مسيح دارفور

 


 

 

(أهون لجمل أن يمرَّ من ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله)
عبد العزيز بركة ساكن
كتب الناقد البريطاني " كينيث تينان " لا أستطيع أن أحب شخص لا يتمنى رؤية مسرحية "انظر للوراء بغضب". ولقد وصفها بالمعجزة الصغيرة وهو يقول: كل الجودة بها، الجودة التي يئسنا من رؤيتها على خشبة المسرح، الانجراف نحو الفوضى، الرفض التلقائي للمواقف الرسمية، الحس السريالي للنكتة، الشعور بعدم وجود حرب صليبية تستحق القتال من أجلها، وحتمية بأنه لا أحد ينبغي أن يموت بدون نعي".
وكأن "تينان"، وهو يتناول تلك المسرحية الخالدة، ا"نظر للوراء بغضب" للكاتب البريطاني "جون أوزبرون" والتي عرضت على المسرح عام 1956، يتحدث عن بركة ساكن وروايته "مسيح دارفور" التي كتبها خلال الفترة من 2008-2012 . فبركة ساكن، ليس في هذا العمل فقط بل في كافة أعماله نجده منجرف نحو الفوضى .. متمرد على السلطة والمواقف الرسمية، ضد الحرب والمعارك العبثية، منحاز طبقياً لفئة المهمشين والمسحوقين ويرى أن لا أحد منهم ينبغي أن يموت بدون نعي .. فهو ينظر للوراء بغضب، لذا يكتب بغضب.
لتلك الصفات والقدرات الإبداعية الغير عادية والجودة العالية لكتاباته استطاع عبد العزيز بركة ساكن، وخلال فترة وجيزة من بداياته، أن يحلق عالياً في فضاء الرواية والقصة السودانية وخط اسمه بين الكبار الطيب صالح وإبراهيم إسحق والدكتور بشرى الفاضل، وبركة ساكن لم يكتفى بالانتشار محليا بل شق طريقه إلى العالمية مازٍ الكثيرون ممن سبقوه في مجال الرواية والقص من الكتاب العرب والسودانيين، وعلى الرغم كثافة انتاجه الأدبي إلا أن الرواية التي سلطت عليه الأضواء وبهرت القارئ السوداني قبل الأجنبي هي رواية (الجنقو مسامير الأرض) التي حازت على جائزة الطيب صالح للرواية (ترجمها إلى الإنجليزية الأستاذ عادل بابكر)، صدرت طبعتها الإنجليزية من دار (أفريكا ورلد برس) في نيويورك وقدم لها الأستاذ كمال الجزولي.
تميزت رواية "الجنقو" بمفرداتها الجريئة واقتحامها فضاءات جديدة على القارئ العربي والعالمي حيث تدور أحداثها في مناطق النزاع بجنوب النيل الأزرق وأراضي الفشقة خطوط التماس بين السودان واثيوبيا. والتي تعد من ضمن الفضاءات والعوالم المجهولة في الأدب السوداني.
كذلك أجاد وابدع الكاتب عبدالعزيز بركة ساكن في مجال القصة القصيرة ومن أعماله القصصية المؤثرة (إمرأة من كمبو كديس).
في روايته (مسيح دارفور)، موضوع هذا المقال، والتي يسلط فيها المبدع بركة ساكن الضوء على أزمة دارفور بلغ الكاتب قمة نضجه الفني وواصل شقفه في فض بكارة المسكوت عنه في الشأن السوداني العام، تناول مأساة إنسان دارفور ووضعنا في مواجهة أخلاقية مع إنسانيتا، كتب بمشرط جراح دون تخدير أو لولوه ونكأ جراح مازالت دمائها ندية وتركنا تحت ثقل حكم الضمير، نقل لنا محنة الإنسان السوداني عامة ومأساة إنسان دارفور بصورة خاصة، لم يواري عوار السلطة ولم يتجمل أو يتحازق كتب بقسوة عن رائحة البارود والموت والخراب فهو يقدم لدارفور التاريخ بين الماضي والحاضر والمستقبل من خلال عدة شخصيات مثقلة بالتعب، إبراهيم الخضر وشكيري كوكو كوة والعمة خريفية وعبدالرحمن أو عبد الرحمانة وشارون قائد احدى حركات التمرد الدارفورية الذي كان يقف بجانب السلطة وشارك كمجاهد في حرب الجنوب والذي تمرد وحمل السلاح ضد السلطة إلا أنه لا يزال يعتقد أن الإسلام هو الحل لمشكلة دارفور.
إبراهيم الخضر من أبناء مدينة كسلا لأسرته جذور في العبودية تم اصطياده هو وشكيري كوكو كوة على مشارف مدينة الخرطوم فاقتيدا مع بعض الشباب الغر وألقي بهم في أتون الحروب المجنونة، حروب لا ناقة لهم فيها ولا بعير، إبراهيم كان حينها يأخذ بيد شقيقته ليسجلها بالجامعة، أنزل من البص فغاب عن شقيقته وأهله لقرابة العشرة سنوات دون أن يعرفون عنه شيئاً، أما الابطال الحقيقيون للرواية فهم العمة خريفية (عمة شكيري) التي يقع بيتها على تخوم وادي برلي العظيم بمدينة نيالا وابنتها بالتبني (عبدالرحمن) ولعبد الرحمن تلك قصص أخرى فهي انثي وليست ذكرا كما يوحي اسمها، لكنها أنثى ولا دستة رجال كما قال الشاعر.
