبل التحدي – لم لا يكون لدينا أيضا LSE أي Lutfi School of Economics.
ولكي تفهم ماذا تعني مدرسة لندن الاقتصادية، لا تحتاج إلى زيارتها، ولا تحتاج كأن تتحرك فيك عقدة مركب النقص فتتخيل أن هذه المدرسة وحيدة عصرها، أو أنها هي التي اخترعت علم الاقتصاد – وفي الذهن أسطورة جامعة هارفارد التي أسسها ويمتلكها جي. بي. مورجان. ببساطة شديدة، ما عليك إلا أن تتبع خريجي مدرسة لندن الاقتصادية وأي المناصب الدولية يحتلون فتفهم على الفور أنها مطبخ كبير. يحضرني فقط على الخاطر ثلاثة أسماء مرت بهذه المدرسة مثلا سوزان رايس - إياها، وبول فولكر رئيس جهاز الاحتياطي الفيدرالي لأربعة عشرة عاما – أعتقد تقلد الرئاسة بداية التسعينيات. وأذكر أيضا إسحق ديوان...هل تذكرونه؟ الموظف الإقليمي للبنك الدولي في القرن الأفريقي، أمريكي- لبناني الأصل. والقائمة طويلة.
ما العيب في مدرسة لندن الاقتصادية؟ في الحق لم نكذب أو لم نتعدى الحقيقة إذا وصفنا مدرسة لندن الاقتصادية بالمطبخ. المطبخ عادة هو المكان الذي تعد فيها الطبخات - أي التحكم في مكونات وكمية ومذاق الطبخة. كذلك مدرسة لندن الاقتصادية هي التي تطبخ الإيديولوجية الاقتصادية الغربية، بل الدولية – مركزها لندن، وهي التي أي لندن ترسم كنتور الاقتصاد المالي الدولي بآلية الدولار وجهاز الاحتياطي الفيدرالي – بالريموت كنترول. ولعل القارئ قد يمج عباراتنا السابقة، وربما يتساءل مستنكرا هل الدولار أمريكي أم بريطاني؟
هنالك شكوك لوقائع تاريخية ليست بدون أساس أن عملة الدولار هي في نهاية المطاف عملة بريطانية بالوكالة. وعلى ضوء هذه الوقائع تم تسمية أصحاب المال من ملاك البنوك النيويوركية الدينصورية (بنوك نيويورك اليهودية) بالمجموع وصلة لندن –London Connection - وهؤلاء "وصلة لندن" هم من يمتلك "الأصول المالية والعينية" لجهاز الاحتياطي الفيدرالي، لأن هذا الأخير قطاع خاص ولا تمتلكه لا الحكومة الأمريكية ولا الشعب الأمريكي.
هنالك بينة أخرى ذات دلالة تعزز افتراضية أن لندن تمتلك الدولار بالوكالة، وهي رفض لندن دخول الوحدة النقدية الأوروبية – اليورو. بل قاومت لندن فكرة نشوء عملة اليورو للوجود!! ولقد تعللت لندن لاحقا بعد ظهور عملة اليورو للوجود 2002م وقيام الوحدة النقدية الأوروبية أن "المملكة المتحدة قد تفقد سيادتها لو ألغت عملة الإسترليني وانضمت لليورو!!".
ولعلنا نقف قليلا عند العبارات السابقة التي تتعلق بالمطبخ والطبخات الاقتصادية، وربما يعتقد بعض أو جل القراء أننا ننجر خلف عقدة نفسية تسمى نظرية المؤامرة. نطمئن الجميع كلا ونؤكد التالي: فضلا عن كون الصفقات التجارية والاقتصادية الكبيرة أو بالأحرى الكبرى لا تتم عادة إلا بطبخات، يجهل العالم الثالث تماما تفاصيل تاريخ تطور الاقتصاد الغربي، وفترة تحوله دوليا من "اقتصاد الإمبراطورية" إلى ما يسمى "بنظام النقد الدولي" المعاصر.
وللتأكيد على الجهل المطلق لشعوب العالم الثالث لن تجد في السودان مثلا أي كتاب غربي تم طبعه في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات، ولا حتى في الخمسينيات والستينيات، ولا حتى في السبعينيات.. مصيرها كلها إما الزبالة أو الحرق!! يعتقد الكثير من الباحثين بشكل خاطئ أن الكتب الغربية القديمة مثلا في السياسة والاجتماع والاقتصاد تفقد قيمتها، وهذا مدعاة للسخرية. يستحضرني في هذه اللحظة الإتحاد السوفيتي القديم وحرب واشنطون الباردة ضده، أخالها اليوم حربا بين المكتبات منذ بدء الثورة البلشفية 1917م، ما أن يطبع كتاب هام في أمريكا وإلا تذهب نسخة منه بخفية للمتخصصين السوفيت في الشأن الأمريكي!! معنى ذلك أن المكتبة الوطنية في روسيا الاتحادية تحوي بلا جدال ثروة لا تقدر بثمن. اليوم تدور معركة صامتة بجامعة الرباط الوطني حول فكرة تأسيس كلية قائمة بذاتها للمكتبات والتوثيق ، هنالك مؤيد ومعارض للفكرة. المعارضون لفكرة هذه الكلية من الأساتذة لا يدركون أهمية هذه الكلية على المستوى الآني والإستراتيجي، ومع ذلك تضج منهم الكثير من المواقع في سياق علم الاستراتيجيات والأمن القومي السوداني.
