مرشد المرتابين إلى محاورة الكذابين

 


 

 





(1)

في عصر العجائب الذي نعيشه هذه الأيام تتغير الأمور بسرعة. فهاهي بطلة مقاومة الطغيان في بورما، أونغ سان سوشي، تعود إلى الساحة السياسية بعد أن قضت عقدين من الزمان في الاعتقال المنزلي لأن حزبها كسب الانتخابات عام 1991، وإنه لإثم لو تعلمون عظيم. وقبل ذلك خرج نيلسون مانديلا بعد سبعة وعشرين عاماً من الاعتقال ليصبح رئيس بلده جنوب افريقيا وأحد أعظم قادة العالم. وسبقه في ذلك فاسلاف هافيل وليش فاليسا في الانتقال من المعتقلات إلى الرئاسة في بلديهما. أما في بلد العجائب، مصر، فإن أبطال المقاومة ضد الطغيان يحرمون من الترشح في الانتخابات لأنهم لم يتلقوا "العفو" من المجرمين الذين سجنوهم. وهذه "الأحكام" تصدر من رجال يدعون أنهم قضاة يفهمون في "القانون"!


(2)

في عالم "اليس في بلاد العجائب" المسمى بلاد العرب، لا تنقضي العجائب. يترشح أحد أكابر مجرمي النظام السابق، وأحد قادة الأجهزة الأمنية التي عذبت وقتلت وكذبت، للرئاسة ويدعي أنه سيحافظ على أهداف "الثورة" التي أسقطته! أما في بلد العجائب الآخر، اليمن، فإن ابن أبيه الذي تولى قيادة الحرس الجمهوري بمؤهل وحيد، يعلن ولاءه للرئيس الجديد الذي خلف والده، بينما يتمرد عمه على نفس الرئيس، ويتآمر الوالد على الرئيس من موقعة كرئيس "الحزب". ولو كانت هذه مشاهد في مسرحية سريالية لدريد لحام، لأضحكت وحيرت.


(3)

وبذكر دريد لحام، فك الله أسره، (أين هو الآن بالمناسبة بعد أن تصدر "قائمة العار" السورية للمتخاذلين؟) فإن الدراما السورية المبكية قد وصلت إلى مرحلة حرجة. فبحسب خطة كوفي عنان، ينبغي أن توقف السلطات السورية عملية محو المدن السورية من الأرض، وتطلق سراح عشرات الآلاف من الأسرى، وتسمح بوصول الإغاثة وحرية الصحافة والتظاهر، ثم تدخل في حوار مع المعارضة. ولكن كيف يبدأ الحوار والسلطة لا تعترف أساساً بأنها تقصف المدن أو تعتقل الناس أو تقتل الأبرياء؟ بحسب الحكومة وعرابيها في موسكو وأنصارها في طهران وبغداد والضاحية الجنوبية، فإن اللاجئين في تركيا ولبنان هم الذين يجب أن يتوقفوا عن استهداف "الجيش العربي السوري" المغلوب على أمره، وأن يعتذروا لحزب البعث العربي الاشتراكي والمخابرات الجوية عن قتل الأبرياء وخطف المدنيين وتعذيبهم!


(3)

حتى يبدأ أي حوار، لا بد أن يكون هناك اعتراف بأبسط الحقائق. لفترة طويلة (وبين بعضهم حتى الآن) كان القادة الإسرائيليون يؤكدون أنه لا يوجد شيء اسمه فلسطين ولا فئة تسمى الشعب الفلسطيني. ومن هذا المنطلق، فإن أي حوار حول حقوق ومظالم الفلسطينيين يصبح غير ذي موضوع. فكيف يكون هناك حوار مع جهة لا وجود لها أصلاً، فضلاً أن يكون لهذا الشبح الوهمي حقوق؟


(4)

النظام السوري، بنفس القدر، ما زال يرفض الاعتراف بأن هناك شعب سوري ثار على النظام عن بكرة أبيه، ولا يعترف بأنه قتل الآلاف، وعذب واعتقل عشرات الآلاف، وشرد مئات الآلاف، وحرم الملايين من أبسط مقومات الحياة. لا يعترف بأنه ارتكب جرائم الحرب، وهاجم الجرحى ودمر المستشفيات، وسرق ونهب واستهتر واستهزأ. فهو يقاتل عصابات مسلحة، ويدافع عن الشعب المسكين المظلوم ضد مؤامرات بني صهيون. فكيف إذن يمكن مطالبة النظام بوقف انتهاكات وجرائم لم تقع أصلاً؟


(5)

الطريق الوحيد لمعالجة هذه القضية، في نظرنا، هي أن يعترف الجيش السوري الحر وبرهان غليون بأنهم هم الذين يقصفون المدن، ويقتلون الناس ويعذبونهم، وأن مصفحاتهم هي التي تحاصر حمص ودرعا وحماة، وأن معتقلاتهم هي التي حوت آلاف الأبرياء. وعليه تعلن المعارضة السورية بأنها ستسحب مصفحاتها ومدرعاتها، وتزيل الحواجز، وتطلق سراح المحتجزين لديها، مقابل إعلان عفو عام عن مرتكبي هذه الجرائم. وبالتالي تزول المصفحات، ويطلق سراح المعتقلين، ويحمل الأسد على الأعناق باعتباره خلص الشعب السوري من جرائم العصابات المسلحة ومؤامرات بني صهيون وعدوان ذئب ابن يعقوب. ومن ثم تنتهي الأزمة السورية ويعود الأسد رئيساً منتخباً لسورية حرة ديمقراطية، وكفى الله الجيش الحر القتال.


(6)

في العراق المنكوب بأهله هناك أيضاً مشكلة مماثلة. كل القوى السياسية تتهم رئيس الوزراء نوري المالكي بأنه عاكف على بناء نظام دكتاتوري طائفي حزبي، وباستخدام الدولة والجيش والشرطة والأمن والقضاء لاستهداف خصومه. فكل من خالف رأي المالكي، من نائب الرئيس إلى رئيس لجنة الانتخابات، نكتشف فجأة أنه ارتكب جرائم منكرة أو تقع به كارثة بقدر سماوي. وحين يواجه أنصار المالكي بهذه الأقدار العجيبة، يجبيون دائماً بأن القضاء مستقل، والأجهزة الأمنية تؤدي واجبها، وأن العراق بلد ديمقراطي يخجل سويسرا وتتضاءل أمام عظمته السويد. وهنا ينقطع الحوار، فليس بعد "الديمقراطية" حجة.


(7)

يستحق مفتي الديار المصرية الشيخ علي جمعة لقب "صاحب العباءتين"، أو "مطبع الاتفاقيتين"، لأن زيارته للقدس المحتلة شرعت بكامب دايفيد ووادي عربة معاً. وما العيب في شد الرحال إلى بيت المقدس، حتى وإن كان الغرض هو رضا القطب نتنياهو وأحبائه في عمان؟ ولعل هذه تذكرة بأن لقب ووظيفة "المفتي" بدعة لا أصل لها في الدين الإسلام الذي يرحم الكهنوت ويعتبره من الشرك. فليخلع مفتي المطبعين ووظيفته معاً.


(8)

في شأن آخر تماماً، أشفق على جرحى معركة هجليج الذين نجوا من الحرب هناك، ولكنهم قد لا ينجون من مقامهم في مستشفى السلاح الطبي بأم درمان. فقد تحول مقامهم هناك إلى مزار مثل متحف الهولوكوست، يتقاطرالمسؤولون وقادة الأحزاب السياسية على زيارته في كل ساعات اليوم، وبصحبة كاميرات التلفزة والإعلام. وأطالب من هذا المنبر بإرسال وفد من الهلال الأحمر السوداني لحماية هؤلاء المساكين من هجمات "الزوار" التي قد تودي بحياتهم!
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء