مذكرات ابراهيم منعم منصور: أو كما يجب أن تكتب المذكرات
-1-
لعلي اصدم القارئ أو أظلمه إذ قلت له أن المذكرات المقصودة والصادرة في اكتوبر الماضي 2017 تقع في مجلد واحد به أكثر من الف صفحة. علي وجه الدقة (1178 صفحة) لكن الوضوح أحسن. الاستاذ ابراهيم منعم منصور او "الناظر" كما يناديه محبوه إقتصادي معروف ورجل دولة ووزير مالية مرتين في العهد المايوي (استقال من الوزارة في المرة الاولي 1975عندما ضاقت عليه حلقات التآمر بعلم الرئيس إذ كتب له قائلا "الان وقد بلغ التآمر في تقديري مرتبة تهدد سلامة الوطن، وما حدث ليس هو الاول ولن يكون الاخير وسيادتكم علي علم بما سبق، ولكي اشارك واقوم بالمسئولية التي اوكلت لي يلزمني التفرغ لدفع التآمر أو أن ابتعد. وعليه آثرت الاخير" ص 580) ، وفوق ذلك إتضح أنه كاتب مذكرات من نوع فريد. هذا ليس إطراءا ، لكن الكتاب يحتوي علي كل عجيب، ليس النشأة والتعليم والمواقع التي تقلدها صاحبها وانجازاته كما هي العادة (والاخيرة قلَّل الكاتب كثيرا من ذكرها)، لكن أيضا أيضا منوَّعات اسماها الكاتب "استراحات" عن الغيبيات والخوارق التي شهدها بنفسه او التي سمعها من أصحابها انفسهم و آراء في تطبيقات "الشريعة" مدعومة بقراءات وشواهد، وشخصيات تركوا بصماتهم في حياته، وربما الاهم من كل ذلك تضمينه لحكاوي عن الفرص السياسية والاقتصادية التي ضاعت علي السودان "بفضل" غباء السياسيين أو مكايداتهم ، أوالافندية وقلة محصولهم من الاجتهاد وربما الوطنية.
الكتاب كبير الحجم كما هو واضح وذكًّرني بقول صديق تركي تزاملنا في فصل الماجستير في المملكة المتحدة. قال عندما تمَّ قبولهم في الجامعة و"صرفوا" لهم كتاب الفيزياء ، وكان كتاب ضخما وليس مثل الكتب في المرحلة الثانوية، قال تصفَّحه صديق اخر وقال له " إيس إيس صورة واحدة ما فيهو". ربما كانت المذكرات كذلك إذا كان قياسك بالحجم أما إذا كان بالمتعة فالامر مختلف مهما طال بك الزمن لإكمال قراءتها. وهذا ليس مبالغة. فابراهيم منعم "حكًّاي" بدرجة حبَّوبة .الحقيقة الكتاب ، رغم حجمه ، ربما تنطبق عليه أوصاف بعض أغاني البنات "زوق ورِّقًّة وظرافة" – "زوق" سودانية وليس بالذال.وعلي كل فإن الكتاب الذي يبقي حيا في الاذهان وفي السوق له خواص يحب ان يراعيها الكاتب وهي مقدرات كتابية لاتتوفر لكل الناس. لكن –بصراحة- الاسمتاع بقراءة المذكرات (لانها سياحة في التاريخ السياسي والاقتصاي الحديث للسودان) قد يعتمد علي الجيل ورغبة القارئ في معرفة بعض تأريخ السودان الحديث وأسباب ما نحن فيه أو عليه ولماذا نحن في أسفل "الحفرة". وذلك لأن كثيرين أسهموا فيما نحن فيه ، سياسيين وأفندية-كما أسلفت- رغم أن الجماعة ديل "فاتو الكبار والقدرهم بسنوات ضوئية".
من حسنات المذكرات الكبري ، وهي كثيرة، أن الكاتب يذكر أسماء المشاركين أو المتسببين في أي حدث أو حادثة يتم ذكرها. يذكر ذلك حتي في اقل الأحداث أهمية والتي قد تكون حدثت منذ عقود ، وهو شئ لم يتوفرفي أغلب ماوقع في يدي من مذكرات،علي الاقل ليس بهذه الكثافة. هل كان الكاتب يحتفظ بنوتة مذكرات؟ لا أدري لكنه يقول إذا جلست للكتابة تحركني ذاكرة لا تتوقف إذا بدأت ، وهي تسعدني شخصيا بتذكر مواقف مختلفة، وتجعلني استرسل في تفاصيل تنقلني من عام إلي أخر ومن عقد الي آخر. علي كل متعه الله الناظر بالصحة والعافية وادام عليه نعمة احتفاظة بذاكرة حديدية ما شاء الله.
يقول الكاتب أن النائب الاول السابق علي عثما محمد طه ساهم مشكورا (عن غير قصد منه) في فكرة كتابة المذكرات. السبب أن الاستاذ ابراهيم كان مفوض مفوضية توزيع الايرادات بعد اتفاقيات السلام 2005 مع الحركة الشعبية واتفاقية أبوجا مع حركات دارفور في 2006 . وهو يقول عن ذلك أنه أخطأ خطأ كبيرا بقبوله المنصب الذي اعتقد (واهما) انه منصب قومي وأقيل منه بعد ذلك بعد أن ضاقت به الحكومة ومتنفذيها. سأله يوما علي عثمان " إنت بتكتب ليه ، نحن لينا 15 سنة دولة الحزب الواحد لا نكتب إلا القرارت. يعني عاوز بعدين تنشر مذكراتك؟". يقول ، المهم في الامر أن ذلك الحديث شحذ همتي لكي أكتب مذكراتي ويستحق السيد علي عثمان الشكر (من حيث لم يقصد).
-2-
ولد الاستاذ ابراهيم منعم منصور في قرية "صقع الجمل" ب"دار حَمَر" (بفتح الحاء والميم) بكردفان في أوائل أو منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي لأب هو ناظر عموم قبيلة حمر. وفقد والدته وهو صغير بضربة "صاعقة" وهو وأخته يجلسان بجانبها داخل "القطية" ذات خريف ربما لا يمكن نسيانه ولانسيان تلك اللحظة رغم صغره. هرع هو وأخته الي خالته في "القطية" المجاورة ليخبراها وهما لايدريان ماذا حدث لأمهما بالضبط. دارت السنين وأصبح ذلك الطفل بفضل التعليم في موقع في القطاع الخاص (نائب رئيس مجلس الادارة ومدير مصنع النسيج السوداني (الأكبر في السودان) والمسئول المباشر عن جميع شركات الدكتور خليل عثمان في السودان)، و يدرعليه الموقع دخلا هو الاكبر لمن هم في جيله والأكبر منه (ويبني كم الف قطية) ، ثم وزيرا للاقتصاد والتجارة ووزيرا مرة ثانية في العهد المايوي "ثورة مايو" ، من بين مواقع اخري كثيرة.
كان تعليمه العالي قصة اصرار ووعي مبكر وقرار فردي (ضد رغبة والده الناظر منعم منصور والمفتش البريطاني) مع بعض الحظ أو الكثير منه. في اجازة نص السنة النهائية وهو في النهود بعث اليه المفتش (ماكوماس) وسأله عن رغبته اذا نجح في امتحان الشهادة الثانوية (وكان حينها في حنتوب الثانوية في السنة النهائية) فكانت اجابته دراسة الطب. وهنا فاجأه الخواجة (لا. تدخل كلية البوليس). وعندما انفعل ابراهيم وأجاب بأنه هو الذي يختار ما يدرس ، قال المفتش "نحن الذين نختار لك ما تدرسه ، فأنت ابننا إبن الشيخ منعم منصور". انتهت الاجازة وعندما همَّ بالعودة لحنتوب رفض والده لأنه خالف كلام المفتش، فجلس للامتحان من منازلهم واحرز الدرجة الاولي وذهب ، مغاضبا (لم يقل هو ذلك)، الي الخرطوم.
في وقت لاحق من السنة حانت فرصة للذهاب الي مصر لدراسة الطب ، وفي المحطة الوسطي قابل بالصدفة خواجة آخر هو استاذه في حنتوب الثانوية المستر جونز، وعندما اخبره بأنه ذاهب الي مصر لدراسة الطب قال له الاستاذ جونز "مالك ومال الطب ادرس اقتصاد. سوف تحدث تغييرات كثيرة في المستقبل ومستقبل السودان يتطلب أن يتجه الطلبة المبرِّزون الي العلوم الانسانية لا الطب ، وكمثال ذكر حسن الترابي الذي قرر دراسة القانون لا الطب والهندسة. واضاف إن الاقتصاد هو الذي يحرك البلاد أما الاطباء والمهندسون فيمكن استئجارهم من أي مكان". فسأل ابراهيم الاستاذ: ما هو الاقتصاد؟ أتخذ قراره و لم يخبر أحدا بميعاد مغادرته الي مصر الا "أهل منزلته" في امدرمان . ذهب ودرس الاقتصاد في جامعة الاسكندرية واصبح ابراهيم منعم الاقتصادي المشهور ورجل الدولة الذي نعرف.
-3-
الغرض من هذا العرض هو شحذ همة القراء للاطلاع علي الكتاب لأنه في رأي ممتع ويستحق القراءة، وبالتالي فهو ليس عرضا اكاديميا ناقدا ومقيِّما.ولذلك سأورد بعض الامثلة مما جاء في المذكرات علها تفي بالغرض. في رأي كان ابراهيم منعم محظوظا إذ هيأ الله له منذ بداية التحاقه بالعمل اناسا قال عنهم "كلما قابلني موقف في حياتي العملية اتذكر العمالقة الذي اكرمني الله بالعمل تحت امرتهم او قريبا منهم" حماد توفيق، ابراهيم عثمان اسحق، مكاوي مصطفي، داوؤد عبداللطيف، خليل عثمان، خليفة عباس العبيد ومحمد عثمان يس. قال له محمد عثمان يس -وكيل الخارجية وقتها- وكان ابراهيم عضوا معه في لجنة برئاسة قال له " عندما توكل اليك مسئولية قيادة عمل أو اي مفاوضات متشعبة في اجهزتها يجب أن تدخل نفسك المدرسة من جديد تتعلم عن كل الموضوعات التي تقع تحت مظلة تفويضك. لا تقبل اعذار الافندية واعتراضاتهم (دون تمحيص دقيق)." وكان درسا تذكره عدة مرات عندما كان وزيرا كما قال. بالعربي الفصيح استعد وقم بالتحضير للمهمة بصورة جيدة.
عن سياسي ما بعد الاستقلال والديمقراطية الثانية وبعض قادة الخدمة المدنية وقادة الجيش ":
حماد توفيق: كان لا "يلخبت" الكيمان ، الاسرة والحزب مقابلاتهم تتم في اماكنهم وليس الوزارة. في مرة سمع ابراهيم منعم ، والذي كان سكرتير وزيرالتجارة حينها-وهي أول وظيفة يتقلدها بعد تخرجه- سمع صياحا وهرجا في الصباح الباكر، وكان السبب أن وزير التجارة حماد عند وصوله الوزارة متأخرا-علي غير العادة- لمح اخاه عثمان توفيق يهم بدخول وزارة التجارة فكان ذلك سبب الصياح من قبل الوزير لأنه كان قد طلب من اخيه عدم زيارة الوزارة مادام هو وزيرا حتي لا تؤدي مقابلته لموظف الي مجاملته و أن عليه ارسال طلباته بالبريد. كان ذلك في الأعصر البائدة ثم جاء زمان تسمع فيه بتعيين الوزراء والوزيرات للابناء والبنات والاخوة والاخوات ليس في وزارارتهم فقط وإنما في مكاتبهم شخصيا، وأيضا صحبتهم معهم حتي إذا كانوا في مؤسسات أخري ذات علاقة ضعيييييفة، في الوفود الرسمية وبالمخصصات الدولارية.
وكذلك ابراهيم المفتي الذي لم يتدخل عندما رفض مدير الوزارة ابراهيم عثمان اسحق تمرير استيراد سلعة (خيش) لصهره أمين علوب، ولم تتأثر علاقة الوزير مع مدير الوازارة. لكن شيخ علي عبدالرحمن الامين لم يكن مثلهما، إذ قام بالتصديق لتاجر شهير بامدرمان باستيراد سلعة مرغوبة خارج الحصة المستحقة له كمستورد و رفض ابراهيم عثمان اسحق مدير الوزارة تنفيذ القرار وطلب إحالته للمعاش. و حفاظا علي حفظ ماء وجه الوزير تم نقل اسحق من الوزارة.
اللواء الخواض محمد احمد كان عضوا بمجلس ثورة 17 نوفمبر 1958 ولكن بعد فترة طلب اعفاءه من المجلس لانه يعتقد " أن الجيش يجب ألا يتدخل في العمل السياسي ، وأنه أنشئ ليحمي حدود الوطن لا ليحكم المواطنين. " الان من يقنع الاخوة العسكريين؟ .
عند انقلاب عبود 17 نوفمبر 1958 طلب حمزة ميرغني حمزة وكيل المالية الاحالة للمعاش لانه لم يقبل ترقية بعض إعضاء مجلس قيادة الثورة إلي رتبة لواء ليصبح عدد لواءات الجيش عشرة. فقيل وقتها أن الرئيس ابراهيم عبود اتصل بالسيد ميرغني حمزة والد الوكيل والقطب الاتحادي الكبير، وطلب منه أن يشرح الموقف "لابننا حمزة لأن وجودنا بهذه الرتب يقفل باب الترقي أمام ضباط مستحقين" . ولكن حمزة لم يقبل وترك الوزارة. قال عشرة قال. الان في السلاح الطبي وحده نحو 105 لواء كما قيل . وما تقول لي لأنو عدد الجيش زاد.
اللواء احمد عبد الوهاب المعروف بقوة شخصيته ، عندما ترك (اوأقيل) من المجلس الاعلي لقيادة "ثورة 17 نوفمبر" بقيادة الفريق عبود ، اتصل به بعض اصدقائه و أخبروه ان الامبراطور هيلاسلاسي/اثيوبيا يريد إعادة صياغة جيشه ويريد تدريبه ويريده شخصيا مستشارا وقائد تدريب للجيش الاثيوبي بمرتب عال. رفض اللواء احمد عبد الوهاب العرض مباشرة و بحزم وذلك لأن اثيوبيا دولة جارة وجميع دول جوارها الاخري مستعمرات بريطانية وفرنسية. واذن فإن جيشها سوف لن يحارب هذه القوي الكبري بل سيحارب الدولة الوحيدة الاضعف والمستقلة ولديها مشاكل حدود معها وهي السودان فكيف يكون مستشارا لجيشها. ودرس العصر هو هل يأخذ الاخوة العسكريون القدوة والبصيرة النافذه ويرفعون حب الوطن راية.
الشريف حسين الهندي: كان سياسيا بارعا (علي طريقته واسبقيات حزبه في الحفر لمنافسيه). عندما قابل في جده زميله السابق في الحزب الوطني الاتحادي والوزير في مايو لاحقا موسي المبارك ( وكان مع ابراهيم منعم في زيارة رسمية للسعودية) و تبادلا اللوم و الاتهامات قال لموسي "وكمان تسرقون انجازات الحزب بل انجازي شخصيا. ما لثورة مايو والاصلاح الزراعي. هذا عملي ، أنا اردت به تحطيم حزب الامة (كانت دائرة المهدي واخرون من حزب الامة أكبر مستثمر في القطاع الزراعي المروي حينها) فكان اصراري علي عدم تجديد رخصة المشاريع الزراعية التي انتهت مدة ترخيصها لتتسلمها الدولة والغاء الرخص الاخري حتي قبل مواعيدها. ولاقناع الصادق المهدي كان لابد من ادخال شعار برَّاق وهو قيام جمعيات تعاونية للمزارعين .علي اثر ذلك سارع الصادق بتبني المشروع وبشَّر به وهوالذي كان سينهي سيطرة حزب الامة علي القطاع الزراعي وتحرير المزارعين (من تلك السيطرة)" .للاسف حتي الان كثير من القرارات الحكومية-حتي الحكيمة منها- ربما وراءها حكمة (أو مصلحة لا نعلمها).
النفوذ الامريكي علي قرارات صندق النقد الدولي: في حوالي عام 1968 ادخل الشريف حسين وكان وزيرا للمالية بند العطالة وادرج تحته جميع الخريجين الذين لم يجدوا عملا في مكاتب الدولة أوغيرها. وتمت مهاجمة القرار بأن ذلك تبديد للمال العام والافضل منه استخدام الاموال في مشاريع تستوعب الخريجين. يقول الكاتب كان الشريف يريد عن طريق ادخال بند العطالة جلب المثقفين العاطلين الي حظيرة حزبه (الوطني الاتحادي) وابعادهم عن النفوذ اليساري ، كما كان يريد كسب ود الامريكان لدعم حزبه. المهم جاءت بعثة من صندوق النقد الدولي (من يومها كان معانا) واعترضت البعثة علي بند العطالة وطالبت بالغائه وتسريح المستفيدين منه وكذلك الغاء مشروع زيادة الاجور المتوقعة والمعروف بمشروع "الكادر". اختلف الشريف مع بعثة الصندوق وطلب موعدا مع مدير الصندوق في واشنطن.
وقبل سفره الي واشنطون حددت له السفارة الامريكية بالسودان موعدا مع وزير الخارجية الامريكي (دين رسك). يقول الاستاذ ابراهيم ان حسب الرسول عرابي مساعد وكيل المالية وعضو الوفد والمقرب من الشريف حكي له أن الشريف عندما قابل دين رسك عاتبه لأنهم (الامريكان) يطلقون يد موظفي الصندوق الذين يتعاملون مع الارقام ويتجاهلون البشر وظروف الدول الصديقة سياسيا (لامريكا). واضاف بأن الحزب الشيوعي السوداني من أكثر الأحزب الشيوعية في الشرق الاوسط تنظيما ويقود الحركات العمالية والطلابية والمثقفين . وإن موظفي الصندوق لا يراعون حماية العالم الحر ولم يفهمو مقاصده (الشريف) واصروا علي برنامجهم وطالبوا بفصل عمالة متعلمة وتسليمها جاهزة للحزب الشيوعي.(حنك شديد مش). يقول الكاتب إتصل دين رسك (طوالي) بمدير الصندوق وأخبره أن معه وزير المالية السوداني وأنه تفهَّم أوضاع بلاده وبرنامجه وأنه يري "أن يعطي ما طلب". ويتابع الكاتب أن الشريف ذهب بعدها لمقابلة مدير الصندوق وطلب بدل الخمسة مليون دولار التي كانت الطلب الاصلي عشرة مليون، فاتصل مدير الصندوق برئيس القسم الذي يتبع له السودان واصدر تعليماته بالمبلغ فورا. كانت احدي نتائج (حنك الشريف) أن استقال رئيس القسم الايراني الجنسية المستر زادة . ويضيف أن الواقعة أكدها له المستر موكيرجي مدير الصندوف بالانابة عندما كان ابراهيم منعم وزيرا للمالية لاحقا. كسب الشريف المعركة مع الصندوق وتأكد من تنفيذ وعده بزيادة المرتبات ويقال أنه قال بعد ذلك " وحات ابوي كاروشة ما تاكلني" . وكان قوله ردا علي ما جاء في كاريكاتير لعزالدين الذي كانت تنشر رسوماته علي الصفحة الاولي من الصحيفة لشعبيتها الواسعة وتعليقاتها الذكية علي الوضع السياسي. والكاريكاتير المقصود يصِّور "قعدة" روادها يتمايلون طربا مع راقصة تتمايل وتغني " كان عندكم "كادر" أصرفو أدونا ، ما عندكم "كادر" كاروشة تاكلكم".
المهم عرفنا الان أن صندوق النقد الدولي في جيب امريكا من زمان وربما لازال. يا جماعة خلونا من امريكا دنا عذابها و"دول أخري" حامياني. داش- زمان (أيام الهيجة القديمة) ، قيل أن أحد كبارالسفراء محض الحكومة النصح في مؤتمر محضوروفي رده علي تساؤل ثائر من المشروع الحضاري " ننحني لامريكا يعني؟" ، قال السفير " لا.غضب امريكا زي غضب الوالدين ، انبطحو".
