(كلام عابر)
في صباح يوم الأحد أواخر أكتوبر 1979 هبط الفريق القومي السوداني لكرة القدم في مطار جومو كينياتا في العاصمة نيروبي للمشاركة في بطولة كرة القدم لدول شرق ووسط أفريقيا (سيكافا). كان مظهر الفريق شديد البؤس لا يجمعهم زي موحد أو حتى لبس يليق بالمناسبة، وكان بعضهم ينتعلون الشباشب. كان بؤس التنظيم يماثل بؤس المظهر فقد فات على الجهة أو الجهات المعنية في السودان لسبب أو لآخر إخطار الكينيين مستضيفي البطولة بتاريخ الوصول لنيروبي وبالتالي لم يكن في استقبالهم أي مسؤول كيني واحد لا سيما وان الأحد هو يوم العطلة الأسبوعية في كينيا. تم تجاوز هذا الامر ورتبت الأمور وانتقل الفريق برا لمدينة مومباسا الساحلية. كانت مجموعة السودان تضم فريقين هما ملاوي وزنجبار في حين أن المجموعة الثانية في نيروبي ضمت كينيا ويوغندا وتنزانيا وملاوي.
جاء الأستاذ هاشم ضيف الله متطوعا بتدريب الفريق في غياب المدرب أو المدربين. ضم الوفد كذلك مذيعا لإذاعة المباراة على الهواء مباشرة ولكن اتضح فيما بعد عدم وجود التجهيز الفني اللازم في ملعب مومباسا لإذاعة المباراة. تهامس بعضهم أن المذيع وآخرون كانوا يعلمون بعدم امكانية نقل المباراة قبل سفر البعثة من الخرطوم ولكن المذيع جاء لغرض السياحة. استضيفت البعثة السودانية في فندق مومباسا بيتش المطل على المحيط الهندي وهو من أفخم الفنادق فئة الخمس نجوم. جئت لمومباسا وأقمت في نفس الفندق لأني منحت تخفيضا قدره 50% بحكم عملي آنذاك في حقل السياحة. كانت الأمور فيما يبدو هادئة وأجواء الوئام والألفة تسود أفراد الفريق لا سيما وأن فرص الفريق لبلوغ الدور الثاني كبيرة أو مضمونة لأن المجموعة تضم ثلاثة فرق يصعد منها فريقان للدور نصف النهائي وأحد الفرق ضعيف وخارج المنافسة تقريبا وهو فريق زنجبار.
جاء يوم المباراة. اختار الاستاذ هاشم ضيف الله لاعبا بعينه ليكون كابتنا للفريق.احتج اللاعب الأقدم منه على هذا الإختيار لأن العرف قد جرى على أن يحمل أقدم لاعب في الفريق شارة الكابتن. كانت للاستاذ هاشم اعتباراته لتلك المفاضلة فقد كان اللاعب الذي اختاره لحمل شارة الكابتن يحسن اللغة الإنجليزية بصورة تمكنه من التواصل مع طاقم التحكيم والمشرفين على الملعب فضلا عن أن الأستاذ كان يعتقد ان هذا اللاعب اكثر انضباطا. غضب اللاعب الذي تخطاه الإختيار من هذا التجاوز وأعلن عدم استعداده لأداء المباراة والتي كانت أمام زنجبار وسانده في ذلك عدد كبير من اللاعبين.. تكهرب الموقف ولم يتبق على بدء المباراة إلا ساعات قليلة. حاول بعض العاملين في السفارة السودانية الذين جاءوا من نيروبي لمشاهدة المباراة، حاولوا احتواء الموقف.لا أدري ما الذي جعلهم يتوهمون أن لي علاقة شخصية خاصة تربطني بالأستاذ هاشم ضيف الله رغم فارق المقام. طلبوا إلي أن أتوسط لدى الاستاذ ليعدل عن خياره ويسند الكابتنية لأقدم اللاعبين حتى يعود الصفاء من جديد للفريق. قالوا لي إن هاشم ضيف الله أستاذي في حنتوب وسيستجيب لي لا محالة.قلت لهم إن أول مرة في حياتي أجلس أمام الاستاذ هاشم وأتبادل معه الحديث كانت في مطار نيروبي وفي هذا الفندق.اذهبوا أنتم إن شئتم أما أنا فلا لأني أعرف الإجابة سلفا. سيقول لكم إن الإنضباط والأخلاق أهم من الفوز والهزيمة. سيقول لكم أيضا أنه سيخوض المباراة بما يتوفر له من لاعبين وإذا لم يكتمل العدد سينسحب من المنافسة. اعتذرت لهم رغم كل ما كان بيننا من ود.
بعد نحو نصف ساعة عادوا ليسألوني بلهجة لا تخلو من الغضب:لماذا لم تقل لنا أنك فاتحت الأستاذ هاشم من قبل؟ لماذا لم تخبرنا برده حتى نتفادى الحرج؟ قلت لهم أني لم أتحدث إليه إطلاقا في هذا الأمر وما ينبغي لي. علمت منهم أن رد الأستاذ هاشم ضيف الله كان تماما كما توقعت. أكدت لهم لما رأيت علامات الشك جلية في أعينهم أني لا أعلم الغيب بكل تأكيد لكني أعلم جيدا قواعد مدرسة هاشم ضيف الله الأخلاقية.وفي النهاية جرت الأمور كما أراد أستاذنا وأدى الفريق المباراة.
أستدعي هذه الواقعة وأنا أتابع من حين لآخر ما يحدث من تآكل للقيم في وسطنا الرياضي فنسمع جعجعة ولا نرى طحنا. رحمة الله ورضوانه على أستاذنا هاشم ضيف الله مربي الأجيال وحارس القيم.
(عبدالله علقم)
abdullahi.algam@gmail.com