مسيرة جوبا ومستقبل السودان … بقلم: د . احمد خير / واشنطن

 


 

د. أحمد خير
15 June, 2010

 

 

نتناول هنا مسيرة جوبا التى تمثلت فى خروج شباب الجنوب منادين بالتصويت لإنفصال جنوب السودان فى الإستفتاء القادم فى عام 2011 . وهذه المسيرة قد تقرر لها أن تتواصل فى التاسع من كل شهر إلى موعد الإستفتاء القادم . وهذا ما يدفعنا لأن نتساءل: هل مايحدث فى الجنوب من حراك فى الوقت الراهن هو أمر طبيعى مهدت له الظروف التى خلقها واقع سياسات نظام الخرطوم ، أم أنها مفاجأة لم يكن يتوقعها الحزب الحاكم فى السودان!؟

مع الأخذ بنظرية أن لكل فعل رد فعل مساو له ومضاد له فى الإتجاه ، ماهى إذن الأفعال التى قام بها النظام لتفعيل واقع الجنوب لتكون الوحدة جاذبة لأهله  فيتمسكوا بها !؟

أن أهل الجنوب ليسوا بمعزل عن بقية أهل السودان ، وهم أدرى بمايحدث فى المركز. فماذا يحدث فى المركز ليشجعهم للإرتباط به !؟ قبل أن أجيب على ذلك من الواجب علىّ أن أوضح بأننى من المنادين بالسودان الواحد بشماله وجنوبه وبكل جزئياته شرقاً وغرباً . فالوطن الواحد المتماسك المتكامل يستمد عناصر وحدته وتماسكه وتكامله من شعور الجميع بالإرتباط بالأرض وحاجتهم للعمل معاً للسير قدماً نحو غد يسعد فيه الجميع تحت مظلة السلام والأمن والطمأنينة . وإذا تلمسنا واقع مايحدث قياساً بتلك المظلات ( السلام والأمن والطمأنينة ) فماذا سيتكشف لنا !؟

هل هناك سلاماً فى السودان !؟ إذا نظرنا إلى واقعنا ، سنجد أن السلاح هو اللغة المشتركة فى جميع أنحاء البلاد ! فالسلطة فى نظرى بتفاخرها المستمر بأنها قد إستولت على السلطة بالقوة شجع القوى الأخرى لحمل السلاح إلى  أن أصبحت لغة البارود هى اللغة المشتركة فى السودان ! فبدون أن ندفن رؤوسنا فى الرمال كالنعام ، علي السلطة أن تعترف بفشلها فى إحلال السلام فى ربوع البلاد . ثم عليها أن تخرج إلى العلن معلنة ضعفها وعدم مقدرتها على إدارة دفة الحكم فى البلاد . المكابرة والإستمرار فى الخطأ لن يوصلنا إلا إلى الهلاك . ليس الجنوب وحده سيصوت للإنفصال ، بل ستتبعه مناطق أخرى . وإن كانت السلطة واضعة فى إعتبارها بأن إنفصال الجنوب سيقلص المساحة الجغرافية وأن ذلك سيسهل عليها التحكم فى الأقاليم الشمالية بطرق عبدتها وكبارى علقتها ونقاط تفتيش أقامتها ، فهى بذلك تكون واهمة ، وبالتالى عليها إعادة النظر فى خططها ومشاريعها المستقبلية قبل أن يجيئها الطوفان من حيث لاتدرى .

أن قيام دولة فى جنوب البلاد لن يعتبر بأية حال من الأحوال إنفصال الجغرافيا فحسب ، فالتاريخ الذى لم تجرؤ النخبة " سوى أقلية " من دراسته وإخراجه للعلن ، لازال يحمله أبناء الجنوب معهم أينما إستقر بهم المقام ، وسيظل الحائل المانع للتواصل بشأن إعادة النظر فى هيكلة الوضع ليعود السودان بوحدته الجغرافية بتغيرات طفيفة هنا وهناك ! فالتاريخ الذى تحاول الإنقاذ أن تغير فيه أو تمحيه برغم مرور عقدين ونيف عليه ، لازال يؤرقها ويقيدها من المعصم  . فالسودانى سواء كان فى الشمال أو الجنوب أو الغرب أو الشرق لن ينسى بدايات  " دولة الخلافة الجديدة فى السودان " التى أتت بمشروعها الحضارى ! ذلك المشروع المتسرع الذى قام بدون أنياب غير أنياب الأمن والتسلط ، ليعود بالسودان إلى ماقبل التاريخ ! لقد حاولت الإنقاذ تقديم مشروعها الحضارى بأسلوب لايمت للحضارة فى شئ ! أية حضارة تلك التى قامت على تكميم الأفواه ليس من أجل منعها فحسب من التفوه بكلمات تعبر بها عن ما أصابها من بؤس وشقاء ، بل تكميمها كى لاتدخل اللقمة إلى حلقها بعد أن شحت اللقمة وأصبح السودانى يتضور جوعاً فى بلد كان مقدرله أن يكون سلة غذاء الشرق الأوسط !

لقد نبهنا من قبل بأن الضغط على المهنيين سيضطرهم إلى مغادرة البلاد ، وبذا سيكون السودان فى حالة مصدر للكفاءات بطريقة لاإرادية إلى أن يصل الحال إلى نقطة تصفى فيها الكفاءات ولايبقى للدولة غير الطالح الذى لافائدة منه ، عندها ستكون الإنقاذ بحق قد حققت مشروعها اللاحضارى الذى سيكون مسخاً إذا ماقورن بمشاريع الأمم !

قرأت مؤخراً أن السلطات فى الخرطوم قد قررت وهى تحاصر الأطباء بأنها لن تمنحهم تأشيرات خروج  إن حاولوا الفرار من قوانينها ! هذا يمكن أن تقوله دولة " معلومة الحدود " وأقول معلومة الحدود لأن سودان اليوم  لايعرف له حدود ، حتى المكتوب منه على الورق والذى تظن السلطة أنه موثق قد تنازلت عنه كرها أو عن طيب خاطر  لدول الجوار ثمناً لأمنها الذى تعتقد بأنه سيأتيها من وراء الحدود ! عليه ، من الأفضل للسلطة فى الخرطوم أن تتصالح مع نفسها أولاً ثم مع هذا الشعب المغلوب على أمره . أن التمادى فى الغى والصلف بدون مبرر لن يؤدى إلا إلى التهلكة . فإذا كانت السلطة فى الخرطوم قد غلبتها الحيلة ، فعليها أن تعود إلى رشدها وتمد يدها للنخبة فى السودان ليكون الأمر شورى بينهم كما ينص شرع الله ، وليس فى إعتقادى أن ذلك سينقص من قدر الحاكم ، بل بالعكس ، إذا فعل ذلك سيجد ان الحال بين عشية وضحاها قد إنقلب إلى خلية تبحث فى الشأن السودانى الداخلى والخارجى بغرض إيجاد الحلول وقبل فوات الأوان .

ليكن فى علم السلطة أنه مهما كثفت من عملها فى الجنوب فإنها لن تتمكن بأية حال من الأحوال فى تغيير خطاب الإنفصال الذى يقف من ورائه شباب الجنوب من الذين ينظرون إلى أن مستقبلهم لابد وأن يتغير إلى الأفضل إذا ما أقاموا دولتهم  بعيداً عن الكيان الحالى الغير منصف لهم . هذا الإحساس قد تولد لديهم من تراكمات الماضى التى لم نعرها اهتماماً طوال تاريخناً !

ماذا ستقول السلطة لأبناء الجنوب إذا ما سئلت عما يحدث فى الشمال من تعسف ضد الأطباء وفقر ومرض وتدهور فى جميع مناحى الحياة !؟ هل هناك إجابات جاهزة لانعلم بها !؟ هل ستقول لهم أن شعار " كبارى وسد " قد أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف !؟ وإذا سئلت عن أسباب سوء الأحوال فى الجنوب برغم من إتفاق السلام وماكان يجب على السلطة أن تعمله طوال الأعوام الماضية لتكون الوحدة جاذبة ، فلماذا لم يتحقق ذلك الجذب !؟ أخالها ستلقى اللوم على حكومة الجنوب بقولها أنها هى التى نهبت الأموال ولم تنفقها على مشاريع التنمية ! وإن حدث ذلك ، أين كانت الحكومة المركزية !؟

ياسادتى ، ماهكذا تكون السياسة وماهكذا يدار قطر بإتساع قارة ! فمتى سيعاد النظر فى مشاريعكم التى لم تحقق للمواطن لقمة العيش ، ناهيك عن رفاهيتة !؟ متى ستعلم السلطة بأن الإرتكاز على الأمن لإخضاع المواطن لن يؤدى إلا إلى طريق مسدود !؟ طريق نهايته معروفة لكم ولكل من قرأ تاريخ الأمم ! 

قلنا لن يستمر الوضع مع إنعدام السلام والأمن والطمأنينة . وعندما نقول الأمن نعنى به هنا أمن المواطن بحماية حقوقه ، ومنها حق العيش الكريم وحق المسكن والملبس ، وليس أمنا لحماية النظام تحت مظلة القهر وسلب الإرادة !

ثم كيف يطمئن المواطن على حياته وحياة أسرته إن كان يعانى من جراء كابوس حالة الطوارئ الذى يحرم المواطن من أبسط حقوقه وهو حق التعبير! ولنا أن نذكر هنا بما عبر به الشاعرخليل مطران مخاطبا ًمن رفعوا سيوفهم فى وجه العدالة قائلاً:

شردوا أخيارها بحــرا وبـرا       وإقتلـوا أحرارها حـرا فحـرا

إنما الصالح يبـقى صـالحـــا       آخر الدهر ويبقى الشر شـرا

كسـروا الأقلام هل تكسيرها       يمنع الأيدى أن تنقش صخرا؟

قطعـوا الأيـدى هل تقطيعـها       يمنع الأعين أن تنظـر شـزرا؟

إطفئوا الأعين هـل إطفـاؤها       يمنع الأنفاس أن تخرج زفرا؟

إخمدوا الأنفاس هذا جهدكم        وبـه منجـاتنـا منـكم فشــــكرا

Ahmed Kheir [aikheir@yahoo.com]

 

آراء