عبدالرحمن بطلة الرواية والتي التقطها عمال الإغاثة حية تحت انقاض جثث متحللة، تزوجت من شكيري الجندي الهارب من الخدمة واضطر المأذون أن يسجلها في قسيمة الزواج باسم عبد الرحمانة، لها ثأر مرير مع الجنجويد الذين اغتصبوها وقتلوا كافة أفراد اسرتها أمها وأبوها وإخوانها الثلاثة هاون واسحق وموسى أمام عينيها، رغبتها في أن تتزوج من جندي شجاع يقتل عشرة من الجنجويد وتأكل هي من اكبادهن نيئة لكن بعد ان اصطادت اثنين منهم وجدت ان لحومهم غير مستساغة نتنة فلم تفعل.
الجنجويد المستجلبون من النيجر ودول الجوار، ليسوا بشرا بل كائن أدنى، يعرفهم الكاتب على لسان مسيح دافور عيسى ابن مريم (أهون لجمل أن يمرَّ من ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله) وقد برر الكاتب ذلك بأن الجنجويد يفتقدون لأبسط مقومات الانسانية. فهم في رأيه، وهو رأي أتفق فيه معه تماماً ويتسق مع الواقع وأفعالهم في دارفور، بأنهم من الأشياء المستحدثة أي ربوتات وليسوا بشرا، أشياء من تحضير البشر، من صنع مخلوق أدنى فلا يمكن لربوت أن يدخل الملكوت إلا بقدر أن تدخله بندقية أو دبابة.
فالجنجويد حقيقة هم عبارة عن قوات متوحشة لا عقيدة ولا واعز ديني أو رادع أخلاقي لها، شكلتها الحكومة المركزية من بعض المرتزقة الأجانب وجندت لها أفراد من القبائل العربية للصراع ضد القبائل الدارفورية غير العربية المتمردة مستغلة حاجتها لتأمين المال والمرعى وأماكن الإقامة لأسرها نتيجة قلة الموارد الغذائية والمائية في بيئتها الأصلية.
استطاع الكاتب ربطنا بميتافزيقية المكان وسحره وقسوة واقع الحرب المجنونة وتضاريسها الوعرة من خلال مسارات متعددة منها الانتقام والثأر كما في حالة عبد الرحمن التي تم اغتصابها وهي دون السادسة عشر ومنها التوهان واللا هدف مثل حالة إبراهيم الخضر وشكيري كوكو اللذان اسرا قبل أن ينضما إلى حركة التمرد (طورابورا) التي يقودها القائد "شارون"، ويتمكنا من الهرب ويعود إبراهيم لأحدى معسكرات الجيش وبدلاً من إعادته لأهله يتم إرساله لمحاورة مسيح دارفور بحكم كونه مثقف جمهوري الفكر، وكذلك المسار يمثله مسيح دارفور المتسامح إلا ضد الجنجويد.
الأسماء داخل الرواية تحمل مغازي ورمزية أختيرت بعناية من بين أكثر الأسماء انتشاراً في إقليم دارفور حيث يشتهر الدار فوريين بالتسمي بأسماء الأنبياء مثل آدم وموسى واسحاق .. ربما عدا اسم "شارون" هو الغريب والكاتب قصد ذلك ليحمله لشخصية هي فعلاً غريبة عن المكان والزمان، ونجد اسم "مريم" منتشر بشدة في الرواية، فهناك مريم المجدلية أو الحبيبة أم يوسف ومريم أم عيسى ابن الإنسان ولدينا أختها مريم والدة يحيى ومريم جارة أم عيسى ابن الإنسان الملقبة بمريومة وهناك مريم أخت عبد الرحمن الوحيدة التي نجت من أتون الإبادة حيث كانت تحتطب خارج القرية حينما هاجمها الجنجويد.
الرواية تشحنك بالغضب والحزن والكراهية، تملؤك بالإنسانية والحب. تشد أنفاسك من بدايتها إلى نهايتها، مشاعر متعددة تنتابك وانت تطالع صفحاتها، فهي رواية تلخص أكبر أزمة إنسانية في العصر الحديث، لذا فلا غرو من ان تجد اهتمام العالم وان تدرج في ضمن المواد المقررة للتدريس للطلاب في جامعة السوربون، والعديد من الجامعات الأوربية .
الرواية في عموميتها تعبر عن لؤم السلطة البائدة ومكيدتها لأبناء شعبها من خلال مشروعها اللا إنساني. ما ذنب دافور حتى تكون مسرحاً لعبث السلطة على تلك الشاكلة المريرة، بل ما ذنب السودان ليبتلي بمثل تلك السلطة الفاشية. فهم بدلاً من استثمار الامكانيات الهائلة التي حبا الله بها الإقليم، من تنوع وتعدد وثروات أطلقوا فيه يد الجنجويد يعيثون فيه فساداً وقتلاً واغتصاباً.
متى يأت اليوم الذي تضمن فيه مناهجنا الدراسية أعمال أدبية مثل الجنقو مسامير الأرض ومسيح دارفور وموسم الهجرة إلى الشمال بدلاً عن حجبهم، متى يأت اليوم الذي يكون فيه للمثقف الكلمة العليا في السودان بدلاً عن محاربته وتشريده. متى يمكننا أن نصيح بملء أفئدتنا هذا وطن الخليل والطيب صالح ومحمد وردي وعبد العزيز بركة ساكن فهلموا للزود عنه؟ .. متى ؟ متى؟.
عاطف عبد الله
atifgassim@gmail.com

 

آراء