بدراسة الكتب القديمة فقط ، وفقط القديمة بشكل هادف يمكن للباحث الحقيقي بعد نصف قرن أن يلم بصيرورة تطور "النظام النقدي الدولي" في القرن الماضي من عقدية لأخرى. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كل الاقتصاديين السودانيين يجهلون كيف توصل العبقري البريطاني جون ماينارد كينيز إلى "نظريته العامة" في الاقتصاد!! وفي الحق "كيف" هذه من الخفايا..لم يشر كينيز بكيف لحساسية موضوع النقد الدولي. ولكنني توصلت لهذه الكيف عبر دراستي لتاريخ الدولار وفهمت استقراءا كيف وصل كينيز لنظريته العامة تلك – هذه إضافة حقيقية وصلت إليها بجهدي الشخصي، ولم أقرأها من أحد .
وعلى ما سبق ذكره من دفاعات نقترب خطوة نحو فهم ماذا يعني المطبخ وماذا تعني الطبخة الاقتصادية إذا فهمنا في العمق أن بريطانيا التي استعمرت العالم يوما ما تفهم جيدا ما تجلبه العملة الدولية لطابعها من فوائد – ببساطة متناهية تطبع ورقة بيضاء تسميها بنكنوتا وتتحصل مقابلها على الثروات الدولية الحقيقية!! ومع مطلع القرن العشرين في 23 ديسمبر 1913م ، دقت بريطانيا "المسمار" في صلب الشعب الأمريكي بواسطة عملائها الدوليين – أي واجهات روتشيلد الماليين النيويوركيين – ما يسمى وصلة لندن. وهكذا رغم دعاوى استقلال أمريكا السياسي عن بريطانيا في 4 يوليو 1776م لكن الشعب الأمريكي قطعا لم يستقل اقتصاديا، فالدولار تملكه العائلة البريطانية ولورداتها اللندنيين by proxy أي بالوكالة.
أين موقع مدرسة لطفي الاقتصادية Lutfi School of Economics (LSE) من الإعراب؟ أن تكون نقيضا لمدرسة لندن الاقتصادية ومقابلا موضوعيا لها – بدلا من الأيديولوجية الغربية الاقتصادية التي تقوم على خدعة التصدير في اتجاه واحد، على هذه المدرسة أن تستنبط فلسفة ومبادئ اقتصادية تحفظ للشعوب حقوقها. على الأفراد الموهوبين، ونعني السودانيين الجنوبيين تلاميذ لطفي الأوفياء الذين درسوا الاقتصاد - ومثلهم من السودانيين الشماليين، أن يؤسسوا هذه المدرسة . يجب أن تتميز هذه المدرسة باحترافية علمية في مجال البحث العلمي الاقتصادي ولا تنساق خلف الأيديولوجية الاقتصادية السائدة. وأن تكون كلية أهلية بحق، تتبرع برأسمالها الرأسمالية الوطنية السودانية، وأن تكون مستقلة عن أجهزة وزارات الدولة، وأن تتعالى على التلون السياسي الحزبي بكل صوره – وبشكل خاص منع اختراق منتسبي المؤتمر الوطني لها .
يمكن لمدرسة لطفي الاقتصادية أن تتدرج في نشاطها الأكاديمي والبحثي الميداني فتركز أولا على العمل على تقوية السوق الوطني السوداني بتقوية الطلب الداخلي، والانحياز للجنيه السوداني والتخلي عن الدولار واليورو، وربط السوق الوطني بدول القرن الأفريقي أو الجيران التسعة بالجنيه السوداني – بعد ذلك يمكنها توسيع دائرة نشاطها التخصصي.
بما أن البشر عبيد للعادة – وقد اعتادوا نفسيا التعامل مع الدولار وكأنه جزء من النظام الكوني، ستصطدم مدرسة لطفي الاقتصادية داخليا بالاقتصاديين التقليديين غير الموهوبين وخارجيا بدول الخليج، وربما تدعم دول الخليج هؤلاء التقليديين لدحض هذه المدرسة الوليدة إن لم نقل لتدميرها – ارتباط دول الخليج بالدولار ودعمه هو من المسلمات الفقهية.
خلال الفترة الانتقالية فشل المؤتمر الوطني كأن يحشد الشعب السوداني قاطبة خلف مثال حيوي يندفع به نحو آفاق التنمية، وهو: السودان بإمكانه أن يكون دولة كبرى في محيطه الجغرافي السياسي. بدلا من هذا الشعار "دولة كبري" أستبطن المؤتمر الوطني الانفصال وترك الساحة للمغامرين وغير الموهوبين يعبثون بمقدرات البلاد، فأحبط الناس وأنثلمت المواطنة بأكثر من جرح يصعب علاجه؛ وحلق بعض منتسبيه انطلاقا من عقدهم النفسية يتغزلون بعروبة مشكوك فيها وبدرر بن تيمية؛ ولا أدري متى دخل العباسيون السودان؟ كتب التاريخ المعتبرة لا تذكر شيئا من ذلك البتة. تسجل كتب التاريخ أن الأمويين هم الذين هربوا عند سقوط دولتهم 132هـ نحو السودان عندما فتك بهم العباسيون ونبشوا حتى قبورهم. ولقد هرب أخر أثنين من أمراء بني أمية إلى السودان وهما أبناء مروان الحمار، وقتل أحدهم عبد الله بن مروان على يدي قبيلة البجة، بينما رجع الثاني للعراق بعد أن أعطاه المنصور الدوانيقي الأمان، ولكنه غدره وقتله في السجن. فإذا هرب ملوك بني أمية للسودان فسواد جمهور بني أمية وعوامهم أيضا هربوا، ولكنه حفظ النفس من الملاحقة والقتل فرض عليهم التقية والإدعاء بأنهم عباسيون .
هل ننجح في إنشاء مدرسة لطفي الاقتصادية أم نظل عبيدا للعادة؟ أم حلم تقتله البلادة؟
شوقي إبراهيم عثمان
كاتب ومحلل سياسي
shawgio@hotmail.com
حاشية: