مركز يوسف فضل للمخطوطات السودانية
abusamira85@gmail.com
رغم أن الربط الأثيري المتاح هذه الأيام لا يبعث على الارتياح، إلا أن إعلان الشركة السودانية للهاتف السيار (زين) عن اختيار البروفسير يوسف فضل حسن شخصية العام لجائزة الطيب صالح العالمية للابداع الكتابي يبعث في النفس ارتياحا فحواه أن إحدى الشركات الوطنيةالعامة الكبري قد باتت تهتم اهتماما عظيما بأمور العلم والعلماء.
فكرة المركز
لعل ثنايا هذا الارتياح وبهجة ذلك التكريم، تبرر لنا أن ندفع بفكرة تأسيس مركز يوسف فضل للمخطوطات السودانية، وهي فكرة نود أن تكمل بها (زين) مأثرها على حركة الثقافة في البلاد. ومعلوم أن المخطوطات هي الآثار التي كتبت ونسخت بخط اليد وهي ذاكرة الأمة وتراثها وتتسم بقيمة علمية وفنية وتاريخية، وهي من أهم المصادر الأصلية للبحث العلمي والفني والثقافي في الدولة.
أما سر التسمية فهو أنك إذا قرأت محاولات تدوين تاريخ السودان، ستجد أن البروفسيور يوسف فضل حسن، أدرك منذ وقت مبكر، أهمية تحقيق المخطوطات في نسخاتها المختلفة وإقامة علاقات متميزة مع شهود عيان ورواة وشيوخ وأحفاد الذين لعبوا دورا بارزا في تاريخ البلاد.
ويبدو لي أن البروف يوسف حين غامر قبل أكثر من 40 عاما بتحقيق كتاب (طبقات ود ضيف الله)، كان على ثقة تامة بأنه يؤسس لعهد نضج الاهتمام الوطني بالمخطوطات السودانية في مدوناتها المتعددة وأزمنتها المختلفة.
وعلى نهج الطبقات، انفتحت الساحة العلمية بخطوات متسارعة، لكن غالب الظن أن تفرد البروف يوسف ارتكز على أن معرفة ماضي الأجداد ومحموله الثقافي يعد نقطة انطلاق أساسية نحو مستقبل مشرق.
فهارس المخطوطات
من الصعب جدا تحديد عدد المخطوطات في العالم الإسلامي، وكل الأرقام في هذا الصدد تعد من قبل التخمين.
وحسب بعض الفهارس في المخطوطات العربية وعددها، فإن أكبر ثلاث دول تمتلك العدد الأكبر من المخطوطات العربية هي: تركيا، إيران، ومصر.
ويحتل السودان المركز الحادي عشر بين الدول التي تمتلك عددا لابأس به من المخطوطات.
ويعزى تراجع ترتيب السودان في هذه القائمة إلى عاملين أولهما: أن عددا كبيرا من المخطوطات قد تم (تهريبها) إلى خارج البلاد منذ أزمان بعيدة، ولم تبذل أية جهود لاستردادها. العامل الثاني: إن عددا كبيرا جدا من هذه المخطوطات مازال بحوزة الأسرالعريقة التي تعتبره تراثا خاصا بها، ولا ترغب في إتاحته للأخرين.
ولسنا في حاجة إلى القول إن المخطوطات العربية في السودان أسهمت خلال القرن التاسع عشر في خلق تطورات عميقة في البلاد خلال الفترة التي أعقبت انهيار دولة الثورة المهدية.
آفاق الفكرة
إن هدفنا من اقتراح تأسيس هذا المركز، هو التعريف بالكم الهائل من المخطوطات السودانية، مع البحث في تحديد العلاقة بين هذا الإنتاج، وبين الأوضاع الاجتماعية التي سمحت بظهوره.
نطرح هذا الهدف وفي الذهن أننا لا يمكن أن نتبين دلالات ما ورد في هذه المخطوطات دون استحضار لتاريخ السودان في عمومياته، ولخصوصية ما عرفه من تغيرات، ومن ثم ضرورة التخلي عن المتابعة السلبية للقضايا كما يطرحها بعض مؤلفي هذه المخطوطات.
وقد يكون مستهدفا من هذا المركز إعادة قراءة التاريخ السياسي عبر فرضية تحتم الانطلاق من وجود مشروع سياسي متكامل. ولكن لن ننصل إلى نتيجة لهذه الفرضية، إلا بإيجاد صلة بين الإنتاج الفكري، والواقع الاجتماعي، وتأثيره في باقي المجالات.
وقد يأتي الهدف السابق بصيغة أخرى، تتمثل في محاولة الربط بين تاريخ كتابة مجموعة من المخطوطات، وبين التطورات التي عرفها السودان في نفس الفترة.
وبالطبع لن نتمكن من الوصول لأي نتيجة دون الانتباه إلى المنهج الذي سار عليه المؤلفون في مخطوطاتهم، ومحاولة الوقوف عند الدواعي الحقيقية التي جعلتهم يسلكونه. ومن تم تتبين لنا السبل التي يتعين علينا إتباعها من أجل فهم واع لتلك الكتابات.
أهمية المركز
الأهمية الأولى للفكرة لمقترح تأسيس مركز يوسف فضل أن المخطوطات السودانية تقدم نموذجا ممتازا للعلاقة بين التحولات السياسية والأوضاع الاجتماعية في وقت إعدادها، وبين التنظير السياسي للمجتمعات السودانية حينئذ.
والأهمية الثانية أن هذه المخطوطات تتيح المجال لنجعلها موضوعا للبحث، محاولين أن نجعل من المخطوطات ومدونات محرريها مادة للتأمل، تنير السبيل للبحث في تطور التفكير السياسي في بلاد السودان خلال القرن التاسع عشر، وتفاعله مع المجتمع.
الأهمية الثالثة لفكرة المركز تكمن في أن المخطوطات السودانية، رغم غزارتها لا تستجيب بسهولة للأسئلة التي يطرحها الباحث، وهنا يتعين على المركز أن يسهم في تأهيل الباحث الذي يبحث بصبر وجلد وفق منهج علمي يعصمه من أن يتوه بين التفاصيل الجغرافية والوقائع التاريخية والتفريعات الفقهية التي سار عليها المؤلفون في معظم مخطوطاتهم.
نفي العلاقة
حتى لا يخلطن القارئ بين طبيعة المركز المقترح ودار الوثائق القومية، نعيد القول إن المركز ينبغي أن يهتم بإعداد الدراسات التي تسهم في توفير الإجابة عن مجموعة من الإشكاليات تطرحها طبيعة التركيبة الاجتماعية خلال فترات تاريخية مختلفة تأخذ برقاب بعضها البعض، تدور حول إشكالية محورية، ترتبط بمشكلة السلطة والتنظيم السياسي في البلاد.
أما دار الوثائق القومية التي تحتفل هذه الأيام بعيدها المئوي، فقد أنشئت تحت الانتداب البريطاني باسم (مكتب محفوظات السودان)، وظلت تحمل هذا الاسم حتى العام 1965، حيث تحول اسمها إلى دار الوثائق المركزية. وفي عام 1982 أصدر الرئيس الراحل جعفر محمد نميري قرارا جمهوريا، أصبحت بمقتضاه تحمل اسمها الحالي دار الوثائق القومية، وهي في جميع مراحلها تعرف بأنها (المؤسسة التي تعنى بحفظ السجلات والأرشيف الحكومي إلى جانب الوثائق السودانية من مخطوطات ووثائق مختلفة).
وفوق أن هذا التوضيح يستمد أهميته من تفادي (حروب البسوس) التي تدور رحاها بين المؤسسات ذات الطبيعة المتشابهة، فإن إشراف شخصية العام لجائزة الطيب صالح العالمية للابداع الكتابي، البروفسير يوسف فضل حسن، يمثل ضمانة النجاح لهذا المركز، بغزارة علمه وتوقد ذهنه ورحابة آفاقه الفكرية. إضافة إلى أن البروف يوسف حين يتحدث في الثقافة والتاريخ، يلقى عليك بالأفكار العميقة جزافا في ثنايا كلام عادي، وهذا ما سيجعل هذا المركز ينطلق في آفاق علمية جديدة دعونا نسميها هنا (دور المخطوطات السودانية في إعادة قراءة التاريخ السياسي).
تكريم مستحق
عودة لاختيار شخصية العام لجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي، فإن اختيار البروفسير يوسف فضل حسن يعد تكريما مستحقا له فهو:
أولا: رجل يتطابق سلوكه مع سجيته تمامـا، لا يفعل شيئا لا تألفه نفسه، ولا بقضي (يومه خنق) على طريقة أهله الجعليين، لكن الحساب عنده (ولد).
ثانيا: مؤلف أثرى المكتبة السودانية بعدة مؤلفات وبحوث ومقالات وأوراق عمل، يهفو لها عقل القارئ وستظل مراجع أصيلة للأجيال المتعاقبة يغوص فيها جيلا إثر جيل، يمتع نفسه بعلم التاريخ والاجتماع.
ثالثا: أستاذ جامعي مرموق تخرج على يديه الآلاف من الطلاب والمئات من الباحثينالمتميزين، والعشرات من الكتاب والعلماء المستنيرين الذين أثروا الحياة السودانية.
رابعا: رائد المبادرة إلى تأكيد دور جامعة الخرطوم في الانفتاح على المجتمع بإثارة القضايا التي تهم الجميع بعيدا عن سمر المثقفين المترف في منتدياتهم أو جدل الأكاديميين الأنيق في قاعاتهم، والأمثلة كثيرة، وقد يكون مفيدا لمن هو دون الثلاثين أن يبدأ القراءة مع يوسف فضل من نقطة سودانية أصيلة تتمثل في كتاب (الشلوخ أصلها وصفتها) الذي تزامن صدوره مع انتشار أغنية عميد الفن السوداني أحمد المصطفي (السادة ألميني بالريده كلميني).
بصيرة ودولارات
ويبقى أخيرا أن نهمس في أذن الصديق القديم الفريق الفاتح عروة للاهتمام بالمقترح، بصفتين: صفة الرجل القادر بـ (بصيرته المتقدة) على تبني الفكرة وأثرائها، وصفة الرئيس التنفيذي لـ (زين) الذي لن يبخل بـ (حفنة دولارات)، تمكن مركز يوسف فضل للمخطوطات السودانية من الانطلاق نحو آفاق جديدة من الدراسات السودانية.
abusamira85@gmail.com