شهدت فترة الرئيس الامريكي الاسبق جورج بوش الاب انجازين رئيسيين بالنسبة للولايات المتحدة: نجاح حملة اخراج صدام حسين من الكويت في عملية سياسية وعسكرية تحت مظلة سند دولي، الامر الذي شكل أول انتصار لوشنطون منذ حرب فيتنام. أما الانجاز الثاني فيتمثل في سقوط حائط برلين وأنهيار المعسكر الشرقي، الامر الذي دفع المفكر فرانسيس فوكوياما الى اطلاق مقولته الشهيرة عن نهاية التاريخ وانتصار النموذج الغربي بقيادة الولايات المتحدة.
لكن رغم ذلك لم يهنأ بوش بانتصاره ذلك وحظي بفترة رئاسية واحدة، مثله مثل جيمي كارتر الذي خسر الانتخابات تحت وطأة مهانة عملية اجتياح السفارة الامريكية وأعتقال الديبوماسيين. بوش الاب خسر الانتخابات لسبب أخر لخصه الشعار الذي خاض به كلينتون حملته وهو: "أنه الاقتصاد... يا غبي"، أي ان كل الانجازات الديبلوماسية والعسكرية التي تتم في الخارج ليست كافية اذا لم يصحبها انجاز اقتصادي في الداخل.
ظل الهم الاقتصادي في مؤخرة اهتمامات الطبقة السياسية الحاكمة التي غلبت عليها عقلية الافندية التي تقاصرت أحلامها في الترقيات والعلاوات والبدلات وتسيير ما ورثته من مشروعات مع اضافات هنا وهناك، لذا لم يشهد السودان مشروعا اقتصاديا استراتيجيا يستقطب الشعور القومي وتسخر لها المقدرات السياسية والاقتصادية والاعلامية مثلما فعلت مصر الناصرية مع السد العالي مثلا أو كما تفعل أثيوبيا حاليا مع سد النهضة.
بل حتى الاختراق الذي شهده ملف النفط أنما تم لأسباب لعب فيها العامل الخارجي الدور الاكبر والاشارة تحديدا الى ان الصين كانت قد دخلت السوق مستوردة في 1993 وعملت وفق استراتيجية للوصول الى احتياطيات جاهزة لا تكلفها وقتا أو جهدا في أستكشاف قد ينجح وقد لا ينجح. ولهذا كان السودان خيارا مثاليا لوجود المعلومات الفنية التي وفرتها شيفرون. وعليه قدمت الصين أفضل العروض عند تشكيل أول كونسورتيوم لأنتاج وتصدير النفط اذ طلبت حصة 50 في المائة مع عرض اضافي ببناء مصفاة مشاركة مع السودان بل والاسهام في توفير التمويل لنصيب السودان في مشروع المصفاة.
ويعضد هذا الرأي ان السودان لم يبذل جهدا ملحوظا لآستكشاف النفط في الاجزاء الشمالية من البلاد حتى بعد اتفاقية السلام وبروز احتمال انفصال الجنوب حاملا معه معظم الاحتياطيات المعروفة من النفط، بل وأسوأ من ذلك لم يستخدم جزءا من العائدات النفطية التي انهمرت عليه لتعزيز وضعية القطاع الزراعي رغم الشعارات عن ثروة السودان التي لا تنضب في الزراعة. ففي الثاني من يناير 2008 تجاوز سعر البرميل النفط حاجز المائة دولار لأول مرة في التاريخ وحصلت الدول المصدرة للنفط على عائدات اضافية. وبما ان السودان وقتها من بين الدول المصدرة فيعتقد انه حصل على مبلغ اضافي يتراوح بين مليارين ونصف المليار الى ثلاثة مليارات دولار لم تكن مدرجة في الميزانية، هذا في الوقت الذي كان فيه برنامج النهضة الزراعية الذي أعلنته الحكومة يحتاج الى أربعة مليارات دولار ليحقق الاختراق المنشود، لكن تلك الاموال الاضافية لم تذهب الى القطاع الزراعي.
وتتلخص حقيقة المرض الهولندي الذي أصاب السودان وقتها اذا عرفنا ان معدل النمو في الانتاج الزراعي بلغ في عقد الطفرة النفطية 3.6 في المائة في المتوسط مقابل 10.8 في المائة في العقد الذي سبق، وهو ما عزز من الفجوة في الميزان خاصة وأصبحت هناك واردات زراعية بمليارات الدولارات. ولهذا فالضائقة الاقتصادية التي تخيم على البلاد في الوقت الراهن هي في جانب منها تسديد لفواتير عدم الاهتمام بالجانب الانتاجي خلال السنوات السابقة وفي جانب منها ان الحكومة سعت الى امتصاص الصدمة الاقتصادية الناجمة عن انفصال الجنوب بطريقة متدرجة ومؤجلة وذلك لتجنب أن يتزامن ذلك مع الثمن السياسي الناجم عن الانفصال.
الملمح العام للمشهد الاقتصادي انه لم تحكمه نظرية أو ممارسة واضحة وانما كان يتحدد بتوجهات وحسابات طبقة الافندية في طبعتها الايدولوجية التي تفتقد الشفافية والمساءلة: يصدق ذلك على عمليات التأميم والمصادرة في العهد المايوي كما يصدق على التحرير وعمليات التمكين التي تعدت جهاز الدولة الى ميدان الاعمال في عهد الانقاذ وفي كل الاحوال كانت تفتقد فضيلة الصبر المطلوبة حتى تكتمل برامجها كما لم تقدم المثل عندما يتطلب الامر خاصة عند تصاعد الدعوات لشد الحزام اذ لم تنجح في لجم الانفاق العام سواء عبر تقليص الحكومات المترهلة أو خفض انفاقها الغير مبرر كما في حالة السفر والمؤتمرات التي لا تنقطع ولا تعود على البلاد بفائدة تذكر.
ومن ملامح هذه الطبقة كذلك تجذر العقلية النقابية المطلبية التي تعلي من مصالح عضويتها فيما يتعلق بالحقوق ودون أهتمام مماثل بالواجبات، وتشكل فترة البرلمانية الثالثة خير نموذج على هذا الحال عندما تسابقت النقابات للقيام باضرابات حتى لم تبق نقابة الا واضربت أو هددت بالاضراب مالم تتم الاستجابة الى مطالبها المتركزة في مصالح عضويتها.
هذا الضعف وصل الى قمته بعجز جهاز الدولة عن ادارة معظم المشاريع الانتاجية من الجزيرة الى الرهد وغيرهما عبر توفير التمويل والمعينات اللازمة كما كان يفعل سابقا، الامر الذي أدى بالعاملين في هذه المشاريع الى التماس العون من خلال نفض الغبار عن صيغ قديمة أو أبتداع وسائل تشغيلية جديدة مثلما هو الحال مع تمدد ونمو صيغة الزراعة التعاقدية مع أفراد وشركات تلبية لاحتياجات عاجلة وبدون ان تحكمها نظرة عامة ولهذا تعددت الصيغ التي تعمل بها هذه الشراكات، ولو ان وزارة الزراعة تحركت مؤخرا لوضع اطار قانوني لضبط العملية، لكن الشاهد ان اصحاب المصلحة أستبقوا جهاز الدولة وترتيب حلول للمشاكل التي تواجههم خاصة فيما يتعلق بتجهيز كل مستلزمات الموسم الزراعي من تمويل وخلافه، الامر الذي أدى الى بعث الحياة في مشاريع كانت هامدة لسنوات طويلة مثل مشروع أبو حبل في شمال كردفان، بل ووصل الامر أن يحقق القطن في الجزيرة انتاجية عالية وصلت الى مليون قنطار وفي مساحة تزيد عن ثلث ما كان يزرع من قبل وفي ثلث الوقت الذي كان يخصص في السابق للحصول على نفس النتيجة . هذا الى جانب ان الحكومة لم تعد مطالبة بشطب ديون المزارعين، بل انها حصلت على ضرائب على الماء والادارة.
ومن الأمثلة على تنامي أتجاه الناس الى أخذ مصيرهم بأيديهم ما شهدته قرية ودبلال في الجزيرة التي كونت لها شركة للأستثمار والتنمية حملة أسهمها من سكان القرية وتمكنت من البدء بمشروع لتسمين العجول ومن عائده عملت على توفير التأمين الصحي لأهل القرية وتقديم عون نقدي للاسر المتعففة وجذب نجاح التجربة أخرين فزارتها وفود عديدة للوقوف على أبعادها وهناك على الاقل قريتين أو ثلاثة قطعت شوطا مقدرا في التنظيم وتأسيس جمعياتها والحصول على قطع اراض لبدء مشروعاتها الانتاجية.
ورغم ن نائب الرئيس حسبو محمد عبد الرحمن زار قرية ودبلال مرتين ووعد بتقديم العون الا انه كان من الافضل اذا عمل مع مختلف اجهزة الدولة على ان تقوم كل محلية من محليات ولايات السودان المختلفة بتطبيق نموذج ودبلال بما يلائم ظروفها وتعمل الدولة على تشجيع نشر التجربة عبر تسهيل الجوانب الاجرائية لاقامة مثل الشركات الريفية وأهم من ذلك تيسير أمر التمويل.
أن تجربة ود بلال والزراعة التعاقدية وغيرها أثبتت أنه يمكن عمل شيء أيجابي رغم البيئة الطاردة التي تتميز بغياب للسياسات وعدم ثباتها وتعقيد الاجراءات وانعدام الشفافية في مشاريع الاستثمار الاجنبية والتباس علاقتها بالسكان المحليين وعمليات الفساد والمباغتة في القرارات التي تجعل من التخطيط والترتيب أمرا من الصعوبة بمكان، وهذا ما يتطلب من القوى السياسية وضعه في الاعتبار والانشغال بتفاصيل البرنامج الاقتصادي بعيدا عن العموميات اياها لأنه سيفرض نفسه على رأس همومها وأهتماماتها اذا تولت الحكم بصورة أو أخرى.