عن الشيوعيين
-عن انقلاب مايو 1969 ويوليو 1971: حكي ابراهيم منعم أنه عندما وصل المكتب صبيحة انقلاب مايو جاءه حسن التاج نائبه في كل شركات خليل عثمان والذي كان صديقا لعبدالخالق محجوب وقال له إنه البارحة كان مع عبد الخالق الذي اشتكي له من نزلة برد وعندما طرق الباب طلب منه الاخير أن يذهب ليري من الطارق ، فعاد وقال هنالك شخصين بالباب ولا يريدان الدخول. ذهب اليهما عبد الخالق وعندما عاد قال هما بابكر كرار رئيس الحزب الاشتراكي الاسلامي ومحمد عبد الحليم (القومي العربي والضابط السابق في الجيش المصري ومدير عام بنك مصر بالسودان) (؟؟) وقال طلبا منه معرفة اسباب رفضه للانقلاب المتوقع. ومن هنا عرف حسن التاج أن هنالك انقلاب "جاي" . واوضح له عبدالخالق أن الحزب الشيوعي ضد الانقلابات للوصول الي السلطة لانها تلغي دورالجماهير، كما أن أي انقلاب سيتم الانقلاب عليه.
للاسف يبدو أن عبد الخالق بعدما تعرض له هو شخصيا من اعتقالات وبعدما تعرض له الحزب الشيوعي من انقسام كبير استغله المنشقين عنه لتفكيكه ، لمعرفتهم الوثيقة بكل دواخله ، لم يعد يري هو أو يري بعض أعضاء لجنته المركزية الرأي القديم حول العمل الدءوب الشاق وسط الجماهير بدلا عن الوصول الي السلطة عن طريق الانقلاب ، فجاء انقلاب يوليو والذي كان تعليق الحزب عليه أنه " تهمة لا ينكرها وشرف لا يدَّعيه " والذي كتب بعده فؤاد مطر كتابه " الحزب الشيوعي نحروه أم انتحر؟".
ويقول الناظر أنه قام بتعيين عمر علي حسن مديرا للامن بمصنع النسيج السوداني وذلك بعد أن تم فصله من خدمة الشرطة (مظلوما) في اول أيام مايو، وذلك بعد أن تمت تزكيته من عدة جهات حتي من نفس الحكومة (مكاوي مصطفي وبابكر النور وابو القاسم هاشم ربما بعد أن تأكدوا من الخطأ). وعمر تمت اعادته لاحقا مديرا لشرطة مديرية الخرطوم بعد مراجعة قرارات الفصل التعسفي، ويشهد له الكاتب ، بعد أن خبره ، أنه كان نعم الزميل والصديق. يقول أن عمر بحكم علاقاته السابقة في الشرطة والمباحث حصل علي مستند يؤكد قرارا للحزب الشيوعي "بحسم السلطة قبل نهاية الشهر" والشهر كان يوليو 1971. يقول "قلَّبنا الامر مع عمر لكن اختلفنا علي أنه ليس من مصلحة الحزب الشيوعي القيام بانقلاب لأن لديه كوادر في مجلس الوزراء وزرع اخرين في الوزارات الهامة. فاذا كان هناك قرار (صاح) نسب اليه أو نسبه هو اليه ، واذا هناك قرار (خاطئ) تبرأ منه وذكر أن الذين في المجلس لم يعينهم الحزب وإنما عينتهم الثورة." ومما جعلهما يرجحان صحة المستند فصل ثلاثة من أعضاء مجلس ثورة ماية متهمون بأنهم منتمون للحزب. بعدها طلب ابراهيم من عمر علي حسن أن يذهب بالقرار ويقابل زيادة ساتي مدير المباحث ويطلب منه مقابلة وزير الداخلية الجديد (بعد إعفاء فاروق حمدالله) ابوالقاسم محمد ابراهيم. لم يتم الموضوع كواحدة من الفرص الضائعة ويقول كان يمكن أن يجنب ذلك السودان الكارثة والمجازرالتي حدثت.
العمل النقابي: يقول الاستاذ ابراهيم منعم “لاحظت بصفة عامة من موقعي في المنطقة الصناعية والاحتكاك اليومي بالنقابات ، القصور الذي لازم العمل النقابي (بما في ذلك المهني). الفكر السائد هو فكرمطلبي واي حديث عن واجبات العمل والعاملين يتعرض القائل به الي اتهام بالعمالة للمخدم. ظروف المخدم في الانتاج والتسويق امر لا يهم النقابة. وليس هنالك توازن بين الانتاج والاجور وحقوف صاحب العمل وحقوق العاملين" . كما لاحظ الكاتب كذلك أن الاستجابة للمطالب اذا لم يسبقها صراع تثير شكوك العاملين. وفي هذا الصدد ذكر وقعة وهي انه عندما كان مسؤولا في مصنع النسيج الياباني ، رأي بدلا من تطويل المفاوضات مع النقابة أن يقبل مطالبهم جميعها في أول جلسة تفاوض. عند بدئ الجلسة سلمهم اتفاقية بالمطالب التي تقدموا بها وموافعة الادارة وتوقيعها عليها. قال "نظر المفاوضون لبعضهم البعض وقال الرئيس لكن نحن لم نتفاوض علي كل المطالب. ماذا نقول لقواعدنا إذ نحن بهذه الكيفية لم "ننتزع" مطالبنا من الادارة. قال لهم اقنعتم الادارة. وتم التوقيع". ذكر الحادثة ليدلِّل علي فكرة الانتزاع والصراع. يقول جاءه في اليوم التالي عضو مجلس اتحاد العمال عبد الرحمن عباس وأقر بان الزملاء يحتاجون ألي توعية وثقافة تفاوضية لعلاقات صناعية راشدة. وفي رأي الناظر فإن "عبد الرحمن عباس والشفيع احمد الشيخ أكثر النقابيين تفهما لعلاقات العمل ، وهناك فارق كبيرللغاية بينهما-وخاصة الشفيع- وبين من يلونهم في القيادة". حقيقة ملاحظة الاستاذ ابراهيم ملاحظة هامة لأنها تشير الي خلل كبير ليس فقط في مفهوم العاملين للعمل النقابي وإنما يلاحظ ذلك كسلوك عام لموظفي الدولة وربما القطاع الخاص حيث يهتم العاملون بحقوقهم ولكن ليس بواجاباتهم، واذا حدث واحتج مواطن أو قام مسئول بالمعاش بتنبيه الموظف لعلمه بواجبات أو طريقة العمل الصحيحة فإن رد الفعل الغلب هو استنكاري متبوعا ب " داير توريني شغلي". وهو من باب المكابرة والنكران ونوع من الفساد يستحق نقاشا واسعا حول كيفية تغييره، لأن اتقان العمل والشعور بالمسئولية دون رقيب هو بداية الطريق الصحيح لتحقيق أي نوع من التنمية.
خوارق وطرائف
ذكر المؤلف أنه كان هنالك أحد الوافديين من نيجريا حضر الي النهود واتُّهم بالتنزيل ، لأنه كان عندما يشتري شيئا يضرب التربيزة/"البنك" الذي امام التاجر فتنزل ريالات ويتم الدفع. تم القبض علي الوافد واودع السجن. بعد فترة حضر أخوه من نيجريا وجاء الي حوش الشيخ منعم وسأل عنه وكان ابراهيم ومعه مجموعة أمام الحوش يتسامرون (و في يد ابراهيم سيجارة) فهمس لجاره " معقول هناك من يستطيع انزال ريالات من الهواء؟". فسمعه القادم الجديد فابتسم ورفع يه الي السماء وانزل علبة سجاير وسلمها له، وسط دهشة الجميع، قائلا: علم الله واسع.
في زمن الحكم الثنائي كان المخنثون الذين يديرون بيوتا للدعارة قيقبض عليهم ويقدمون للمحاكمة ، والقاضي البريطاني كان غالبا ما يحكم عليهم بالسجن اسبوعا أو الغرامة أو التهديد بالجلد. في كوستي قام ضابط شرطة متحمس بمهاجمة جميع المنازل المشبوهة وتم القبض علي عدد كبير ممن يديرون تلك البيوت وقدموا للمحاكمة وكان القاضي باكستاني مسلم. كان القضاة عموما مشهود لهم بالاستقامة والحيدة والنزاهة في ذلك الوقت. حكم القاضي الباكستاني عليهم حكما فريدا في نوعه وغريب. كان الحكم "أن هؤلاء الناس يعانون من مرض نفساني (وهو ما أكًّدته دراسات علمية كثيرة مؤخرا) وبدلا من ملاحقتهم وتكرار العقوبة الرمزية الافضل ان تنشأ لهم دارا لمعالجتهم ثم تأهيلهم لاعمال تفيد المجتمع" ، وأمر باطلاق سراحهم بالضمان الشخصي. خرج المتظاهرون في مظاهرة سلمية تردِّد (يعيش القاضي الباكستاني القال خلُّو ده مرض نفساني).
حدثت مشكلة بين النواب ومجلس الوزراء في الديمقراطية الاولي في قرار خاص بالثروة الحيوانية مما ادي الي ارتفاع سعر كيلو لحم الضان. وأثارقرار المجلس احتجاجات من العمال وغيرهم ، وهدد النواب بطرح صوت ثقة في المجلس.
تدخل الاستاذ عوض ساتي وهو عالم معروف وكتب في الصحف ناصحا العمال وذوي الدخل المحدود بأن يتركو لحم الضان وشأنه ويتجهوا الي لحم الابقار(عجالي) فإن القيمة الغذائية فيه عالية خاصة اذا كان في شكل "كباب حلَّة". يقول الكاتب "فقامت القيامة" علي عوض ساتي واعتبر حديثه تحقيرا للطبقة العاملة ، واصبح العامل عندما يدخل المطعم بدلا من طلب كباب حلَّة يصيح" : واحد عوض ساتي.
-4-
ختاما ما سبق هوغيض من فيض فالكتاب أكثر من الف صفحة وأحسن "تقرو إنتو". المذكرات يتحدث فيها الكاتب عن تجربته كموظف في الحكومة في الديمقراطية الاولي والحكم العسكري الاول (عبود) وتجرتبه في القطاع الخاص ، ومسئول في مايو، وعن الانقاذ وحيدة القضاء فيها (أو قل عدمه) من تجارب شخصية له، والتمكين ومحاربته في رزقه هو واولاده . كما جاء بمعلومات جديدة ومحزنة عن الانتفاضة –بالنسبة لي علي الاقل أوكل الذين كانوا في لجانها المختلفة- ناهيك عن الجماهير التي تدفقت كالسيل يوم 6 ابريل. هل للمخابرات الامريكية وممثلها في السودان مستر ملتون دورا في قيامها؟ هل صحيح أن التجاني محمد ابراهيم قام بدفع 60 الف جنيه لقيام المظاهرات التي سبقت الانتفاضة-كما قال التجاني نفسه هائجا في السجن أمام الجميع عند زيارة بعض وزراء الانتفاضة لسجن كوبر؟ هل صحيح أن عمر محمد الطيب والصادق المهدي وجوزيف لاقو كانوا متفقين مع الامريكان وأن عمر محمد الطيب كان عليه إعلان حالة الطوارئ بعد المظاهرات و تسلم الرئاسة وتسليم الصادق المهدي رئاسة وزراء الشمال وجوزيف لاقو رئاسة الجنوب ولكنه جبن بعد الطوائ ، كما أفاد الاخير(لاقو) ابراهيم منعم في القاهرة؟ وهل صحيح أن الصادق المهدي اتصل بمكتب عمر الطيب عدة مرات بعد إعلان حالة الطوارئ متوقعا إكمال الاتفاق ، كما أفاد مدير مكتب عمر الطيب ابراهيم منعم لاحقا؟ الكلام كتير وموجود.
أما عن الفرص الضائعة التي ذكرها الكاتب والتي أتت في نحو مائتين صفحة من المذكرات (وتستحق كتابا لوحدها) فإذا بدأت قراءتها يستحسن أن تبدأ ب " جيب الحبوب يا ولد" كما يقول الاستاذ الفاتج جبرا.
صديق امبده
2 ديسمبر 2017
sumbadda@gmail.com